إلهامات تربوية من إيطاليا

إلهامات تربوية من إيطاليا
الرابط المختصر

 

 

من شمال ايطاليا، يسطع إنجازٌ تربوي حققه الآباء والمواطنون لرعاية الأطفال، منذ أكثر من ثلاثين عاماً مضت وحتى اليوم، بوصفه نقطة مرجعية للتربية الحديثة في الولايات المتحدة وأوروبا.

 

مدنية ريجيو ايميليا الصغيرة تمثل قصة نجاح عبر تحويل وضعٍ صعبٍ إلى نموذج إنسانيّ خلاّق، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، حين قامت مجموعة من النساء في قرية فيلا سيلا بالقرب من المدينة، ببناء أوّل مدرسةٍ من مالٍ جمعنه لقاء بيع دبابة وشاحنة وبعض الخيول التي تركها الجيش الألماني وراءه على إثر هزيمته وانسحابه.

 

حاول الرجال تأسيس مسرحٍ، بينما عارضت النساء ذلك، واقترحن بناء مدرسة للأطفال، وكان لهن ما أردن. أثار المشروع حماسة الشباب المهتمين فسارعوا للمساعدة، وعلى رأسهم معلم يدعى لوريس مالاجوزي، فكانت تلك المدرسة بداية الأمل، بانتشال أطفالهم من الدمار النفسي والاجتماعي الذي لحق بهم جراء الحرب، من خلال إيجاد بيئة سليمة وثرية بمدرسة متخصصة بالطفولة المبكرة.

 

جنى أهل القرية أموالاً من تلك المدرسة الأولى، فسارعوا إلى تشييد مدارس أخرى، وأصبحت في أواخر الستينيات جزءاً من الجهاز التعليمي التابع للبلديّة التي تمثّل السلطة المحليّة.
استندت تجربة ريجيو ايميليا إلى ثلاثة مناظير متماسكة هي: التربية التقدمية، وعلم النفس البنائي، وسياسات الإصلاح اليسارية التي ظهرت في إيطاليا بعد الحرب، حيث شكلت التربية هناك نشاطاً مجتمعياً ومشاركة ثقافية من خلال الاكتشاف المشترك بين الأطفال والراشدين الذين يشتركون في التأمل والمناقشة، وهذا المنهج يعد طريقة جديدة للتفكير في طبيعة الطفل ودور المعلم والمدرسة والإدارة ما يميز أسلوب ريجيو ايميليا. يتعلم الأطفال في القاعات الدراسية عن طريق العمل في مجموعات أو أزواج، بالإضافة للأعمال الفردية، وفي مناهجهم التعليمية يمارسون مهارات التفكير الإبداعية مثل التفكير الناقد عن طريق عرض الرسومات أو المقاطع التمثيلية التي يقومون بها، ثم تتم مناقشتها من قبل الأطفال مع المعلم من أجل بناء المعرفة الاجتماعية بدلاً من تقديمها بشكل مباشر للطفل.

 

التعلم يقوم على التشجيع الدائم من دون ضغط، وعرض الأفكار مع الإنصات الكامل واحترام آراء الآخرين، كما تبني ريجيو إميليا تعليمها على أساس إعطاء الأطفال حريتهم لبناء المعرفة وتوسيع مداركهم عن طريق العمل الفني في المجموعة، وهو لا يلغي الفروقات الفردية أبدًا بل يؤكد عليها، فيتم تحفيز الأطفال على المناقشة والاعتراض والتعامل مع مشاكلهم بأنفسهم في إطار المجموعة.

 

نظام يخلق نوعًا من التواصل بين الصغار والبالغين، ويكتسب الأطفال إحساسًا كبيرًا بتاريخهم وتراثهم والتقاليد الثقافية لمجتمعهم، ويمدهم بنظرة هي امتداد لنظرة البالغين إلى الحياة والمستقبل المقبل.

 

نناضل اليوم من أجل إيجاد سياقٍ إنساني أفضل لتعليم أبنائنا، ووضع مناهج تعليمية إنسانيّة تحمل قيم فكرية مستنيرة، لذا ينبغي الاستفادة من النماذج الناجحة، ومنها تحويل "ريجيو إميليا" إلى نظام تعليمي عربي، وهذا  يتطلب الإيمان بأهمية الطفل وحاجاته الاجتماعية والأكاديمية للتعلم، والعمل بإخلاص للنهوض به، واكتساب النظرة المشرقة للحياة قبل أن نتعامل مع الأطفال لنتمكن من إقناعهم بأن الحياة جميلة وتستحق المغامرة، وسبل الاكتشاف متاحة دائمًا.
⊗في عام 1991 أوردت مجلة نيوزويك تقريراً يفيد بأنّ المدارس الأعضاء في مركز ريجيو اميليا هي أفضل مدارس لتعليم الأطفال في العالم، كما حازت على جوائز عالمية عدّة لتميّزها، وما زالت تحتل مراكز متقدمة، وتعتبر مزارات مهمة وذات قيمة للعديد من الباحثين والمهتمين.

 

أسيل الشوارب: أستاذ مشارك في قسم العلوم التربوية/ جامعة البتراء. قدّمت عشرات الأبحاث والأوراق العلمية، ومنها: تصورات الوالدين حول الممارسات الملائمة نمائياً في رياض الأطفال، تصورات “الطلبة المعلمين في تخصص معلم الصف” حول التعلم والتعليم.

أضف تعليقك