أساتذة الأمية المقنّعة

أساتذة الأمية المقنّعة

 

“شَوْقِي يَقُولُ وَمَا دَرَى بِمُصِيبَتِي - قُمْ لِلْمُعَلِّـمِ وَفِّـهِ التَّبْجِيــلا - اقْعُدْ  فَدَيْتُكَ  هَلْ  يَكُونُ  مُبَجَّلاً - مَنْ كَانَ  لِلْنَشْءِ  الصِّغَارِ  خَلِيلاً - وَيَكَادُ   يَفْلِقُنِي  الأَمِيرُ  بِقَوْلِـهِ - كَادَ  الْمُعَلِّمُ  أَنْ  يَكُونَ  رَسُولاً”. على الرغم من خفة الظل التي تتسم بها هذه الأبيات للراحل إبراهيم طوقان (1905 – 1941*، وعلى الرغم من أن الشاعر قصد الرثاء لحال المعلم الذي يرثى لحاله فعلاً؛ إلا أن فحوى هذه الأبيات وبتجريدها عن مقصد شاعرها؛ تعكس واقعاً مريراً عنت وما تزال منه العملية التعليمية بمختلف مراحلها، إذ نعيش ونعايش واقعاً غدت فيه مهنة التدريس شغل من لا شاغل له ومطية من ليس له ركاب.

في الدول التي تحرص على تنشئة أجيالها وفقاً للأساليب والقواعد التربوية والعلمية التجريبية والتحليلية الدقيقة، لا يمكن لشخص أن يمتهن التدريس قبل أن يحصل على رخصة مزاولة مهنة يتطلب الحصول عليها المرور بعدّة برامج ودورات تأهيلية هذا بخلاف المؤهل الجامعي طبعاً، نحن بطبيعة الحال تفوقنا على هؤلاء القوم وعلى أنفسنا فاختصرنا المسألة وجعلناها “3 في 1”، فشهادة جامعية (بكلوريوس) تساوي قرينة على التأهيل تساوي مؤهَلاً للعمل معلماً لطلبتنا أصحاب العقول الخضراء.

فلندع جانباً مقاطع الفيديو المخزية التي تظهر من آن إلى آخر وتظهر بعض من يمتهنون التدريس وهم يرهبون الأطفال الذين أودعهم أهاليهم أمانةً في أعناق هؤلاء، ولنتجاوز عن الإرهاب الفكري الذي يمارسه السواد الأعظم من المعلمين الذين إذا ما جوبهوا بسؤال “على المحك” فأنبوا السائل ووبخوه وحرموا عليه معاودة الكرّة ربما طوال حياته، ولنضرب صفحاً عن انشغال العديد من المعلمين بمراجعة السيرة الذاتية لأولياء أمور طلبتهم استعداداً لتحديد الصيد الثمين لإعطائه الدرس الخصوصي الذي يختلف طبعا عن العمومي، وعلى ذكر العمومي... فلا داعٍ أن نتوقف طويلاً أمام عدد لا يستهان به من المعلمين الذين ألجأتهم الأوضاع المعيشية المزرية والرواتب المتدنية إلى أن يعملوا سائقين عموميين بعد الظهر وربما قبله... فلنطرح كل هذه الأمور التافهة جانباً ولنسأل سؤالاً واحدا: من الذي يقرر بأن سين أو صاد من الناس يصلح لأن يكون مدرساً يتتلمذ على يديه جيل بل أجيال من الطلبة البراعم واليافعين؟

جواب ذلك يأتيك من قوائم الانتظار في ديوان الخدمة المدنية، حيث يذهب الشاب حال تخرجه من الجامعة فيودع لدى الديوان صورة عن هويته ودفتر عائلته وشهادته الجامعية ليأخذ رقماً متسلسلاً وينتظر ربما سنة وربما سنوات وربما عِقدٌ ونيّف حتى يلبي نداء الشاغر –إن لم يلبي نداء ربه قبل ذلك- فيذهب ويُمتَحَن في كل شيء ما عدا المهارات والقدرات على التدريس ثم يزج به في إحدى المدارس ليتعلم في الطلبة قبل أن يعلمهم!

يتحسر عديد من المدرسين على الأيام غير الخوالي التي كان فيها الضرب غير محظور قانوناً وذلك لأنهم لم ولن يعرفو غيره طريقاً ومنهاجاً لتدريس بل “تتيس” الطلبة الذين يوقعهم حظهم العاثر بين أيديهم، فما أن تذكر أمام هؤلاء المدرسون -التواقون للعصا وحملها- أساليب التربية الحديثة... التعليم عن طريق النشاطات التفاعلية... الحوار بين الطالب والمدرس... حتى ينهالوا على هذه المفاهيم باللعنات ويقيمون حفل تأبين ورثاء لأيام الخيزران و“تشليع” الشعر والآذان.

على كل من يبحث عن أسس وبواعث انتشار العنف بأشكاله المختلفة أن ينظر إلى العملية التعليمية والقائمين عليها وأساليب إدارتها، إذ سيأتيه الجواب حينما يرى جحافل من المُعَنَّفين في صغرهم المُعَنِّفين في كبرهم وهم يتلون مزامير الإرهاب الفكري والإقصاء الاجتماعي والاستئصال الأيديولوجي... على مسامع طلبة وجدانهم وهويتهم الثقافية في طور التكوين، لتُقتَل أو تُشوَّه في مهدها.

 مع كامل الاحترام للشاعر طوقان، إلا أنني لا أملك إلا أن أحمله المسؤولية هو وزملائه من المدرسين حينما يسترسل في قصيدته فيقول واصفاً ما يبذله المدرس من جهد ومآل مجهوده: “لَكِنْ   أُصَلِّحُ   غَلْطَـةً  نَحَوِيَّـةً - مَثَـلاً وَاتَّخِذ  الكِتَابَ   دَلِيلا - مُسْتَشْهِدَاً  بِالْغُـرِّ  مِنْ   آيَاتِـهِ - أَوْ  بِالْحَدِيثِ  مُفَصّلا   تَفْصِيلا - وَأَغُوصُ في الشِّعْرِ  الْقَدِيمِ  فَأَنْتَقِي - مَا  لَيْسَ  مُلْتَبِسَاً  وَلاَ   مَبْذُولا... - فَأَرَى  (حِمَارَاً ) بَعْدَ  ذَلِكَ  كُلّه - رَفَعَ  الْمُضَافَ  إِلَيْهِ   وَالْمَفْعُولا”، فبغض النظر عن هذا الوصف المبتذل للطالب، فإن من رفع المضاف إليه والمفعولاً؛ إنما وزره على من علمه ودرسه بحيث غدى على تلك الحالة من عدم المعرفة والجهل بقواعد اللغة العربية في أبسط صيغها، ولا أدل على ذلك من وجود جيل بأكمله وباعتراف أصحاب القرار وراسمي السياسات في دولنا؛ يمثل أميةً حقيقيةً على الرغم من كونه يحمل شهادات جامعية عليا أو سفلى لا يهم، المهم هو أننا بصدد أمية المتعلمين التي تماثل في خطورتها البطالة المقنَّعة التي يستتر في أقبيتها كل كسول وخامل، فنحن ولا ريب نواجه أميةً مقنّعة يحمل المصابون بها شهادات علمية؛ والعلم والتعليم منهم براء.

 لو كان التعليم بالضرب أو بالتلقين والتبصيم... لكنا من أوائل دول العالم في هذا المجال، إلا أن الحال غير الحال وإننا لنغزل برجل “حمارة” وغيرنا تجاوز عصر المنوال، إصلاح التعليم ليس بجعل الثانوية العامة "التوجيهي" فصل ثم فصلين ثم فصل ثم فصلين ثم فصل ودورة تكميلية ثم فصلين ودورتين تكميليتين.... وإنما ببناء جيل جديد من المدرسين المنفتحين والمتفتحين الذين ينبغي أن تتاح لهم مناهج مرنة تقدمية في المحتوى والأدوات التدريسية، وإلى أن يحين هذا الآوان، فعليكم أن تنظموا رخصةً لمزاولة مهنة التدريس لا يحصل عليها إلا من كان جديراً بها وهذا أضعف الإيمان.

مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.

أضف تعليقك