أزمة حكومة أم أزمة وطن؟
مثل حكايات الأفعى المستقاة من الذاكرة التراثية التي لها نقطة بداية محددة، ونهايتها مفتوحة, حضرت الانتخابات النيابية الأخيرة، وتسيدت الموقف بلا منازع، وسيطرت على أحاديث الناس في العيد، فكل يروي مشاهداته وانطباعاته وخلاصته وأحكامه.
ومهما اختلفت زاوية النظر، فإن الانطباع السائد بين الناس أن لا جديد يرتجى من الوضع الناشئ عن هذه الانتخابات, ومع تردد السؤال مرات كثيرة وبصيغ متعددة عن إمكانية التصويب لما اعوج من الأحوال؟
وعلى افتراض أن المجلس القادم هو عطار الزمان وحامل المسك، فهل يصمد أمام نافخ الكير، ومزامير الشيطان وفساد الحكومات والسياسات؟ وهل استطاعت الحكومة أن تقدم في هذه الانتخابات نموذجا يساعد على تغيير القناعة بأن مرحلة جديدة تسمح بالأمل والتفاؤل قد بدأت؟
روايات كثيرة وحكايات متوالية أو متتالية، تناقلها المواطنون وهم يتبادلون بطاقات التهنئة بالعيد وبصرف النظر عن صحة الروايات ودقة المشاهدات، لكن النتيجة التي يتفقون عليها: أن الانتخابات لم تكن عرسا ديمقراطيا كما روج لها البعض أو أرادها وتمناها الكثيرون.
مهما عبثا حاول البعض أن ينفخ في بعض الإجراءات، للتدليل على النزاهة, فإن النفخ أثار سحبا من الرماد، وتلاشى الصوت في جنبات الواد، لم يفلح هذه المرة من يحمل المباخر في أن ينسج من الرمال حبالا، وفشل في إقناع الناس أن الحبة التي بين أيديهم إنما قي قبة مليئة بالأقمار والأفلاك والكواكب، لأن الذي تحرك أمامهم لم يكن إلا عصيا، وحبالا، وكيد ساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى.
في الأردن أزمات متعددة ومتنوعة ومتشعبة لا يماري في ذلك أحد، ولسنا بحاجة إلى عبقريات متفوقة لاكتشاف أن منشأ تلك الأزمات المركبة في الأصل والأساس، سياسية بامتياز ممسكة بتلابيب البلد ومولودة من رحم القرارات وخيارات النخب التي سادت وحكمت وتبؤت مواقع القرار والمسؤولية أعواما عديدة وأزمنة مديدة نفثت فيها أنواعا من الفساد والإفساد وباعت الضمائر والأوطان.
إذا كان من الضروري والإنصاف استحضار نجاحات لأولئك النفر، فيمكن الحديث عن تحويل الدولة الأردنية من دولة راعية لحاجات الناس وضرورياتهم إلى سلطة جباية، تسارع إلى فرض المزيد من الضرائب، والرسوم وتستنزف الجيوب وتصادر لقمة العيش، وتضع الشعب بين نارين (الإذعان أو العصيان).
تملك الحكومة أية حكومة سلطة كافية لإذعان المواطنين وقهر إرادتهم وإخضاع رقابهم وتحويلهم إلى مستودعات للقهر والكبت والاحتقان, فلدينا أجهزة مدربة وأدوات متطورة, وأسلحة مسيلة للدموع والدماء، لكن هذا لا يجدي مع مجتمع الأحرار، وهذه المقاربات فاشلة ومرهقة، وتفقد الدولة قيمتها وهيبتها, وتحيلها إلى دولة حارسة تتضخم فيها صلاحيات الضابطة العدلية، ومحاكم أمن الدولة العسكرية، وتتراجع فيها المؤسسات المدنية والأهلية.
هل سبق للأردن مثل هذا العنف المتفجر الذي سبق ورافق وتبع الانتخابات، العنف المعبر عن عمق الأزمات والمشكلات التي تهدد الأمن المجتمعي والسلم الأهلي، فقد عم البلاد وغشي العباد، وأصبح القتل عادة يومية ومحاولات الانتحار المتكررة شملت الصغار والكبار وأصحاب السوابق تسللوا إلى مختلف المناطق، وتحولت السرقة إلى سطو مسلح وضح النهار, والفصل في الخلافات غدا بقوة الساعد والسلاح، واحتكم الناس إلى الجلوة للفصل في النزاعات والتخفيف من نزف الدماء، وفي المقابل معاناة اجتماعية قاسية، وأما المشاجرات الفردية، فأصبحت جماعية وعشائرية ما لبثت أن اجتاحت الجامعات، وانخرط فيها طلاب العلم ورهان المستقبل في بناء وطن يخلو من التخلف والانتماء لهويات ضيقة وصغيرة، تتقدم على الهويات الوطنية الواسعة والقومية الكبيرة والإسلامية الجامعة.
في الناتج الطبيعي للمرحلة الفراغية التي تلفنا، تسعى بعض الوحدات المجتمعية للحفاظ على مكاسب ومواقع في المجتمع والدولة، وانتزاع مقاعد في مجلس النواب، أو التعبير العنيف المرافق للغضب، من أجل الحصول على مقاعد في مجلس الأعيان، أو وظائف عليا في الدولة والمؤسسات، فهل أصبحت عضوية الأعيان جوائز ترضية هدفها تخميد الغضب الناشئ عن خسارة الانتخابات؟
أي عبث هذا الذي يضربنا في الصميم؟ وأي تيه ذلك الذي تقودنا إليه هذه المقاربات الفاشلة؟ هل بتنا مختبرا وحقلا للتجارب في زمن تقدم فيه الدول الناجحة نموذجا تنصهر فيه الأعراق والألوان والجنسيات والأصول المتعددة لتنتج مجتمع المواطنة والبناء, وما زلنا نسأل عن الأصول والمنابت ومكان الولادة للأب والجد أي تحايل هذا وأي ثقافة هذه وعن أي وحدة وطنية تتحدثون؟ أليست هذه النتائج الكارثية لبركات الصوت الواحد؟ تلك البقرة المقدسة التي لا يجوز الاقتراب من محرابها إلا في منتهى الخشوع والخضوع.
قانون الصوت الواحد ليس مقدسا، وقد استنفد أغراضه وأهدافه في تفتيت الوطن، وتدمير المجتمع، ونحن اليوم في مرحلة حضانة لأجسام ومفاهيم غريبة لم تظهر نتائجها بعد، ولم تتضح معالمها حتى الآن، الفيروسات التي غزت المجتمع في مرحلة التجريب في كمون وحضانة وتوالد وتكاثر, ليس هذا من قبيل التهويل أو تسويد اللوحة الأردنية الزاهية.
هذه صرخة تدرك وتتخوف من قادم رهيب يضرب في الأساسات ويزلزل الأركان، وفي جسم مخدر أعطبت فيه أجهزة المناعة الوطنية، وتيبس فيه العصب، وتعطلت أجهزة الإحساس بالألم.
لا يحتاج الأمر إلى جدال ومراء، فالبلد بحاجة إلى طريق آخر بعد أن ابتعدنا عن سواء السبيل.
حاجتنا اليوم قبل فوات الأوان، وقبل أن يتسع الفتق على الراتق، الكف عن الترقيع والمشاغلة وتضييع الوقت في ثرثرة مملة عن الإصلاح والبرامج والأجندات تسمعنا جعجعة ولا تنتج حفنة طحين واحدة، مما لا بد منه البدء المباشر السريع إلى استراتيجية وطنية معنية بالإصلاح الحقيقي، لا تنتظر القبول أو الموافقة أو المباركة من خارج الوطن، بعد أن ثبت فشل كل الوصفات المستوردة، من فضاءات ملوثة لا تصلح لبلدنا ولا تستنبت في بيئتنا، وخلفت لنا كوارث اجتماعية، وتشوهات سياسية، ومصائب اقتصادية.
في العالم المتحضر، هناك من يسبق الزمان، ويذهب إلى الأمام ويستشرف المستقبل، ويطل على الغد, وحكم يجيد الإصغاء ويسعد بالنصيحة، ويصغي إلى ما تقوله المعارضة، وأصحاب العقل الإبداعي الخلاق، هم أولو الألباب، أما المهرجون فهم الغرباء، ولا عيد لهم بيننا، وكل عيد ووطني بخير.
span style=color: #ff0000;السبيل/span