صار اجتماع المسلمين ووحدتهم يشبه الحديث عن الأمة العربية ووحدتها، ذلك أن عوامل الانقسام تبدو أكبر من عوامل الوحدة، فالمذهبية لم تعد قادرة على الالتقاء والتوحيد، بل إنها لم تعد قادرة على الحوار مع الذات ومع الآخر، وما نراه اليوم من اقتتال وفتن ودماء وانتهاكات لكل القيم الإنسانية دليل صارخ على أن المذاهب والطوائف قد فقدت رؤيتها، وأصابتها نكسة فكرية تبدو مدمرة في المستقبل، وبوادر هذا الدمار أخذت تطل برأسها في أغلب الدول الإسلامية، وكأنها تصحو بعد سبات لتحقق ذاتها المتخلفة من خلال نفي الآخر وقتله وتكفيره، وإثبات وجودها بوهم امتلاك الحقيقة التي لا تراها إلا من زاوية واحدة، هي زاوية نظرها، وما عدا ذلك فهو شر وكفر تسعى للقضاء عليه بكل الوسائل والسبل من دون حساب للمصالح الإنسانية الكبرى.
وما نراه من قتل ودماء يحتم علينا أن نعيد النظر في كثير من مناهجنا وثقافتنا وتربيتنا، لأن الأمر لم يعد حالات فردية وفرق قليلة، بل تعداه لأن يصبح ظاهرة تهدد أمن المجتمعات، وتعيق من قدرتها على التطور والتقدم والبناءٍ، ومن هنا تبدو الحاجة ملحة لمنهج نقدي، يعاين الظاهرة ويضع لها الحلول، فالتعصب الطائفي كما يعرفه علماء النفس "هو شعور للفرد، مقرون بالقول أو العمل أو الاثنين معا، بالانتماء إلى دين أو مذهب معين أو معتقد، والتعصب لهذا الانتماء على أنه الحقيقة الوحيدة ضد جميع المعتقدات الأخرى، سواء ما عرف بالإلهية منها أو الوضعية على أنها غير صحيحة أو غير حقيقية".
لا ينحصر التعصب في دين واحد، بل يصدر عن الإنسان مهما كانت عقيدته وانتماؤه الديني، ولا يقتصر على مستوى حضاري دون آخر، أو حتى مستوى اجتماعي أو اقتصادي دون آخر، وهناك علماء معاصرون يرون أن الإنسان بطبيعته يميل إلى التعصب، كما لو أنه مخلوق متعصب، ويمكن الإشارة إلى ثلاثة آراء معاصرة ومتقاربة في رؤيتها لهذه الظاهرة؛ الرأي الأول للفيلسوف الفرنسي بول ريكور حيث يرى "أن التعصب يعبر عن ميل طبيعي موجود لدى جميع البشر، وكل شخص في نظره وكل فئة وجماعة تحب أن تفرض عقائدها وقناعاتها على الآخرين، وهي تفعل ذلك عادة إذا ما امتلكت القوة والسلطة الضرورية لتمكينها من الفعل الذي تريده"، أما المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف فيقول إن "التعصب هو الموقف الطبيعي للإنسان وليس التسامح، والتسامح في نظره شيء مكتسب ولا يحصل إلا بعد تثقيف وتعليم وجهد هائل تقوم بها الذات على ذاتها"، والرأي الثالث للمؤرخ التونسي محمد الطالبي، إذ يعتقد أن الإنسان بطبيعته كائن متعصب، لكنه يصبح متسامحاً بالضرورة عن طريق الذكاء والعقل، لأنه مضطر للعيش في المجتمع والتعامل مع الآخرين".
يقول جاسم السلطان في كتابه "فلسفة التاريخ": "إن نظرية العصبية تنطبق على أكثر من مجرد القبيلة التي كانت تتحرك برابطة الدم فهو ينطبق على الحزب السياسي إذا اجتمعت فى أتباعه هذه الصفة، وينطبق على الجيش إذا تحول إلى حزب سياسي يمتلك هذه الرابطة، فوجود رابطة تجمع مجموعة من الناس وتدفعهم إلى التكتل والتضامن والإحساس بالخطر المشترك والتحرك فى مواجهه الآخرين هو المقصود بالعصبية".
ويشير العلماء إلى أن التعصب الديني يعد من أخطر أنواع التعصب وأشده خطراً على الإنسان وعلى المجتمع، ذلك أن الدين له عمق في نفس الإنسان وتأثير كبير على شخصية المتدين فإذا ارتبط التعصب بالتدين أصبح أكثر عمقاً وتغلغلاً في النفس مما يدفع صاحبه إلى أسوأ الأفعال والأعمال، كما أن التعصب الديني جريمة مزدوجة لأنه يتضمن يقيناً بممارسة التعصب باسم الله وتلبية لأوامره، ويتقرب إلى الله في ذلك، وقد حذر القرآن الكريم من نسبة فعل الإنسان إلى الخالق على سبيل الاستقواء بها فقال تعالى:" وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أم تقولون على الله ما لا تعلمون".
تكمن خطورة التعصب عندما يتحول إلى اتجاه عند الإنسان، وفي المجتمع، مشتملاً ثلاثة أبعاد مترابطة هي: المكوّن المعرفي ويقصد به المفاهيم والتصورات والمعتقدات، والمكوّن الوجداني ويدل على المشاعر الوجدانية الداخلية، والمكوّن السلوكي ويشير إلى الميول والاستعدادات السلوكية، ويعني ذلك أن يتحول التعصب إلى توجه ثابت أو شبه ثابت، بحيث يوجه سلوك الإنسان، ويرسم على أساسه خطواته ومواقفه، إذ يعبر عن نسق أو تنظيم لمشاعر الشخص ومعارفه وسلوكه، ويتمثل في درجات من القبول والرفض لموضوعات الاتجاه، ومن هنا يصبح العلاج محتاجاً لعملية معرفية تقوم على أسس علمية ونقدية لكل مدخلات الثقافة والفكر.
المشكلة الأخطر اليوم أن الطائفية أصبحت دولاً، لها قوانينها وحدودها وامتدادها، وتوظف أموالها وجيوشها لحماية الطائفة، وليست مجرد أشخاص يتضامنون على مستوى شعوري.
يوسف ربابعة: كاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.