أكرهُ الصحافة
لا يحتاجُ الصحافيُّ العربيُّ إلى السيناتور جون مكين، ليؤكدَ له كم هو كئيبٌ وبائسٌ في بلادٍ، تستخدمُ الصحافة لبيع الأكاذيب الكبرى. يقولُ الصقرُ الجمهوريُّ "يبدأ أيُّ دكتاتورٍ عمله بقمع حرية الصحافة". يُضيف لمحاورهِ تشاك تود في مؤتمر الأمن الدولي في ميونيخ، هذا الأسبوع "أنا أكرهُ الصحافة. أكرهكَ أنتَ تحديداً. لكنّ واقع الأمر أننا نحتاجُ إليكم. نحتاجُ إلى صحافةٍ حرّة. هذا أمرٌ حيويّ".
نحنُ نعرفُ هذه الوصفةَ جيّداً. الأكثر دقة أننا لم نُجرّب غيرها. ربما باتَ لدينا مع "التطور التقنيّ" نحو عشرين قانوناً، معظمها تخصّصَ في تكبيل عمل الصحافة والمنصات الإلكترونية التقليدية والشبكية. ونحن في مقدمة الدول التي تسارعُ إلى التكيّف التشريعيّ مع مستجدات الاتصال، بقوانين تتخلّف عن معنى التقنية والحداثة. الأمر نفسه لا يتماثلُ في تحديث قوانين ضرورية للتنمية الاقتصادية والبشرية، كالتعليم، وضرببة الدخل، وتشجيع الاستثمار، وسواها.
الدولة الأردنية تصممُ قوانين لتدجين الحداثة، وتسهيل مرورها، باعتبار ذَلِكَ أولوية، وخارج القانون تُديرُ الأذرعَ الإعلامية التي تملكها كمؤسسات أمنية. مديرو الإعلام الرسميّ ورؤساء التحرير يُختارون من فئةٍ واحدة: موالية طيّعة، تستقبل الاتصالات والتعليمات في أيّ لحظة. يُفضّل من كانَ له تاريخٌ إنشائيٌّ في المدائح، والأفضليّة دائماً لـ"الوشاة" الذين كانوا عيوناً يقظة على زملائهم في مؤسساتهم. شرطُ الكفاءة ليس مطروحاً.
أتحدّْثُ عن مهنتي، لا عن جون مكين. فالمسؤولُ في بلادنا لا يكرهُ الصحافة. إنه يعرفُ ثمنها، مثلما عرف محمد الذهبي مدير المخابرات السابق كيفَ يُجنّدُ قائمةً من الصحافيين، ومثلما عرف كلُّ رئيس حكومة، وكلُّ رئيس مجلس نواب، وكلُّ نائب، مَنْ هم جماعته، وخلاياه المستيقظة، والمُدرّبة على خوض حروبه، وتوجيه انتصاراته.
أتحدَّثُ عن مهنتي، لا عن القوانين التي جعلت صحافتنا متقدمةً جدّاً في صفحات النعي، وفي المقابلات الطويلة والمملة مع "رجالات الدولة". وفي صفحات العلاقات العامة، وقد كنتُ يوماً ما صحافياً في صحيفةٍ حكوميّة، أتقاضى 15 راتباً، ولا أستطيعُ أنْ أكتبَ مقالاً عن الغباء الإداريّ في وزارة. لا أستطيعُ، فالمستشارُ الإعلاميّ للوزير زميلي في الصحيفة نفسها، وهذا شأنٌ لا يدركه البلدوزر جون مكين. ولا يمكنه أنْ يتخيَّل أنَّ الصحافيين مستشارون مُفضّلون، ليس في الوزارات فقط. الهيئات الحكومية والشركاتُ الكبرى والبنوك، تفهمُ اللعبةَ جيّداً، وتعرفُ أيّ ثمنٍ تدفعه، لتتقدم أخبارها وصورُ مدرائها، على أنْ تختفي العيوبُ، ولو في شكوى مواطنٍ في صفحة بريد القرّاء. وما كانَ سائداً قبل المنصات الالكترونية استمرّ بعدها. الإعلانات تصوغُ المديح، وتتدبّرُ الأخطاء، سَمِّهِ علاقات جيدة مع المصادر، أو سَمِّه ابتزازاً. لا فرق.
الصحافةُ الأردنية أيضاً مصدرٌ أساسيٌّ للوزراء والسفراء والمستشارين الإعلاميين في البعثات الدبلوماسية الخارجية، وذلك بعد خدمة مركّزةٍ ومواظبة في صحفهم ودوائرهم ومؤسساتهم، وبعد أنْ ينالوا الرضى التام على تصنيفهم بـ"جماعة الدولة". هم طبعاً جماعةُ جزءٍ قويٍّ ونافذٍ من الدولة.
مرَّةً، نصحني زميلٌ مخضرمٌ ألا "أقضي على مستقبلي". قال لي : أكتبْ مقالاتٍ ضدَّ الأحزاب والنقابات، وابحثْ لكَ عن "ركّاية" في الدولة، وحظوة عند "الجماعة". ولن يطولَ بكَ الأمرُ حتى تصبحَ مستشاراً، وتتقاضى راتبين، ثمَّ، ومع الزمن والخدمة "يَتَطَرْجَلونَ" بكَ، فتكونُ رئيسَ تحرير، أو سفيراً، على الأقل.
ماذا أقولُ لك يا جون مكين. لا أستطيعُ أنْ أكونَ من "الجماعة". لاحظْ أنني أخشى ذكرها صراحةً. وأنتَ تخشى على دونالد ترامب من أمراض الديكتاتور، وتكرهُ الصحافةَ والصحافيين. أنا أكرهها، وأكرههم أيضاً..
باسل رفايعة: صحافيٌّ أردنيّ، عمل في صحف يومية محلية وعربية.