أردوغان "زعيماً تاريخيَّاً"
في أكثر من مكان، تفضحُ الوسائلُ الديمقراطيةُ نزعاتٍ وميولاً وأمزجةً، مثلما تزيدُ العماءَ في فهم المصالح. من الولايات المتحدة، إلى اليمين الأوروبيّ، وجارته تركيا، وأيضاً في البلاد العربية. الفوارقُ تتعلّقُ برسوخ الدول، وعمق جذور مؤسساتها، وربَّما نظامها التشريعي، وثقافتها السياسية.
الترامبية اليمينية ترقصُ على ايقاع أكثر تشدداً وتطرّفاً. قد يتمكّنُ المناخُ والتاريخُ الأمريكيّان من كبح ضراوتها، مثلما واجه القضاءُ حظر ترامب دخولَ رعايا دول عربية وإسلامية، أو يمضي الرجلُ العجوزُ بحماسةِ مؤيديه، ويواصلُ الصراخ على العالم، وتخدمه قنبلةٌ صغيرةٌ هنا، أو هناك، فيواصلُ رفع ذراعه، بما يسهلُ ليُّها أو كسرها من أذرع أخرى في الخفاء.
لكنَّ الأميركيين انتخبوه في النهاية، في إطار اللعبة الديمقراطية الدقيقة في الولايات المتحدة، وتركوا ما يُسمّى مجازاً بـ"المجتمع الدولي" في صدمةٍ، ألهمت أكثرَ من يمينٍ في الدول الليبراليّة على الطموحِ والمحاكاة.
الحالُ نفسها في الأردوغانية. الوسائلُ ديمقراطية صرفة، والأهدافُ ديكتاتورية. وذلك، ما لم يُخفه الزعيمُ التركيُّ، فورَ فوزه بـ"نعم". قال حرفيّاً: "إنه قرارٌ تاريخيٌّ". نحنُ العرب أكثر مَنْ يفهمُ المغزى والدلالة في العبارة. أردوغان تجنّبَ التعبيرَ الأكثر دقةً وبلاغةً: لقد أصبحتُ منذُ اليوم زعيمكم التاريخيّ أيها العثمانيون.
سيكونُ الرجلُ عمّا قريب أشدُّ وضوحاً. سأغيّرُ جِلْدَ تركيا العَلمانية، وأعيدها إلى العثمانية. لَعَلَّه همسَ بذلك لنفسه، وهو يتنقلُ بين قبور السلاطين، فورَ إعلانِ انتصاره "التاريخي". الأرجح أنه اقتربَ من قبر محمد الفاتح، وَقَالَ له: "لا أريدُ أوروبا يا مولاي. إنها تمنعني من استخدام الدين في الحكم. ولا تؤمنُ بالسلاطين، ولا بالخلافة الإسلامية، ولا بإعدام المعارضين. سامحني إذا كان لا بدَّ من زيارة مثوى أتاتورك. فتلكَ مجرد خديعة".
مثلما هدَّدَ ترامب الأميركيين بالإرهاب، وبالشوفينية الوطنية، سعى أردوغان منذُ سنواتٍ إلى تهديد الأتراكِ بالقيم الغربية، وأيقظ فيهم نزعاتٍ قومية، ودينية، وكانَ بمقدوره أنْ يواظبَ على سعيه، ضمن النظام العَلمانيّ الذي جاءَ به إلى السلطة، لكنَّ ذلك لم يكنْ كافياً لتحطيم الخصومِ، وتخويف الأتراك بالجيران. فرئيسُ الوزراء السابق والزعيم الحالي، يُرِيدُ حُكماً مطلقاً في يد الرئيس، وتغيير المستقبل، منذ الآن. وهو لا يحتاجُ أكثرَ من 51%، وهي نسبة ديمقراطية ساحرة، وعلى من يقرأُ هذا الرقمَ في أنقرة واسطنبول وأزمير بصفته انقساماً في المجتمع أنْ يتخيّلَ نفسه في المعسكر الآخر، إِذْ لا جدوى من اتهامات التزوير، فالقضاءُ التركيُّ تعرّضَ لسلسلة تصفيات من الزعيم، تجعلُ الطعنَ في الاستفتاء هدراً للوقتِ، وترفيهاً إعلامياً.
ماذا يعني ذلك عربيّاً؟
زعماؤنا "تاريخيّون" مثل أردوغان، والوسائلُ الديمقراطيةُ في مستوى أقلّ شأناً، وهي أحياناً بنسخٍ شبه أردغوانية في بعض البلدان، وتتسلّى الأخرى بانتخاباتٍ برلمانية، بتشريعاتٍ تُفصّلُ وتُخاطُ جيّداً، فتجلبُ لنا صناديقُ الاقتراعِ برلمانيين يستمتعون بالنوم، ويُطلقون الرصاصَ. بعضهم يعتبرُ ضربَ المرأة من حقوق زوجها. هكذا نواصلُ النومَ على مصالحنا، ونحرصُ على إنتاج طرافةٍ شعبية، لا تُضاهى في واقعيتها وبؤسها.
حالنا من حال الأمم الأخرى في ظلال العولمة. الاختلافُ أنهم في عمق المركز، وَنَحْنُ في رثاثة الهامش.
باسل رفايعة: صحافيّ أردنيّ، عمل في صحف يومية محلية، وعربية.