باتت إشكالية العلاقة بين الديني والسياسي تفرض نفسها، اليوم، بقوة على ساحة الحوار الدائر لتبرير النزاعات الطائفية والمذهبية، مع تغول دور الدين في الحياة السياسية وحضور الطوائف والمِلل، واندفاع بعضها إلى تشريع العنف واستخدام حد السيف لفرض رؤيته الخاصة على الناس أجمعين، وتزامن ذلك مع سقوط أنظمة كانت تمنع الحريات العامة والسياسية، مقابل الاستبداد والفساد، وقد ظهرت دعوات كثيرة تنادي بضرورة الإصلاح السياسي، كما ظهرت دعوات تنادي بأولوية الإصلاح الديني، وذلك أن الثقافة المجتمعية تتأثر بالوعي الديني قبل السياسي، كما أن هناك ترابطاً وثيقاً وتاريخياً بين السلطتين السياسية والدينية، فضلاً عن أن الدولة الإسلامية تشكلت على أسس دينية، واستمرت تأخذ شرعيتها منها.
يبدو أن علاقة الديني بالسياسي علاقة جدلية مستمرة، لا يمكن لأحدهما الانفصال عن الآخر، رغم محاولات الفصل، حتى أن النظم العربية كلها على اختلافها قد احتمت بالدين في يوم من الأيام، واستغلته أيضاً لتبرير وجودها، وسوّغت بعض فسادها وظلمها بفتاوى علماء الدين، في الحاكمية والخلافة وولاة الأمر ووجوب طاعتهم، ومن هنا فإن الحديث عن الإصلاح السياسي في الدول العربية والإسلامية لابدّ أن يأخذ باعتباره قضايا الإصلاح الديني للتخلص من العقلية التقليدية التي لا تتقبل بسهولة ممارسة الديمقراطية والحريات السياسية، كما أنها لا تجد في أدبيات الإسلام المختصة بالتشريعات الفقهية حديثاً صريحاً وواضحاً عن مفاهيم الحرية والعدالة ومؤسسات المجتمع المدني، والحقوق المدنية بشكل عام، ومن هنا تظهر حاجة ماسة لكسر الجمود والتقليد ونشر العقلانية في طرائق التفكير وتمكين الدين من تقديم إجابات واضحة على أزمات الواقع وأسئلته الملحة التي تتناسب مع منطق العصر واحتياجاته.
في المقابل، فإن الدعوة لأولوية الإصلاح الديني تصطدم بجدر الفساد السياسي الذي يغذيها، إذ أدرك كثير من المصلحين أن الإصلاح السياسي ضرورة تسبق الإصلاح الديني، فقد نادى رفاعة الطهطاوي بالحريات المدنية وربط تقدم المجتمع بالسير على النهج الغربي، مؤكداً أنه ليس هناك "فروق كبيرة بين الشرائع الإسلامية ومبادئ القانون التي ترتكز عليها قوانين أوروبا الحديثة"، كما أن محمد عبده قد طور أفكاره وأسلوبه التربوي عندما ربط فساد الأوضاع السياسية بسبب رئيس "هو فساد تربية الحاكم والمحكوم معاً"، واعتبر "إصلاح التربية الإسلامية طريقاً إلى إصلاح الأوضاع السياسية"، وقال بأكثر من ذلك حين رأى أن الطريق للإصلاح الديني بات مسدوداً، وعلينا تبني الإصلاح السياسي، ودعا "إلى الأخذ بأسباب الحضارة الغربية من وجهة نظر ليبرالية" ثم دفع موقفه خطوة أخرى إلى الأمام حين اعتبر أن الخلل في السياسة هو أصل كل فساد، بينما كان موقف رشيد رضا أكثر وضوحاً، حين رأى أن: "الديموقراطية والجمعيات السياسية والدينية والخيرية والعلمية هي السبب الأول والعلة الأولى لكل ارتقاء، بها صلحت العقائد والأخلاق في أوروبا، وبها صلحت الحكومات وبها عزت وعظمت قوتها وبها فاضت ينابيع ثروتها وبها انتشر دينها بين الخافقين".
وتبعاً لاختلاف وجهات النظر في أولويات الإصلاح عاش الإسلام السياسي في حالة من التعثر والخلاف بين دعاة العلمانية والمدنية ودعاة إحياء الخلافة الإسلامية وحكم الله على الأرض، أو لنقل بين ما قدمه رواد الإصلاح الديني في مطلع القرن الماضي مثل الطهطاوي والأفغاني والكواكبي ومحمد عبده ورشيد رضا ودعاة الحاكمية لله على الأرض ومجتمع الخلافة ونصرة الدين الإسلامي بحد السيف مثل سيد قطب وأبي الأعلى المودودي، ومن سار على طريقهم من الأحزاب والحركات مع اختلاف في التكتيكات المرحلية والعارضة، وعاشت أفكار الدعوة بالكلمة وإصلاح الأخلاق والقيم، جنباً إلى جنب مع أفكار التحريض والحض على القتال والجهاد لبناء دولة الإسلام، وبقي هذان التياران يعيشان بين مد وجزر من انتصار هذه وهزيمة تلك، وذلك انسجاماً مع الشروط المادية الملموسة في مرحلة تاريخية معينة، وما قدمته الظروف لكل طرف على الآخر.
ظهرت في السنوات الأخيرة دعوة لتدعيم العلاقة بين السياسي والديني، نتيجة ظروف موضوعية راهنة ومستجدة، بل ربما يكون نوعاً من الاحتجاج السياسي الذي يتدثر بلبوس الدين على الوضع القائم والمتردي، فقد تحطمت الآمال المرجوة بتطور اجتماعي واقتصادي في البلدان العربية التي كانت أنظمتها تعد بمزيد من التقدم والرفاه، وعلى العكس أصبح العيش أصعب نتيجة تردي الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وكان ذلك سبباً في اندفاع الناس للبحث عن ملاذ أكثر أمنا، فكان الدين ملاذاً روحياً يسكن الآلام ويخفف من المعاناة، كما أنه يشكل في وعيهم الوقاية من شر السقوط في مستنقع الفساد والانحلال الأخلاقي، ومن الأسباب المهمة في تعميق ظاهرة العودة إلى الدين بمفهومه التراثي سيادة ظاهرة العولمة وما حملته من قيم وسلوكات لا تتفق مع القيم والأخلاق الدينية، بالإضافة للهزائم التي مني بها الاتجاهين القومي والشيوعي، حين عجز الأول عن تجاوز حالة التجزئة العربية وفشل في التوصل إلى حل عادل للصراع العربي الإسرائيلي، وبانطفاء بريق الثاني مع سقوط النظام الشيوعي السوفياتي.
ولم تزل العلاقة بين الديني والسياسي تسيطر على المشهد، وإن تعرضت لانحسار أو مد في بعض الأحيان، لكننا لا نستطيع الفصل أو تبني أي من الخيارات الإصلاحية لنعطيه الأولية، لأن هناك جدلية غير قابلة للاختراق ويبقى على المصلحين البحث عن محركات هذه العلاقة من أجل الدخول في مرحلة جديدة تدفع نحو التطور والتحديث والشروط الأفضل لجوانب الحياة كافة.
يوسف ربابعة: كاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.