إعادة هيكلة القطاع العام.. وتعميم العمالة الفقيرة

إعادة هيكلة القطاع العام.. وتعميم العمالة الفقيرة

أثارت قضية إعادة هيكلة القطاع العام العديد من التساؤلات حول جدوى تطبيقها وانعكاسها على أداء الحكومة، وتصويب الاختلالات في أداء المؤسسات الحكومية، وتحقيق العدالة بين موظفي القطاع العام، ومدى تأثير ذلك على واقع المالية العامة للدولة من جهة، والمستوى المعيشي للعاملين في القطاع العام من جهة أخرى.

ويمكن القول إن الحكومة اختارت مدخلا غير اجتماعي لحل مشكلة تفاوت الأجور والمنافع بين موظفي القطاع العام، بنوعيهم من العاملين في القطاع الحكومي مباشرة والعاملين في المؤسسات المستقلة والشركات الحكومية من جهة أخرى.

ومن شأن هذا المدخل أن يعمل على توسيع ظاهرة العمالة الفقيرة واسعة الانتشار في الأردن. إذ وفقا للبيانات الإحصائية التي توفرها المؤسسات الرسمية ذات العلاقة، فإن معدلات الأجور في القطاع العام تبلغ 324 ديناراً. وحقيقة لا نعلم إن كان هذا الرقم ينسحب على العاملين في المؤسسات المستقلة والشركات الحكومية أم لا، ولكن حتى وإن كان ينطبق، فإن ذات المؤشرات تبين أن معدل الأجور في القطاع الخاص يبلغ 401 دينار شهري.

ومن دون الخوض في تحليل تفصيلي لخطة الحكومة، والذي لا يمكن إجراؤه إلا عندما تتوفر كامل البيانات والمعلومات، والتي نأمل أن تصبح متاحة قريبا، فإن خطة الحكومة لم تعالج مشكلة تراجع الأجور والرواتب والمنافع الأخرى التي يعاني منها مجمل العاملين في القطاع العام بشكل ملموس، إذ إنها بنيت على فرضية أن جميع العاملين في المؤسسات المستقلة والشركات الحكومية يحصلون على أجور ومنافع عالية.

والنتيجة التي حصلنا عليها بعد مراجعة لعدد محدود من أجور بعض هذه المؤسسات، أن هذه المعدلات تتراوح ما بين 600 و700 دينار شهريا، مع وجود رواتب تبلغ 300 دينار، وأجور عالية جدا هي لموظفي الصف الأول في هذه المؤسسات المستقلة والشركات الحكومية، ورواتبهم بالمناسبة هي التي رفعت معدلات الأجور، وهي ناجمة عن جملة من التنفيعات للعديد من الشخصيات وأبنائهم وأقاربهم.

وإذا ما استثنيا هذه الفئة وأجور من فيها ومنافعهم، يتبين لنا أن رواتب غالبية موظفي هذه المؤسسات والشركات تتراوح حول معدلات الأجور المنخفضة والمعلن عنها من قبل المؤسسات الرسمية.

وعادة لا تعكس معدلات الأجور الواقع الحقيقي لها، لذلك يتم الاعتماد على شرائح الأجور، التي تعطي صورة أوضح عن واقعها المتواضع في الأردن. فالأرقام الرسمية المتاحة تشير إلى أن 27 % من العاملين والمنتسبين للضمان الاجتماعي تبلغ أجورهم الشهرية 200 دينار فأقل، و56 % تبلغ أجورهم الشهرية 300 دينار فأقل، وكذلك 78 % تبلغ أجورهم الشهرية 400 دينار فأقل.

وهذه الأرقام ليست بعيدة كثيرا عن أرقام العاملين في المؤسسات المستقلة والشركات الحكومية، باستثناء الشريحة الأولى التي تقل عن 200 دينار شهريا، حيث لا توجد في هذه المؤسسات.

وهذه الأرقام تأخذ دلالة أكبر عندما نعلم أن خط الفقر المطلق (الغذائي وغير الغذائي) للأسرة المعيارية البالغة في الأردن 6 أفراد، يبلغ 323 ديناراً، بمعنى أن الأسرة التي لا تستطيع أن تنفق هذا المبلغ تكون مصنفة ضمن الفقراء في الأردن.

فالمشكلة في الأردن ليست في ارتفاع أجور ومنافع العاملين في المؤسسات المستقلة والشركات الحكومية، بل في انخفاض معدلات الأجور والمنافع والامتيازات بشكل عام لكافة العاملين بأجر في الأردن، وخاصة العاملين في القطاع العام. وكان الأولى بالحكومة أن تعمل على رفع معدلات الأجور بشكل ملموس للعاملين في القطاع الحكومي ليصل إلى معدل أجور العاملين في المؤسسات المستقلة والشركات الحكومية، وليس تخفيض أجور ومنافع العاملين في المؤسسات المستقلة والشركات الحكومية لتحقيق شعار العدالة الذي تنادي به، لأن من شأن هذا النوع من العدالة (عدالة تعميم الفقر) أن يفاقم أكثر الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية في الأردن.

هذا في جانب سياسات الأجور ومشكلاتها في الأردن، أما من جانب تأثيرات تخفيض الأجور والمنافع الأخرى، فإن من شأن تطبيق الخطة أن يخلق مشكلات لعشرات الآلاف من الموظفين الحاصلين على قروض، والذين رسموا مسارات حياتهم على مستويات هذه الأجور والمنافع والامتيازات. ويعلم الجميع أن الغالبية الساحقة من الموظفين إن لم يكن جميعهم، حاصلون على قروض، ملتزمون بتسديدها.

كذلك، فإن المبررات التي ساقتها الحكومة لتبرير استثناء بعض المؤسسات غير مقنعة لآلاف من العاملين في المؤسسات والشركات الأخرى. وهذا الأمر ما يزال غامضا حتى اللحظة، فالعديد من المؤسسات والشركات تم إبلاغها أنها مستثناة، ولكن لا يوجد بلاغ رسمي بذلك، وفهمت من باب الكيل بمكيالين.

ثم إن هنالك منافع وامتيازات حققها العاملون في العديد من الشركات الحكومية وفق نصوص قانون العمل الذي يتعامل مع حقوقهم باعتبارها حقوقا مكتسبة، حصلوا عليها في إطار اتفاقيات جماعية، ويمكن أن يكون للقضاء في هذا الأمر رأي.

الخلاصة، إن إصلاح القطاع العام لا يمكن أن يتم بطريقة تعميم العمالة الفقيرة على الجميع، بل من خلال إعادة النظر بشكل جذري في أوضاع عاملي القطاع العام، ورفع أجور ومنافع وامتيازات جميع العاملين لتنعكس إيجابا على مستوياتهم المعيشية، والعمل على زيادة إنتاجيتهم بشكل ملموس.

*مدير مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية والمعلوماتية.

الغد

أضف تعليقك