تزايد الاهتمام في العقدين الأخيرين من القرن العشرين بجودة التعليم، ومن المتوقع أن يزداد هذا الاهتمام في المستقبل نظرًا للشكوى العالمية من انخفاض مستواها، وتشير تقارير اليونسكو (2002) إلى أن الدول المتقدمة أكثر شكوى من الدول النامية، وانخفاض مستوى الجودة يتضح في تدني مستوى المنهج التعليمي، وتراجع الاتصال الجيد بين المؤسسات التعليمية والمجتمع.
جاءت معايير ضبط الجودة استجابة لاختلالات كبيرة في العملية التعليمية عانت منها الدول المتقدمة، إذ قامت بوضع ضوابط ومعايير تلزم بها المؤسسات التعليمية، وتفرض تطبيقها من أجل الوصول إلى تعليم أقدر على مواجهة تحديات السوق، وإيجاد جيل متسلح بالمعرفة الكافية لإدخاله في الحياة فردًا منتجًا مشاركًا في متطلبات المجتمع وحاجاته.
تتنافس مؤسساتنا التعليمية هذه الأيام على تطبيق المعايير الدولية للتعليم، وتفرض وزارة التعليم العالي على الجامعات تطبيق هذه المعايير بوصفها العلاج الناجح لما يعانيه التعليم من مشاكل وسلبيات ومعوقات، ويعتقد أصحاب القرار أو بعضهم أن هذه المعايير هي أفضل ما وصل إليه العقل البشري في هذا المجال، لكن المتتبع لمسيرة التعليم في الأردن لا يقر بنجاعة تطبيق مثل هذه المقاييس، فما وصل إليه العالم الغربي أتى ضمن سيرورة موضوعية ألجأته إلى البحث عن قواعد تضبط العملية التعليمية بهدف تحويلها إلى صناعة تشابه الصناعات الأخرى، ونحن نعرف أن مصطلح ضبط الجودة استخدم أولاً في مجال الصناعات والتقنيات، وطموحًا من العالم الغربي في الوصول إلى تعليم له معاييره الخاصة أسوة بباقي القطاعات فقد بادر علماء التربية إلى وضع معايير خاصة بهم.
كما نستورد الصناعة فقد استوردنا معايير ضبط الجودة، ونجتهد في تطبيقها ظنًا منا أنها البلسم الذي يداوي جراحاتنا، وأن الحل للتراجع في مستوى التعليم هو في تطبيق معايير عالمية، ومن المعروف أن معايير الجودة التي أنتجتها الدول الصناعية ما هي إلا نتاج طبيعي لما وصلت إليه في التطور والتقدم، ويسعون لأن يكون التعليم مواكبا للتقدم الحاصل في المجال الصناعي والتجاري، ومتطلبات سوق العمل.
نحن بحاجة إلى مرحلة ما قبل الصناعة، وأعني بها التعليم القائم على الإبداع والتمييز والتفرد، التعليم الذي يوازي الفن والأدب وليس التعليم الذي يوازي الصناعة، والتعليم في العالم المتحضر (كما يقول علي عزت بيجوفتش) يعتمد على الفكر أكثر مما ينبغي والجانب الإنساني فيه أقل مما ينبغي، ونستطيع وصفه بأنه تعليم تقني أكثر مما يجب ويكاد يكون مضمحلاً في جانبه القيمي، وفي هذه الأيام من الممكن جدًا أن تتخيل شابًا قد مر بجميع مراحل التعليم من الابتدائي إلى الجامعة من دون أن يكون قد تعلم أن يكون إنسانًا خيرًا أو أمينًا، فهو يتعلم الكتابة والحساب والطبيعة والسياسة والاجتماع، ويجمع كمًا هائلاً من المعارف والحقائق وطرق التفكير والتحليل، ولكنه لم يستنر ثقافيًا وروحيًا، إننا لم نعد نسمع إلا قليلاً عن برامج التاريخ والفنون الآداب والأخلاق.
ويرى باولو فرايري أن التعليم نوعان؛ التعليم البنكي والتعليم الحواري، والفرق بينهما كبير وعميق، فالتعليم البنكي يقوم على التلقين والتنميط والحفظ، ولا يفتح مجالا للعقل ومواجهة الواقع، وهو ما ينتج جيلاً منسحبًا من ذاته ومفصولاً عنها أيضًا، ولم تعد معه المؤسسات التعليمية قادرة على التأثير الفعال في عقول أبنائها، ولا على تشكيل فكر نقدي لديهم يحميهم من الفكر الواحد، كما يحميهم من الفكر المتسلط، ويحميهم من الخرافة كما يحميهم من الاستسلام لواقعهم، فهم متلقون لكل ما يسمعون من دون نقد أو تمحيص، أما التعليم الحواري فإنه يستنهض كوامن النفس ويجعل الطالب قادراً على المشاركة فيما يتعلمه؛ أي أن المعلومة مشتركة بين الطالب والمدرس، والطالب منتج للمعرفة وليس مستهلكًا لها وبذلك يتفتح عقله ومواهبه، ويمتلك الشجاعة على النقد والبحث والإبداع.
إذا كان العالم الصناعي قد أوجد معايير لضبط الجودة في التعليم بما يناسب أساليب حياتهم، وأنماط تفكيرهم، فإنها عندنا زينة غير ضارة، إذ إن مفهومنا لتلك المعايير ما هو إلا مزيد من تعبئة الأوراق والجداول الكثيرة، التي ربما لا يفهم كثير منا معناها، ثم وبناء على هذه الجداول تُستخرج النتائج، ونشكر على ما قدمنا، وربما تظهر نتائجنا موازية أو تفوق أكفأ جامعات العالم ثم نتغنى بما وصلنا إليه، ولو صدقنا أنفسنا وذهبنا إلى الواقع والميدان لوجدنا أن ما كتبناه في الأوراق لا يتحدث عنا لا من قريب ولا من بعيد، وللأسف فإن ضبط الجودة عندنا يعني أشياء شكلية ثقيلة وغير مقنعة، حتى إن المسؤولين الذين يدعون إلى تطبيق هذه البرامج في ندواتهم ومحاضراتهم هم أنفسهم غير مؤمنين بها، وعندما توجه لهم السؤال وتطلب منهم أن يجيبوا بصدق بعيداً عن الكاميرات فإنهم يبدون عدم قناعتهم، ولكنهم يقولون: هذه تعليمات ولا نستطيع مخالفتها، وهنا وجه الغرابة والدهشة لأننا لا نعرف من الذي يفرض التعليمات؟ ولماذا تفرض؟ ألسنا قادرين على تشخيص دائنا ومعرفة دوائنا؟
يبدو أن هيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي ما هي إلا مؤسسة تمارس الكسل باسم التطوير، وأن القائمين عليها يريدون تبرير وجودهم من خلال ترجمة معايير إلى اللغة العربية من غير دراسة الواقع وإمكانياته، والحاجات الحقيقية للمجتمع، ثم تتسابق الجامعات على تطبيق هذه المعايير على الورق، في عالم افتراضي يمكن رؤيته على (اللاب توب)، ولا يمكن رؤيته في المحاضرات ولا في المناهج ولا في ساحات الجامعات.
يوسف ربابعة: كاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.