أن ننهش لحم الموتى!

أن ننهش لحم الموتى!
الرابط المختصر

يحق لي أن أتساءل، مستنكراً، عن الأرضية التي تنطلق منها تلك "الحمم" الغاضبة والمُجرِّحة لآخرين غالباً لا نعرفهم معرفة حقيقية كأشخاص واقعيين. حمم تتدفق عبر صفحات التواصل الاجتماعي تتبارى في تطرفها وإيذائها. حمم من التعليقات اللئيمة المصبوبة على أُناسٍ ماتوا وما زالت أجسادهم طريّة في قبورها. تعليقات وغَمزات إذا أردنا توصيفها قانونياً، فحتماً ستوضع ضمن مادة "التشهير" والتعرض لـ"الشَّرَف". وإذا أمعنا التفكير بها، نجدها تطاولاً وقحاً دائماً ما يتستر بالدين والتقاليد والقِيَم الاجتماعية - هذا المثلث الذي يُرفَع في وجوهنا ليكون مبرراً لكلّ ما هو، في حقيقة تلك الكتابات المبثوثة على العَلَن، مخالفة صريحة لسماحة الدين وركازة التقاليد وعُمق القِيَم الاجتماعية في أصولها الأولى: مثلث يعني في جوهره إبداء الاحترام للإنسان الميت بعد موته، إذ لم يعد بوسعه الدفاع عن نفسه وردّ الاتهامات المُكالة عليه.

عمّا أكتب الآن؟

أكتب عن انهيار خطير للبنية الأخلاقية داخل المجتمع. أكتب عن مشاهد وشواهد ومظاهر وظواهر لا يمكن تفسيرها إلّا كونها الخروج المفضوح على القاعدة التي تقول بوجوب تلازم المسؤولية الأخلاقية مع إطلاق الحريات. فأنْ تفضي بوجهة نظرك بحرية لا يعني أن تطعن في مسلكيات غيرك حيال أنفسهم بما لا يعنيك مباشرةً، أو يرتبط بك على وجه الخصوص. أو أن تطلق أحكاماً قطعية أقرب إلى الفتاوى الشرعية على خصوصية حياة أشخاص لا تعرف عنهم سوى ما "يُقال"، و"يُشاع"، و"يتناهى إليَّ". فإنْ فعلتَ هذا كلّه؛ فلست سوى صابب الزيت على نار إشاعةٍ استَنَدَت على خبرٍ ما نُشر في موقعٍ ما! خبر تمَّ إعادة إنتاج عناصر حكايته فجاء وفق رؤية مَن "حرره"، وموقعٍ إعلامي يلهث لتجميع أكبر عدد من المتصفحين في ما يعتقد بأنَّ "التنافس" يبيح له اللجوء إلى أيّ وسيلة، حتّى وإنْ جافت المصداقية!

قضية واحدة أكتفي بالإشارة لها في هذه المقالة، تفضح ذاك الانهيار للبنية الأخلاقية داخل المجتمع.

إعلامي لبناني يعمل في إحدى الإذاعات المحلية وجِد مقتولاً خنقاً في شقته، بعد تعرضه للضرب المبرح! هذا خبر مثير طبعاً. ولأنه كذلك جرى تناوله في المواقع، وكان من أحدها أن أشار، في ما يقارب الغمز الصريح، إلى أنَّ ثمّة "علاقة ما خاصة" كانت تربط الإعلامي اللبناني/ الضحية بأحد المتهمين! و"المحرر" في ذاك الموقع تَقصَدَ وضع كلمتي "علاقة خاصة" بين قوسين، تاركاً للقرّاء تأويلاً خبيثاً مما أتاح كل المجالات لإسقاط فظاعة الجُرْم من الحادثة وتنحيته جانباً، والتركيز على "خصوصية العلاقة" المزعومة لتكوين حكايات وإشاعات تُشبع فضول مَن ينتظرون خبراً كهذا. وهكذا تدفقت عبر صفحات التواصل الاجتماعي "حِمم" التعليقات البذيئة، المُجَرِّحَة، المُسيئة لشرف القتيل/ الضحية مما عمل على تحويل الحادثة من كونها فعلاً إجرامياً ينبغي إدانته وإدانة مرتكبيه، إلى بَحْثٍ مستعر يهدف "الفضيحة" وتعرية الضحية بالإشاعة المسيئة للشرف والتشهير بها!

أوليس هذا أشبه بنهش القتيل المجني عليه، الميت، بعد موته؟ نهش لحمه مَجازاً، لتغذية انحطاطٍ أخلاقي خطير يضرب مجتمعنا؟ ونهش شخصه الغائب واقعاً، فنشهدُ على جُبْنٍ اجتماعيّ يتستر بشتّى الذرائع من دينية وقِيَمية، إلخ؟

أولسنا، بذلك كلّه، إنما نضيف إلى زيف ادّعاءاتنا زيفاً جديداً نملأ به حياتنا، فيزداد عدد "اللايكات" like على صفحاتنا خلال "هذا التواصل الاجتماعي"/ الفضائحي!

نعم، هو تواصلٌ فضائحيٌّ عابرٌ لكافة شرائح المجتمع!

نعم، هو فضيحة "هذا التواصل الاجتماعي"، بما يعني أنَّ العفونة الكامنة في أرواحنا تنتظر حَدَثاً كهذا لتًطلقَ سمومها!

نعم، هذا جزءٌ لا يُستهان بنسبة وجوده داخل مجتمعنا، بما يؤكد أنَّ تفككاً كبيراً ضربَ قِيَمنا التي استقيت من ديننا، بما يعني (وهذا هو الأخطر) أنَّ خللاً خطيراً أصابَ مفهومنا للدين أيضاً، فكان أن حُرِّفَ ليتوافق ومسلكياتنا الحالية!

ويتساءلون: كيف ولِدَت "داعش" وأخواتها!

عَجَبي!

 

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.

 

 

أضف تعليقك