العيش في الزعتري: موسم الهجرة الى الجحيم

تامر خورما / مضمون جديد بعد استشهاد نجله برصاصة قنّاص قتلته داخل منزله، في الواحدة إلا خمس دقائق بعد منتصف الليل، لم يجد 'أبو محمد' أمامه سوى اللجوء بعائلته إلى الأردن، هرباً من دوّامة الموت، وتعطّش شبّيحة الأسد لرائحة الدم. 'تركنا بيتنا في دمشق بعد أن بات هدفاً لقناصّة الجيش النظامي'، يقول أبو محمّد شاخصاً ببصره إلى الأفق، وكأنه مازال هناك، حيث يرقد نجله الشهيد. ويتابع 'أبو محمد' سرد حكاية الأسى: 'عندما رحلنا آثرت زوجة ابني البقاء مع طفليها في سوريّة، إلا أنّ الموت يجبر الجميع على الرحيل في نهاية الأمر، وها نحن ننتظر قدومها، كما ننتظر ابنتي التي استشهد زوجها يوم أمس، وقرّرت اللجوء بأطفالها الأربعة'. في منزلهم المتواضع بإحدى ضواحي عمّان، تنتظر العائلة، المكوّنة من سبعة أفراد، نجاة الأطفال من احتضار الشام وعبور الحدود الشماليّة، ولا نعلم ما إذا كان في البيت كسرة خبز أو أي شيء آخر غير الأمل. وبالكاد، تحدّث أحد شباب العائلة لدى سؤاله عن أوضاعهم المعيشيّة، ففقدان الأرواح يكفي لخلق الوجع والصمت.. علمنا أن مقدار ما يتقاضاه عمران وشقيقه عمار، اللذين يعملان في 'التدفئة' لتأمين قوت العائلة اليومي، لم يتجاوز مبلغ الدينارين والنصف لكلّ منهما لقاء عمل يوم كامل، وكثيرا ما كان صاحب العمل يتأخّر في دفع الأجرة، وأحيانا كان لا يدفعها على الإطلاق، حتى قرّرا البحث عن عمل آخر، ولكن دون جدوى. ورغم البؤس المقيم بين حجرات المنزل، يأبى حفيد 'أبو محمد' الذي لم يتجاوز السنوات الثلاث من عمره، إلا أن يرسم ابتسامته عندما يتفحّص وجهك بأصابعه الصغيرة، فلا تملك إلا أن تشركه بالحديث وتسأله عن رأيه، فيروي لك كيف قرّر 'بشّار' أن 'يقوّص' منزلهم بالشام، لأنّهم لم يقوموا بـ 'تعزيله' !! القلق اليومي حيال 'معجزة' تأمين قوت العائلة، لا يقتصر على إمكانيّة 'تدبير' الحال والحصول على بعض الطعام، بل بات العيش -مجرّد العيش- حلما لدى هذه العائلة التي يعاني أحد أفرادها مرضا في الدم، ويحتاج يوميّاً إلى 18 ديناراً ثمن حقنة العلاج، أضف إلى ذلك الأدوية الأخرى، وخاصّة 'مميّع الدم' الذي يستوجب عليه تناوله حتى لا يعاني 'التخثّر'، أو يتعرّض لنوبة تستدعي تغيير دمه بالكامل. أمّا الأم فتحتاج إلى أدوية الضغط والسكّري التي لا تملك المقدرة على تأمينها، حيث يصل ثمنها إلى 35 ديناراً. ويروي 'محمد' حكاية 'الرحلة' بين مستشفى البشير، الذي أخبره العاملون فيه بأنّه لا علاج له في المستشفيات الحكوميّة، ومفوضيّة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ومركز عمان الشامل لعلاج اللاجئين السوريّين. 'مش فاضيلك' هي أوّل جملة سمعها اللاجئ عندما طلب من موظف المركز الشامل أن يسمح له بالدخول إلى الطبيب.. ويروي قصّته بحرقة: 'لم اعد أريد ان أتلقى العلاج، يكفيني ما ذقته من ذلّ عندما حاولت الحصول على 'بطاقة الصحيّة'، ساعات قضيتها في الانتظار دون جدوى، وفي نهاية الأمر كانت 'البهدلة' هي كلّ ما حصلت عليه، ولم احصل على الدواء'. 'حاولنا الاتصال بقسم الشكاوى في مفوضيّة الأمم المتحدة للاجئين، غير أن أحدا لم يرد على أرقام الهواتف التي حصلنا عليها من المفوضيّة'، يقول 'أبو محمد' الذي يحاول جاهداً توفير الغذاء والدواء لعائلته.. ويتابع سرد الحكاية: 'في يوم 5- 12 قمنا بتسجيل أسمائنا لدى مفوضيّة اللاجئين، وبعد شهر حضرت موظفة في المفوضيّة واطلعت على حالنا، ووعدتنا بتقديم المعونات.. وبعد طول انتظار، حصلنا على كوبونات مشتريات بقيمة 11 دينارا للفرد'. 'أمّا إيجار المنزل فلا نعلم من أين سنأتي به، فصاحب البيت يطالبنا بالإيجار منذ شهرين، ولا نملك شيئاً من المال، بل حتى فاتورة الماء تضمنت مبلغاً كبيراً قيل لنا أنّه ربّما ورد خطأ، ولكن علينا تسديده قبل الاعتراض'. بريق أمل تلمّسته العائلة عندما زارها مندوب المفوضيّة مرة أخرى يوم 7- 9- 2012، حيث وعدهم بالمساعدة، لكنها مازالت تنتظر إلى اليوم، ولا يعلم أيّ من أفرادها كيف يمكن لهم تأمين مبلغ 600 دينار يحتاجونها لدفع ما تراكم عليهم من إيجار البيت. معونات اللاجئين التي تتدفق من الدول المانحة لا تصل إلى كثير منهم، وتستمرّ رحلة المعاناة بين البحث عن عمل ومحاولة 'تدبير' القوت اليومي.. ولكن يبقى هذا الوضع البائس أهون عليهم من الشقاء الذي يعانيه غالبيّة اللاجئين السوريّين في مخيّم الزعتري.

أضف تعليقك