يعتبر العزوف عن الانتخابات البرلمانية والبلدية أمرًا اعتياديًا في الأردن. إلا أن انتخابات هذا العام اتسمت بعزوف "صارخ" من قبل الناخبين الذين أراد بعضهم معاقبة الحكومة على إجراء الانتخابات في أوج موجة جائحة الكورونا والتي تجاوزت معدلات وفياتها اليومية حاجز الـ60 حالة، وبمعدل إصابات اقترب من كسر حاجز الـ6000 حالة، فيما رأى آخرون أن عوائد المشاركة في هذا "العرس الديمقراطي"، لا تستحق المجازفة وتعريض حياتهم وحياة ذويهم للخطر، خاصة في ظل تهشيم صورة البرلمان في الوعي الجمعي، والقدرة الحكومية على تكريس صورة نمطية لمؤسسة البرلمان في ذهن المواطن تظهره كأداة مطواعة للحكومة سواء من ناحية التشريع أو من ناحية الرقابة.
سأحاول أن أخصص مقالًا للحديث عن الأسباب الذاتية لهذه النتائج الكارثية للقوى ذات الطابع البرامجي (الأحزاب القومية واليسارية، تحالف الإصلاح وقائمة معًا –إلى حد ما-)، ولكن سأخصص هذه المساحة للتطرق إلى أهم الأسباب الموضوعية لهذه النتائج.
لن أتطرق إلى قانون الانتخاب وهو أحد الأدوات الرئيسية لضرب العمل المؤسسي والبرامجي والحزبي، ولن أتحدث عن طريقة تقسيم الدوائر الانتخابية، والتدخلات في تشكيل القوائم الانتخابية، والقيود التي تمارس على العمل الحزبي والعضوية الحزبية. سأترك كل هذا جانبًا، كوننا قد تحدثنا عنه كثيرًا في السابق.
اسمحوا لي أن ألفت الانتباه إلى مسألتين في غاية الأهمية، ساهمتا بشكل مباشر بضرب القوائم البرامجية، وهما:
1_ نسبة العزوف التي سجلتها الانتخابات النيابية لهذا العام، والتي وصلت إلى 85% من الناخبين في معظم دوائر العاصمة عمان، والزرقاء، و70% في المجمل العام، والتي تؤكد على أن الشرعية الشعبية لهذا البرلمان ستكون محل تساؤل كبير، خاصة وأن قانون الانتخاب بصيغته الحالية، يحرم أكثر من نصف الأصوات من التمثيل في البرلمنا، ما يعني أن المرشحين الفائزين لا يشكلون أكثر من 10% -في أحسن الأحوال- من مجموع الناخبين.
هذا العزوف كان له ترجمته على الأرض، من خلال ظهور دعوات للمقاطعة تصدرتها نخب سياسية وإعلامية وثقافية وازنة، وصلت حد تصدر هاشتاغ مقاطعة الانتخابات التريند في الأردن لفترة تقارب الأسبوع. وكانت القوائم صاحبة البرامج الانتخابية الأكثر تضررًا من هذه المقاطعة كون الفئة التي دعت للمقاطعة والجهات المستهدفة من هذه الدعوة هي التي عادة ما تنتخب على أساس برامجي. وقد لاحظنا في قراءة أولية للنتائج حجم التراجع في أصوات كافة هذه القوى بما فيها قوائم الإصلاح "الإخوان المسلمين" التي تراجعت قوتها التصويتية بنسبة كبيرة، والحال نفسه ينطبق على قائمة معًا، فيما شهدنا نتائج ضعيفة للأحزاب القومية واليسارية، كان العزوف عن المشاركة غي الانتخابات أحد أهم أسبابه الموضوعية.
2_ تعزيز المال الأسود وتكريسه كأداة شبه وحيدة لتحفيز الناخب على المشاركة بالانتخابات بشكل خاص في معظم دوائر عمان والزرقاء. فيما ساهم تكريس العشائرية من خلال إعطاء الضوء الأخضر للانتخابات الداخلية للعشائر، في التحشيد للتصويت في المحافظات. (علينا التوقف مليًا أمام الحالة غير المسبوقة من انتصار النزعة العشائرية في هذه الانتخابات).
ورغم أن ظاهرة وجود المال الأسود ليست بالطارئة أو الغريبة، إلا أنها تحولت في هذه الانتخابات إلى إجراء اعتيادي تستطيع مشاهدته أينما وكيفما "ولّيت وجهك". بل بتنا نشهد تسابقًا وتنازعًا بين المرشحين على مفاتيح و"عرابي" التصويت في الدوائر الانتخابية. وقد كان للقرار الحكومي –الذي لا يمكن أخذه بحسن نية- بتطبيق حظر شامل لمدة أربعة أيام عقب إغلاق صناديق الانتخابات مباشرة، دور كبير في تعزيز هذه الظاهرة وتكريسها، بل ودفع المواطنين إلى عرض أصواتهم بطريقة مذلة ومخجلة، طمعًا في توفير احتياجاتهم في فترة الحظر، في ظل تخلي الدولة عن دورها في توفير الرعاية الاجتماعية لمواطنيها.
الأمر الملفت في هذه الانتخابات، أن القوائم التي اعتمدت على المال الأسود لم تشهد تراجعًا في حضورها الانتخابي على الرغم من انخفاض نسبة التصويت، وهو الأمر الذي يدعم ما طرحناه أعلاه من أن مقاطعة الانتخابات ساهمت في إضعاف القوى البرامجية. وهنا لا بد من التأكيد على ما كنت قد أشرت له سابقًا، من أن هذا العزوف تتحمل مسؤوليته الحكومة والحكومة وحدها، سواء من ناحية اختيارها لتوقيت الانتخابات الذي جاء في أوج جائحة كورونا، أو من ناحية تشويه صورة البرلمان في وعي الناخب.
بالتأكيد للحديث بقية حول الأسباب الذاتية لتراجع القوة التصويتية للقوى البرامجية وخاصة القوى القومية واليسارية.