أصبح من الملفت في السنوات الأخيرة أن القضايا الإنسانية، وخاصة تلك المرتبطة بالنضالات الشعبية أو الحروب والنكبات الوطنية، تتحول إلى أدوات تجارية تُباع في الأسواق المحلية والعالمية، حيث يتمثل هذا التحول في ظهور منتجات متنوعة مثل الأكواب، الملابس، الرسومات، والإكسسوارات التي تحمل رموزاً وشعارات ترتبط بهذه القضايا، وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة تسهم بشكل إيجابي في نشر السردية الوطنية وتعزيز الهوية الثقافية ليس على المستوى المحلي فحسب بل على مدى الوطن العربي بل العالم ككل، إلا أنها تحمل في طياتها إشكالية تتعلق باستغلال المشاعر الإنسانية والمآسي لتحقيق مكاسب مادية.
"هل يمكن أن تكون هذه المنتجات وسيلة لدعم القضية أم أنها مجرد استغلال تجاري بحت؟"
من الأمثلة البارزة على هذه الظاهرة، انتشار أكواب تحمل صوراً لقادة المقاومة الفلسطينية مثل “السنوار” أو “أبو عبيدة”، إلى جانب الملابس المطرزة برموز مثل “البطيخة” والإكسسوار باللون الأحمر والأخضر والأسود والتي أصبحت رمزاً للمقاومة، فهذه المنتجات، التي كانت تُباع سابقاً بأسعار زهيدة، باتت تُعرض بأسعار مرتفعة، مبررة ذلك بتحسين الجودة أو القيمة الرمزية، لكنها في الواقع تعكس طابعاً رأسمالياً بحتاً، مع التكرار إنه لا بأس في انتشارها ولكن المعضلة في ارتفاع أسعار واستغلال الأحداث الحالية!
المفارقة الكبرى تتضح عند مراقبة توقيت ظهور هذه المنتجات، حيث يتم طرحها في الأسواق مباشرة بعد وقوع أحداث كبرى مثل استشهاد قادة المقاومة أو تصاعد الأزمات.
ومن جهة أخرى استشهدنا في الحديث بعض المارّة في السوق العام وهذه كانت آرائهم:
"يعني حلو كتير إنّا نشوف منتجات تدعم القضية، بس لما يصيروا يبيعوها بأسعار نار بعد الأحداث مباشرة، بتحس إنهم عم يستغلوا القصة أكتر من ما يدعموها"، آية 28 عاماً.
"أنا بحب أشتري أشياء إلها علاقة بالقضية، مثل الكوفية أو الأعلام، بس الصراحة لما شفت كوب عليه صورة قائد واستشهد قبل بيوم، حسيت الموضوع صار تجارة مش أكتر"، زين، 33 عاماً.
بينما اتجهنا لأصحاب المحال التجارية التي تبيع الإكسسوار الفضية وغيرها، وقمنا بالسؤال عن بعض الحلاق النسائية ذات الطلاء الفضي والكريستال، كان الإكسسوار المتعلق بالقضية الفلسطينية على سبيل المثال سعره مزدوج عن أي إكسسوار آخر مشغول بنفس الطريقة وبنفس نوعية الطلاء، وكان رد التاجر بأن الطلب على الإكسسوار المعني بالقضية متزايد عن غيره وهذه الأسعار حسب العرض والطلب ومن الطبيعي أن أزيد سعر المنتجات الأكثر طلبا ًمن قبل الزبائن.
هذا التوقيت يجعل العملية التجارية تبدو وكأنها استغلال مباشر للمآسي لتحقيق أرباح مادية، مما يثير تساؤلات حول الهدف الحقيقي وراء إنتاج هذه السلع.
على المستوى العالمي، يمكن ملاحظة ظاهرة مشابهة في المواقع الإلكترونية (متاجر الأونلاين) التي لا تدعم القضايا الوطنية بشكل مباشر، لكنها تستغل الطلب على الرموز الوطنية مثل الأعلام الفلسطينية لتسويقها وبيعها بأسعار مرتفعة، وفي بعض الحالات، تكون هذه المواقع مرتبطة بجهات مناهضة للقضية نفسها، مما يجعل الشراء منها يساهم بشكل غير مباشر في دعم أجندات تتعارض مع القضايا الإنسانية التي يفترض أن تدعمها هذه المنتجات.
هذه الممارسات الرأسمالية التي تستغل القضايا الإنسانية لتحويلها إلى سلع تجارية تؤدي إلى تشويه الأهداف النبيلة لهذه القضايا وتحويل النضالات الوطنية إلى منتجات ربحية يضعف قيمتها الحقيقية ويجعلها عرضة للتسليع بدلاً من الحفاظ على رموزيتها الأصيلة، بالإضافة إلى ذلك استنزاف المستهلكين مادياً من خلال فرض أسعار مرتفعة على منتجات بسيطة يضع عبئاً إضافياً على الأفراد الذين يرغبون في دعم القضية.
لتجاوز هذه الإشكاليات، من الضروري تعزيز الوعي بين المستهلكين حول أهمية معرفة مصادر المنتجات ومدى ارتباطها الحقيقي بالقضية، كما ويجب تشجيع المبادرات المحلية التي تهدف إلى إنتاج سلع تعكس القضايا الإنسانية، مع ضمان توجيه الأرباح لدعم المشاريع النضالية والإنسانية فهناك العديد من النساء على سبيل المثال تقوم بصنع غالبية المنتجات سواء تدعم القضية أو غيرها بأسعار منطقية ولا توجد مفارقات بين سلعة وأخرى، وهنا كما يقول المثل "نضرب عصفورين في حجر واحد" نُمكّن النساء اقتصادياً على المستوى المحلي ولو بربح بسيط، ونقتني السلع المعنية بالقضايا الإنسانية دون أية نزعة استهلاكية أو إفادة أشخاص ليس لهم صلة بالقضايا بل أحياناً يناهضوها وأحياناً يشغلون عمالاً في مؤسساتهم تحت ظروف قاسية وغير إنسانية، حيث تُهمل هذه المؤسسات الالتزام بالمعايير القانونية والأخلاقية، ويتم تشغيل العمال بأجور متدنية لا تليق بجهودهم.
تحقيق التوازن بين تسويق هذه المنتجات والحفاظ على قيمتها النضالية هو السبيل الوحيد لضمان أن تكون هذه السلع وسيلة لدعم القضية وليس أداة لتحقيق أرباح على حسابها، ولا بد من التوقف عند دور ووعي الجمهور في هذه الظاهرة، وهنا يأتي التساؤل هل يقبل المستهلك دفع أسعار مرتفعة لأنه يرى في ذلك دعماً حقيقياً للقضية، أم أن الأمر يرتبط بغياب الوعي حول استغلال هذه المشاعر وتحويلها إلى تجارة؟