آفةُ العُرف

آفةُ العُرف

 

"صُنتُ نَفسي عَمّا يُدنِّسُ نَفسي، وتَرَفعّتُ عن جَدى كُلِّ جِبس". يستوقفني هذا البيت كُلَّما قرَأتُهُ لِلخالِدِ المُفوَّهُ شاعِرُ عصرِهِ وكُلَّ عصرٍ؛ البحتري؛ ليسَ فقط لرَشاقَتِ ألفاظِهِ ونُدرَةِ قافِيَتِهِ وحسب، وإنَّما أيضاً لما يُثيرُهُ من تَساؤلٍ عن مِعيارِ "ما يُدنِّسُ النَفسَ" ويستوجِبُ التَرَفُّعَ عنه؟

مِعيارُ الطُهْرِ مُتَغَيّرٌ تَبعاً لمُنطَلَقِ المِعيارِ ذاتِهِ المُتبَنى والذي عليهِ تُبنى الأحكامُ وتُصنَّفُ الأفعال. فإذا كان العُرفُ مثلاً هو المُنطَلقُ والمُنتهى، فالمعيار سيكون معياراً عُرفيّاً مؤكِّداً للقيمةِ أو الخُلُقِ الذي يقيسُه، فإذا كانَ العُرفُ مثلاً يقضي أنَّ ضربَ الآباءِ لأبنائهِم وبناتهِم هوَ أمرٌ مقبولٌ بل محمودٌ وكذلك الأمرُ بالنِسبَةِ إلى ضَربِ المُدَرِّسُ تلاميذَهُ فإنَّ الضَربَ بما فيهِ من وحشيةٍ وتعارضٍ مع احترامِ الكرامةِ والتكامُلِ الجسديُّ للفردِ كما تَعرِفُهُ الشَرعَةُ الدوَليَّة؛ سَيبقى في سياقِهِ العُرفيُّ أمراً مُستَحبَّاً وذا جدوى كبيرةٍ عندَ كُلِّ من يؤمِنونَ بِه.

الدينُ من شأنِهِ أن يُضفيَ على أيّ مِعيارٍ تُقاسُ عندَهُ قيمةٌ إنسانيةٌ مُعَيَّنةٌ صِفَةَ الإلزامِ والإلتزام، ففي مَوضوعِنا المُتَعَلِّقِ بالضَربِ نبقى، حيثُ أنَّ المَأثوراتَ الدينيةَ التي توصي الآباءَ بضَربِ أبنائهِم عندَ بلوغِهِم سِنَّ العاشرةِ إذا لم يمتثلُ للأمرِ بالصلاة، وكذلك المأثوراتُ التي تُبيحُ للرِجالِ ضَربَ زوجاتِهِم إن لم يمتَثِلنَ لأمرِهِم، تلكم الأحكامُ التي ذَهَبَ بموجِبِها جُمهورُ أهلِ العلمِ إلى اعتِبارِ “نُشوز“ المرأة المُبيحُ لضَربِها؛ ينصَرِفُ إلى عَدَمِ طاعةِ الزوجِ في كُلِّ ما يأمُرُ بِهِ زوجَتَه، وَمِن ذالِكَ الجِماعُ ولو رَغماً عَنها بل حتى تَعبُّدُها بالنوافِل دونَ أن يأذَنَ لها بذلك، حيثُ لا يجوزُ لها الصِيام أو القِيام نافلَةً إلا بإذنِ “سَيّدِها” وبعدَ التأكُّدِ من أنَّهُ “بسلامَتِه” “لا حاجَة لَهُ بِها” أي أنَّهُ لا يرغَبُ في مُعاشَرَتِها!

إذا كانَ استِنكارُ الحَديثِ عن هذه الأمورِ وَوجوبِ تحريمِها وتَجريمِها؛ يَبدو مفهوماً حينَما يأتي من الدَهماء ممن تَسوقُهُم غرائزُهُم كما تُساقُ الإِبلُ من خِطامِها، فإنَّ المؤلِمَ أن يناهِضَ من يَدَعون مُناصَرَة حقوقِ الإنسانِ ويتَصدَّرون المَشهَد؛ تَجريمَ ضربِ الزوجِ لزوجَتِهِ لأي سببٍ كان بما في ذلكَ رَفضُها أن تؤتَى عُنوَةً بموجِبِ عَقدُ “نِكاح” لم ولن  يجرؤ من يُحَرِّرونَهُ سواءً كانوا أطرافَهُ أو كاتِبوه على إدراجِ شرطٍ يحمي المرأةَ من شرعَنةِ الاغتصابِ بل وضَربَها إن أَبت أن تُغتَصَبَ بهدوءٍ وتَسليمٍ كامِلَين!

لن أنسَ إن نَسيتُ إحدى المُدعِيات التي كانت تُشرِفُ يوماً ما منذُ سنواتٍ على تنظيمِ اجتماعات إحدى الّلِجان التي كانت موكَلَةً بتَدارُسِ إحدى التشريعاتِ؛ حيثُ أثرنا هذه النُقطَةَ فكانت من أشد المُعارِضاتِ لَها وزَعَمت أنّها سَألَت “مُرجِعياتٍ دينيَّةٍ” حول هذه المسألَة، فأكَّدوا لها –حَسبَ زَعمِها- أنَّ ضَربَ الرَجُلِ زوجَتَهُ بل ومُواقَعَتِها قَهراً؛ هو من صميمِ حقوقِهِ الشَرعيَّة.! الكارِثةُ الكُبرى أنَّ هذه المؤيّدَة شرعَنَة اغتصابِ الرَجُلِ للمرأة تحتَ تهديدِ العَصا أو السَوط أو الحِزام أو “البُكسات”بموجِبِ عَقدِ “النِكاح” هيَ ذاتُ خَلفيّةٍ “حقوقيَّة” كما تَدّعي على الأقل وكما تُشيرُ شهادتُها الجامعيّة والأنكى كما تُشيرُ وظيفَتُها بوَصفِها عضوُ هيئةِ تَدريسٍ في إحدى كُليّات الحقوق!

العُرْفُ بذاتِهِ أمرٌ خطيرٌ جِدّاً خصوصاً أنّ المُشَرِّعَ المَدني والجزائي على حدٍ سواء أكسَبَهُ قوةَ القاعِدةِ القانونيَّة دونَ مِعيارٍ يَضبِطُ مدى انسِجامِهِ مع مبادئ حقوقِ الإنسان. فالعُرفُ في القانونِ والفِقهِ المَدَنيّ واحِدٌ من مصادِرِ التشريع وفي قانونِ وفِقهِ  العقوباتِ هو من أسبابِ إباحة فعلِ الضَربِ “بقصد التأديب”، فإذا ما أضيفَ إلى هذه القُوَةِ القانونيَّةِ المُكتَسَبةِ السِتارَ الدينيَّ الذي يَستَنبِطُهُ ويَتَأوَّلُهُ المُتفَيقِهون؛ غدا العُرفُ أقوى من النَصِّ المكتوب.

مُكافَحةُ العُنفِ الذي سَيُنتَجُ إرهاباً لا محالة، إنّما يبدأُ بتهذيبِ النفوسِ وتَرويضَها لتَرتَقي على الأقل إلى مصافِ الحيواناتِ التي لا يُمكِنُ أن يضرِبَ ذَكّرُها أنثاهُ لأنَّها لم تُطِعهُ في أمرٍ ما أو رَفَضَت مُعاشَرَتِه.

لِلّهِ دَرُّ شاعِرِ العَربِ البحتري، إذ تَراني بِهِ حينَما “صانً نَفسَهُ عمّا يُدَنِّسُها وتَرَفّعَ عن جَدى كُلِّ جِبس”؛ قد ألقى كُلَّ عرفٍ ومُتَّبَعٍ وراء ظَهرِهِ، تماماً كما فَعَلَ العظيمُ ابن خَلدون الذي لا أمَلُّ من ترديدِ مَقولَتِهِ الخالِدة: “اتِّباعُ التَقاليدِ لا يَعني أنَّ الأمواتَ أحياءٌ بل أنَّ الأحياءً أمواتُ”.

العُرفُ والتقاليدُ والعاداتُ آفةُ كُلِّ إصلاحٍ لأننا نرى فيها ماضٍ تليدٍ يجِبُ التَشَبُّثُ بِهِ ولو كان عن حاضِرِنا غريبٌ وبعيد.

 

مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.

أضف تعليقك