"أبو قتادة".. دروس وعبر

"أبو قتادة".. دروس وعبر

أخيرا اسدلت الستارة على قضية المواطن الأردني عمر محمود عثمان أبي عمر الملقب بأبي قتادة الذي خاض معركة طال أمدها بين أروقة المحاكم البريطانية والأوروبية ضد قرار تسليمه إلى السلطات الأردنية، والمطلوب لديها على خلفية الأحكام الغيابية التي صدرت بحقه عن محكمة أمن الدولة في قضيتي تنظيم الإصلاح والتحدي وتنظيم تفجيرات الألفية. فبعد سنوات من المد والجزر، قبل أبو قتادة أن يتم ترحيله إلى الأردن شريطة ضمان حقوقه وحرياته الأساسية عند إعادة محاكمته، وهو ما تم تكريسه بالفعل في اتفاقية المساعدة القانونية المتبادلة في المسائل الجنائية التي أبرمت بين المملكة الاردنية الهاشمية والمملكة المتحدة مؤخرا، وأقرها مجلس الأمة وصادق عليها جلالة الملك لتصبح نافذة المفعول بعد نشرها في الجريدة الرسمية.
وللوهلة الأولى فقد تبدو إجراءات توقيع تلك الاتفاقية وإقرارها وتصديقها قد تمت استنادا لأحكام الفقرة الثانية من المادة (33) من الدستور التي تشترط موافقة مجلس الأمة على المعاهدات والاتفاقيات التي يترتب عليها تحميل خزانة الدولة شيئا من النفقات أو مساسا بحقوق الأردنيين العامة أو الخاصة. إلا أنها تثير تساؤلات جمة حول توافقها مع القواعد العامة في إبرام الاتفاقيات بين الدول، ذلك أن جوهر تلك الاتفاقية وركنها الأساسي قد جاء في الفصل الثامن منها بعنوان "حقوق الأشخاص المعادين" التي تضمنت شروطا وأحكاما فصلت بالكامل على مقاس قضية أبي قتادة استجابة للضغوطات التي مارستها الحكومة البريطانية على الدولة الأردنية لإغلاق ملف القضية. فأصول التشريع والمبادئ العامة في صياغة القواعد القانونية تقضي بضرورة إصدار قواعد قانونية عامة مجردة لتطبق على الجميع على قدم المساواة، لا أن تصدر لتطبق على واقعة معينة أو قابلة للتحديد، أو على شخص معين أو مجموعة من الأشخاص.

ويبقى الدرس الأكبر المستفاد من قضية أبي قتادة أن واقع محكمة أمن الدولة في النظام القضائي الأردني بحاجة إلى مراجعة شاملة، فالأسباب التي أبدتها كل من المحاكم البريطانية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ضد قرار ترحيل أبي قتادة إلى الأردن تمحورت بشكل أساسي حول عدم شرعية المحكمة التي أصدرت الحكم الجزائي والتي سيعاد محاكمته أمامها على اعتبار أنها محكمة ذو طبيعة خاصة تتألف من قضاة عسكريين، ولا تعتبر جزءا من السلطة القضائية الأردنية. فلو كان أبو قتادة مطلوبا لأية محكمة أردنية نظامية أخرى، لما تمنعت المحاكم والسلطات الأجنبية عن تسليمه إلى الأردن لاستكمال محاكمته وذلك نظرا لما تتمتع به المحاكم الجزائية النظامية في الأردن من شرعية دستورية كاملة. وخير مثال على ذلك أن الحكومة البريطانية قد أبدت تعاونا إيجابيا مع الطلب الذي تقدمت به السلطات الأردنية مؤخرا لإيقاع الحجز على أموال المحكوم عليه وليد الكردي، الذي صدر بحقه حكم جزائي بالحبس مع الغرامة من محكمة جزائية نظامية.

وعند الحديث عن شرعية محكمة أمن الدولة من وجهة نظر الجهات القضائية والأمنية الدولية يجب أن لا يقتصر الحديث عن أبي قتادة الذي كان لمحاكمته أمام تلك المحكمة الأثر السلبي في تأخير إصدار القرار بترحيله وتسليمه للسلطات الأردنية، فقد سبق وأن عانى الأردن من ويلات محكمة أمن الدولة في قضية أخرى هي قضية أحمد الجلبي الذي صدر بحقه حكم غيابي عن محكمة أمن الدولة عام 1992 بالحبس مدة (22) عاما مع الأشغال الشاقة المؤقتة وبغرامة أكثر من 25 مليون دينار أردني بتهمة اختلاس بنك البترا، إلا أنه ومنذ ذلك الوقت لم يتم إلقاء القبض على الجلبي وتسليمه للسلطات الأردنية لتنفيذ الحكم الصادر بحقه، والسبب في ذلك أن الانتربول لم يعترف بذلك الحكم القضائي كونه قد صدر عن محكمة استثنائية كل من قضاتها ومدعيها العامين والنائب العام عسكريون.
ويخطئ من يعتقد أن محكمة أمن الدولة هي مثال على المحاكم الخاصة التي يعترف بها الدستور الأردني في المادة (99) والتي تقسم المحاكم الأردنية إلى محاكم نظامية وخاصة ودينية ذلك أن المحاكم الخاصة لغايات المادة (99) من الدستور هي تلك المحاكم التي تخضع لولاية المجلس القضائي الأردني، والتي يطبق عليها الشروط والأحكام العامة التي تطبق على باقي القضاة في المحاكم النظامية على اختلاف أنواعها ودرجاتها. فكل من محكمة الجنايات الكبرى ومحكمة ضريبة الدخل ومحكمة الجمارك محاكم خاصة، ولكنها تخضع جميعها للسلطة القضائية.
أما محكمة أمن الدولة، فهي تخضع لسلطان السلطة التنفيذية وتحديدا رئيس الوزراء الذي يملك الحق في تشكيلها من قضاة مدنيين /أو عسكريين بناء على تنسيب وزير العدل بالنسبة للقضاة المدنيين، ورئيس هيئة الأركان المشتركة بالنسبة للقضاة العسكريين وذلك بموجب أحكام المادة (2) من قانون محكمة أمن الدولة. كما تمتد صلاحيات رئيس الوزراء لتشمل اختصاصات المحكمة وذلك في المادة (3) من قانونها التي تعطي رئيس الوزراء الحق في إحالة أية جريمة ذات علاقة بالأمن الاقتصادي إلى محكمة أمن الدولة. فبذلك تجتمع جميع عناصر وأركان المحكمة من تعيين قضاتها وتحديد اختصصاتهم بيدي رئيس الوزراء، وهو الأمر الذي يشكل مخالفة صريحة لمبدأ الفصل بين السلطات وتغولا من السلطة التنفيذية على السلطة القضائية. كما يشكل مخالفة دستورية لأحكام المادة (27) من الدستور التي تعتبر السلطة القضائية مستقلة، والمادة (97) من الدستور التي تعتبر القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون.

وفي عام 2011، حاول المشرع الدستوري إجراء جراحة تجميلية لأحكام محكمة أمن الدولة في التعديلات الدستورية الأخيرة، حيث انتهج نهجا وسطيا بين الذين يطالبون بدسترة محكمة أمن الدولة وأولئك الذين يعارضون وجودها ويدعون إلى إلغائها، فقام بتقييد صلاحياتها وضبط تشكيلها وذلك في الفقرة الثانية من المادة (101) من الدستور المعدل التي حظرت محاكمة أي شخص مدني في قضية جزائية لا يكون قضاتها جميعهم مدنيين باستثناء جرائم الخيانة والتجسس والإرهاب وجرائم المخدرات وتزييف العملة.

وعندما شرعت الحكومة في ترجمة ذلك النص الدستوري المعدل على أرض الواقع من خلال تعديل قانون محكمة أمن الدولة ثارت استفهامات عديدة حول نية المشرع الدستوري، وما إذا كانت قد اتجهت نحو تحديد اختصاصات محكمة أمن الدولة بقضاتها العسكريين على سبيل الحصر بالجرائم الخمس السالفة الذكر وأن باقي اختصاصاتها من الجرائم الأخرى ستحول إلى المحاكم النظامية، أم أن الأمر يقتصر فقط على تغيير طبيعة الهيئة الحاكمة داخل محكمة أمن الدولة التي يجب أن تتكون من قضاة مدنيين في الأصل باستثناء الجرائم الخمس السابقة التي إذا ما ارتكبها أي شخص مدني فإنه سيحاكم عنها في محكمة أمن الدولة أمام قضاة عسكريين، نظرا لجسامة تلك الأفعال والجرائم المرتكبة. وهذا الاختلاف الجوهري في تفسير النص الدستوري المعدل قد ألقى بظلاله على محاولات إصلاح نظام المحكمة وذلك من خلال تأخير إجراء أي تعديل على نصوص القانون الذي أنشأها.

خلاصة القول، إن المبررات التي دفعت الدولة الأردنية إلى إنشاء محكمة أمن الدولة كمحكمة خاصة عام 1959 والمتمثلة في إعلان العمل بالأحكام العرفية عام 1957 وإلغاء قانون محاكمة الذين يخلون بأمن الدولة الداخلي أو الخارجي لعام 1952 وقانون محاكمة مرتكبي جرائم التجسس أمام المجالس العسكرية لعام 1953 قد انتهت إلى غير رجعة مع وقف العمل بالأحكام العرفية عام 1992، ومع ذلك فلا تزال محكمة أمن الدولة ومنذ تاريخ إنشائها وحتى يومنا هذا قائمة على الأحكام والقواعد العسكرية نفسها التي لم يعد لها مبرر في الوقت الحالي.

العرب اليوم

أضف تعليقك