أوهام وأساطير حول موجة اللجوء إلى أوروبا

أوهام وأساطير حول موجة اللجوء إلى أوروبا

 

لأول مرة، ومنذ زمن بعيد تجد أنصار النظام السوري وأعدائه، بل ومعظم الفاعلين في الرأي العام العربي، متفقين على مسألة واحدة، وهي التشكيك في نوايا أوروبا في مسألة استقبال موجة اللجوء السوري الأخيرة، وينصب التشكيك خصوصاً على الموقف الألماني. التشكيك بالنوايا يجعل معظم المراقبين يفشلون في معايشة "الاندهاش" الضروري في القياس العلمي، خصوصاً أن الظاهرة مدهشة بالفعل، مثلها مثل المسيرة الصينية الطويلة، أو مثل الهجرة الأوروبية نحو أمريكا، فنحن هنا أمام واحدة من أضخم الهجرات في التاريخ، ويوماً ما سيدرس أبناء المنطقة، أو من تبقى منهم، تفاصيل هذه الرحلة العظيمة ومراحلها البرية والبحرية وتداخلاتها السياسية والجغرافية والبشرية، وبطولاتها ونكباتها، بل وقد يتم تخليد الطفل إيلان عبر فيلم مماثل لفيلم "تايتانك" الذي كان يصوّر مأساة فردية على هامش الهجرة الأوروبية الضخمة إلى القارة الجديدة.

 

نعود إلى الذهنية العربية، التي عجزت كلياً عن استيعاب هذا اللجوء الواسع، ففي تفسيرها الأسطوري لهذه الظاهرة لجأت هذه الذهنية إلى مجموعة فرضيات بعضها يناقض بعضه الآخر، رافضة الإقرار بالحقيقة البسيطة ومفادها أن تعامل الأوروبيين مع هذه الموجة الأخيرة شهد انقساماً حاداً كان دافعه الخلاف حول الاعتبارات الإنسانية من ناحية، والمخاوف من عدم تناسب اللاجئين الجدد مع القيم والمفاهيم والحضارة الأوروبية من ناحية أخرى.

 

أنصار النظام السوري لجؤوا بالطبع إلى المفردة المفضلة لديهم؛ مؤامرة تنفذها المعارضة لتفريغ سوريا! شاركهم هذه المرة أعداء النظام في المصطلح نفسه: مؤامرة ينفذها النظام لتفريغ مناطق من سكانها السنة وملئها بشيعة مستوردين! الحقيقة التي يرويها كل اللاجئين تقول إن النظام والمعارضة كلاهما يتحمل مسؤولية الهجرة الأخيرة، وما قبلها، وإن كان قصف النظام هو السبب الأكبر. لماذا اليوم بالذات؟ لأن السوريين فقدوا الأمل في نجاح جهود السلام التي انطلقت قبل أسابيع، ولأن من يفكرون في اللجوء يريدون استغلال فرصة الصيف واستباق الظروف الجوية الخطرة التي تسود المتوسط خلال الشتاء، ولأن كثيراً من السوريين المقيمين في تركيا استهلكوا مدخراتهم ولم يعودوا قادرين على إعالة أنفسهم بعد التضييق على اللاجئين السوريين من قبل السلطات التركية وتعرض من يعملون منهم للاستغلال بالعمل لفترات طويلة وبأجور أقل بكثير من نظرائهم الأتراك. عامل آخر يحمل الكثير من الطرافة السوداء هو قيام المهربين بتقديم تخفيضات كبيرة على الأسعار، بفعل المنافسة! بعد أن كانت الرحلة تكلف أكثر من 10 آلاف يورو للوصول إلى ألمانيا أو السويد أصبحت اليوم تكلف أقل من 2000 يورو!

 

يضاف فوق ذلك كله أن حوالي ثلث المشاركين في هذه المسيرة العملاقة هم من غير السوريين، وبالذات من العراقيين والأفغان.

 

الذهنية المتشككة قدمت تفسيراً آخر بالغ الطرافة، مفاده أن ألمانيا ودول شمال أوروبا تحتاج إلى الشباب بسبب "عجوزيتها"، وأنها تستغل اللاجئين الشباب في العمل لصالح الشركات الألمانية التي لا تجد موظفين. الواقع يقول أن الألمان مثلاً لو أرادوا معالجة مسألة الخلل العمري لاستعانوا بالشباب الإسباني أو الإيطالي أو اليوناني أو الشرق أوروبي، الذي يعاني من البطالة أصلاً، وبالتالي يكون هناك تجانس مجتمعي أكبر مقارنة مع اللاجئين القادمين من سوريا والعراق وأفغانستان. تشير كل الإحصائيات الموثوقة أن اللاجئين إلى ألمانيا والسويد وشمال أوروبا خلال الأعوام العشرين الأخيرة كانوا أكثر اعتماداً على المساعدات الاجتماعية من نظرائهم الأوروبيين، وكانت نسبة البطالة بينهم أعلى. ومنذ بدء اللجوء السوري وحتى الآن كانت نسب العمل بين اللاجئين منخفضة كثيراً، لأن الحصول على فرصة عمل يحتاج إلى مستوى معين من إتقان اللغة أو التأهيل الخاص. وللعلم فإن اللاجئ من سوريا أو من غيرها يحصل على مساعدات مالية واجتماعية وتسهيلات تفوق بكثير ما يحصل عليه مواطنو الاتحاد الأوروبي من جنوب أو شرق أوروبا والذين ينتقلون للعيش في ألمانيا أو السويد أو غيرها. بتعبير آخر، فإن اللاجئين الجدد وحتى سنوات عدّة سيكونون عبئاً على دافع الضرائب الأوروبي، ولن يكونوا مساهمين في سوق العمل، ولن تستفيد منهم الشركات، بل على العكس تقوم الدول بتقديم إغراءات مالية وضريبية للشركات لقبول توظيف لاجئين لديها لمساعدتهم على الاندماج في المجتمع وعدم شعورهم بالإحباط بسبب البطالة.

 

أما التهمة المكررة للأوروبيين وهي العنصرية فإنها صحيحة، لكن مبالغ فيها بشكل كبير، وتتفاوت من دولة إلى أخرى. يكفي هنا أن نعيد التذكير بحقيقة أن الأوروبيين أنفسهم عندما ينتقلون من دولة أوروبية إلى دولة أخرى للإقامة لا يلقون التسهيلات التي يلقاها اللاجئون، فاللاجئين يجدون ترحيباً رسمياً وشعبياً وقانونياً أكبر بكثير مما يلقاه نظيرهم المهاجر الأوروبي.

 

فلنفكر بالاتجاه المعاكس، في الحرب اليوغسلافية استقبلت الدول العربية والإسلامية لاجئين بوسنيين فقط، ولم تستقبل كرواتيين، رغم أن الكروات المسيحيين تعرضوا لتهجير مماثل للذي تعرض له البوسنيون المسلمون. في حروب القرن الأفريقي ومجاعاته استقبلنا لاجئين صوماليين مسلمين، ولم نستقبل أثيوبيين مسيحيين. ثم أن السعودية رفضت استقبال قوارب الصوماليين العابرة للبحر الأحمر، ما دفعهم إلى التوجه إلى شواطئ اليمن، شريكهم في الفقر. اليوم تستقبل دول أوروبية عديدة اللاجئين الذين هم في غالبيتهم الساحقة مسلمين، وهو ما ولد انقساماً حاداً عبّر عنه قادة دولة المجر وكرواتيا بوضوح. وبدلاً من تقدير الضغط الذي تتعرض له دول مثل ألمانيا والنمسا بسبب موقفها فإن عملية التشكيك العربية تصب تماماً في صالح اليمين الأوروبي المعادي للهجرة واللجوء.

 

أسطورة أخرى ظهرت في هذا الصدد، وهي التضخيم الإعلامي العربي لمحاولة بعض الكنائس تنصير عدد من اللاجئين للحصول على الإقامة. هناك حالات حصلت بالفعل، لكنها فردية ومحدودة وتعتبر خارجة عن القانون. اللاجئون السوريون لا يحتاجون أصلاً لفعل أي شيء للحصول على صفة لاجئ. في ألمانيا والسويد ودول أخرى يكفي أن يثبت الشخص هويته السورية بجواز سفر أو بطاقة هوية أو أية وثيقة صالحة، ويحصل بعدها على حق الإقامة وصفة اللاجئ بموجب قرار حكومي سابق في هذه الدول.

 

البعض نحا منحى آخر، وهو تحميل ألمانيا وأوروبا مسؤولية الحرب في سوريا. ربما كان هذا صحيحاً بخصوص بريطانيا وفرنسا، ولكن أي مطلع يعرف أن معظم دول أوروبا، وألمانيا بالذات، لم تكن ضمن أي جهد حقيقي للتصعيد في سوريا، بل إن التصعيد أولاً وأخيراً إقليمي وسوري داخلي. البعض استعان بتاريخ علاقة ألمانيا مع "إسرائيل"، وكأن التعاون الألماني الإسرائيلي هو الذي أنتج الحرب السورية، علماً بأن نشطاء القضية الفلسطينية في أوروبا يعرفون جيداً أن المساحات المتاحة لهم في ألمانيا كانت دائماً أكبر من غيرها من الدول الأوروبية.

 

ختاماً، ليس المقصود هنا الدفاع عن ألمانيا وعن الدول التي قررت استقبال اللاجئين، إنما هي محاولة لفهم الأمور ضمن السياق الصحيح، والاعتراف بحقيقة واضحة لمن لم يلبس نظارة المواقف المسبقة، وهي مدى التفوق الإنساني والحضاري للإنسان الأوروبي مقارنة مع الإنسان العربي. اليوم يتمتع الأوروبيون بالتفوق الإنساني والحضاري، وليس فقط الصناعي والتنموي، والذي كانت منطقتنا تتمتع به قبل قرون، مثلما كان الأوروبيون يعيشون في همجية مشابهة للهمجية التي نعيش فيها اليوم دون أن نجرؤ على الاعتراف بها. الإقرار بذلك لا يعني أبداً الدونية أو الشعور بالنقص، لكنه يأتي ضمن سياق تحديد الواقع لتعديله ومعرفة الضفاف الحقيقية لأي مشروع نهضوي.

 

علاء الفزاع: كاتب أردني مقيم في السويد.

أضف تعليقك