دمشق تخلو من سكانها.. فالامن أولا

الرابط المختصر

دمشق - نادية محمد - مضمون جديد

"الشام فضيت".. عبارة قالتها السيدة سميرة المحمود لـ "مضمون جديد" وهي تنظر إلى شوارع دمشق التي كانت مزدحمة يوماً. قالتها السيدة الخمسينية بحرقة قلب أم على أبناء وطنها.
شوارع دمشق اليوم تبدو كأنها طرقاً واسعة شقت في الصحراء. القليلون يمرون عليها راجلين أو حتى في سياراتهم، بعد أن كانت مزدحة ازدحاماً شديداً، كما يعرفها الجميع.

في دمشق يبدو ان أكثر السلع اليوم طلبا "للمستهلكين" هو الامن.. سلعة الامن اصبحت مرتفعة الثمن، ولم تعد تجدي المواقف السياسية "للمستهلك" ليشتريها.. الكل سواسية أمام الرصاص.. من هنا يرى الكثير من الدمشقيين ان الحل في طلبها من مكان آخر. الدمشقيون اليوم يهجرون "الشام".. لكن الى أين ذهبوا؟

حزن بدا وكأنه حفر في صوت سميرة عميقا وهي تقول: الكثير من العائلات الدمشقية غادرت دمشق هرباً من القصف العنيف الجوي والمدفعي الذي تتعرض له معظم أحياء العاصمة منذ عدة أشهر، وبعد سقوط عدد كبير من الشهداء إما بقذيفة شاء القدر أم تسقط فوق منزل أو برصاصة قناص لا تعلم الهدف من إطلاقها.

اليوم وجدت هذه السيدة حكمة لم تصدق انها غابت عنها طويلا: أهم عنصر من عناصر الحياة الشعور بالأمان، وعندما ينعدم هذا الشعور لدى المرء تفقد الارض معناها حتى لو كانت وطنا فتجد الناس تهاجر من وطنها بحثا عن امن متخلي هربا من رفاهياته مطلقة نحو صحراء اللجوء فقط طلبا للأمن والبقاء.

نزح الكثير من السكان إلى الحدود الأردنية حيث مخيمات الصحراء، ومنهم من سافر إلى دول الجوار كتركية ولبنان يحملون معهم ما يملكون من المال والهموم والقلق على مصير بلادهم حيث الحياة أقل سعة لكنها تتميز بالامان.

في دمشق ترى أحياء وشوارع تكاد تخلوا من سكانها. عليك ان تدرك فورا انها التي ثارت ضد النظام السوري، وهي التي تعرضت وتتعرض للقصف منذ أشهر وذاق أهلوها أشد وأقسى حملات الاعتقالات.
مما ادى الى هجرانها.
في دمشق مبان من دون سكان، وشوارع من دون مارة، ومدارس من دون طلبة، واسواق من دون متسوقين.
لكن هذه ليست حال كل دمشق.. فتلك الأحياء التي لم يصلها الحراك الثوري الشعبي – وهي قليلة جدا تعيش أوضاعاً شبه طبيعية..

فيها مدارس وطلاب، وفيها اسواق ومتسوقون، وفيها شوارع ومارة، وفيها مبان وسكان. وبين كل هذا وذاك ينتصب وجود أمني ضخم.

يقول أحمد الدمراني وهو رجل أربعيني لديه ثلاثة أطفال لـ "مضمون جديد" أنا أيضاً أفكر بالنزوح من هنا إلى أي مكان آخر الأمان، فمهما ساءت خارج بلدي ظروفي الحياتية والمعاشية يكفيني أن أنام مساء وقربي أطفالي وأنا مطمئن أن قذيفة لن تأتي لتقتلني وإياهم. يكفيني ذلك ولا أريد سواه وسأتأقلم مع العيش تحت أي ظرف المهم أن يكون أطفالي في مأمن.

يضيف الرجل، ما يمنعني من المغادرة فوراً وفي هذه اللحظة هو عدم توفر المال معي حالياً ولو بكمية ضئيلة فأنا لا أملك شيئاً في الوقت الراهن لكنني سأحاول تأمين مبلغ للسفر، وإن لم أستطع سأذهب إلى واحد من المخيمات مع علمي بالظروف السيئة هناك ولكن على الأقل نحن لن نقتل داخل المخيمات.

في دمشق، ترى معظم المحال والمراكز التجارية قد أغلقت أبوابها وأصبح الناس لا يستطيعون الحصول على المواد الاساسية اللازمة لحياتهم اليومية حتى ولو امتلكوا المال فقد لا يستطيعون استعماله أو شراء حاجياتهم به.

السيد ملهم النجار وهو خريج كلية الاقتصاد، شاب في بداية الثلاثينيات قال لـ "مضمون جديد" الواقع الاقتصادي في دمشق متردٍ جداً فكل النشاطات الاقتصادية توقفت حتى المحال التجارية أغلقت أبوابها، فمن أين يحصل رب الأسرة على طعام أطفاله وحاجياتهم ,ظروف صعبة تجبر الناس هنا في دمشق على السفر والهجرة وكثيرون من السكان تركوا وراءهم بيوتهم وأرزاقهم وسافروا إلى لبنان لقربها من دمشق وقلة تكاليف السفر إلى هناك لتبدأ حياتهم الجديدة في غربة فظيعة قاتلة رغم قربهم من بلدهم.

يضيف ملهم، على الأقل سيجدون قوت أطفالهم بشكل أو بآخر وقد يجد بعض الشباب فرصة للعمل ولو بأجر بسيط يعينهم على حياتهم فأن تحتاج ربطة خبز ولا تجدها أمر يجعلك ترغب بالهجرة إلى أي مكان تجد ذلك فيه، ظروف متعبة تجبر الناس على الرحيل ونخشى أن تصبح دمشق خاوية تماماً خلال فترة قادمة.

يبدو ان الجميع سافروا إلى مصر..." يقول مصعب الفتّوح لـ "مضمون جديد". الفتوح صاحب مكتبة صغيرة يبيع فيها القرطاسية ولوازم المدارس.

عندما سألناه عن ذلك أجاب، لم يتم افتتاح المدارس كلها هنا بل معظمها بقيت مغلقة إلا بعض المدارس الموجودة في احياء لم يطالها القصف حتى الآن، فقد اصدرت حكومة النظام قراراً رسمياً بافتتاحها، لكن من الذي سيوافق على إرسال ابنه إلى المدرسة وهو لا يعرف هل سيعود الطفل أو سيقتل أثناء ذهابه او عودته.

لقد فتحت مصر مدارسها للطلاب السوريين مجاناً، وهذا ما تسبب في تدفق من يستطيع إلى هذه الدولة الشقيقة، فالناس خسروا بيوتهم وأعمالهم لكنهم لا يريدون أن يخسروا مستقبل اولادهم أيضاً.

ما يميز مصر بالنسبة الى السوريين اليوم انها مفتوحة على الحياة بكل تفاصيلها. فمن يريد ان يعيش كفافا ولكن بامان يمكن له ذلك، ولمن يقدر على المتاجرة يستطيع. يقول الفتوح، ويضيف، اعرف الكثير من الاصحاب سافروا إلى القاهرة لمتابعة اعمالهم التجارية، بعد ان نقلوا أموالهم وشركاتهم هناك.

بالنسبة الى هؤلاء فإنهم يعتقدون أن هذه الاوضاع ستطول وأنه يجب عليهم إيجاد حل لتطوير أعمالهم أو البدء مرة أخرى من نقطة الصفر في مجال ما.وهم يرون أن مصر هي البلد المناسب لذلك.

هذه الحال لا تقتصر على طلبة الامن او المال.. هناك من يطلب العلم، ويطلبه من مصر ايضا، يقول الفتوح فطلاب الجامعات والدراسات العليا من العائلات الميسورة سافروا إلى مصر لإتمام تحصيلهم الجامعي.

كل هذه ظروف دعت الدمشقيين للسفر إلى مصر.. هي ظروف انسانية واجتماعية واقتصادية غاية في السوء داخل العاصمة دمشق ونزوح مستمر من مختلف احيائها.

بعض الاحياء كحي القدم وحي برزة والميدان والحجر الاسود والتضامن وكفرسوسة أصبحت شبه خالية من السكان بسبب القصف والاعتقالات.

وما يعانيه السكان هناك نزوح خارجي وداخلي إلى مناطق آمنة لكن المناطق الداخلية الآمنة على امتداد المساحة السورية قليلة.

الكثير من الدمشقيين باتوا يختارون النزوح الخارجي حيث دول الجوار وعلى رأسها الأردن حيث يتجه هناك معظم النازحون إلى المخيمات بسبب غلاء المعيشة فيها.

ظروف الدمار واللاأمان هذه تحدث تأثيرات سلبية هائلة تؤثر على التوزع الديموغرافي للسكان وخللاً كبيراً فيه لو استمر الحال كما هو.

اليوم ستصبح دمشق العاصمة الكبيرة مدينة أشباح خالية من سكانها أو تكاد بينما ستغص العواصم العربية المجاورة بالسكان السوريين لتصل أعدادها أحياناً إلى أرقام مخيفة.