أثر سياسات صندوق النقد الدولي على الاقتصاد الأردني
لجأ الأردن إلى صندوق النقد الدولي في أعقاب الأزمة الحادة التي تعرض لها في أواخر سنة 1988 وأوائل سنة 1989، بعد إغراق البلاد بالمديونية، واستنفاد احتياطياته من العملات الأجنبية، وتخلُّف الدولة عن سداد الديون الخارجية، وانهيار سعر صرف الدينار، وانكماش الناتج المحلي الإجمالي إلى 11 %. الأمر الذي استدعى التوجه إلى المؤسسات الدولية لإعادة جدولة الدين العام والحصول على قروض جديدة، وذلك في ذروة الأزمة المالية والاقتصادية، الناجمة عن الإنفاق المنفلت، ونهج التبعية التي أوصلت البلاد إلى مرحلة الانهيار؛ توجهت الحكومة إلى نادي باريس المختص بالديون الرسمية، ونادي لندن المختص بالديون التجارية، للموافقة على إعادة جدولة الدين الخارجي، ومن ثم إلى صندوق النقد الدولي للحصول على شهادة تمكّن الدولة من إعادة جدولة الدين وخدماته المستحقة، وتوفير المال الضروري من العملات الأجنبية لتغطية المستوردات، وتغطية الإنفاق الحكومي، فأُخضع الاقتصاد الأردني إلى ما يعرف ببرنامج التصحيح الاقتصادي . بعد أن دخل الاقتصاد الأردني في حالة ركود منذ أواسط الثمانينات، إذ أكدت المعلومات الصادرة عن دائرة الإحصاءات العامة من واقع بيانات البنك المركزي( ) أن الاقتصاد الأردني كان يعاني من أزمة اقتصادية حادة، يمكن تلخيصها بما يلي:
1- تراجع نمو الاقتصاد الوطني بشكل خطير، ووصل التراجع ذروته سنة 1989 بنسبة (-11%).
2- تفاقم عجز الموازنة العامة الذي بلغ قبل المِنح نحو 22% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 1989.
3- شهدت البلاد خلال سنة 1989 ارتفاعا ملحوظا في الأسعار، فقد ارتفع الرقم القياسي لتكاليف المعيشة بنسبة 25.5% وقد جاء هذا الارتفاع نتيجة ارتفاع الأسعار الناجم عن انخفاض سعر صرف الدينار.
4- أظهرت أرقام الدَّين العام الخارجي للحكومة المركزية وبكفالتها (1726.6) مليون دينار في نهاية سنة 1988، وقد تأثر الدين العام الخارجي بشكل ملحوظ بالانخفاض الذي طرأ على سعر صرف الدينار الأردني إضافة إلى التوسع في الاقتراض الخارجي، إذ بلغ رصيد الدين العام الخارجي في نهاية سنة 1989 (4823.2) مليون دينار، أما الدين الداخلي للحكومة المركزية والمؤسسات العامة فقد بلغ في نهاية سنة 1989 (995) مليون دينار. وبذلك تصبح قيمة الدين العام الداخلي والخارجي للحكومة المركزية وبكفالتها (5818.2) مليون دينار، وشكلت نسبة الدين نحو 188 % من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية سنة 1989.
5-تراجع مستوى الاستثمار الكلي إلى 18% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 1989.
6- تراجع احتياطيات البنك المركزي، إذ تدنّت إلى نسبة الصفر.
إن محاولات تبرير أسباب الأزمة بانخفاض المساعدات الخارجية غير مقبول من حيث المبدأ، فالاعتماد على المساعدات في تغطية الإنفاق الحكومي تعبير عن عدم استثمار موارد البلاد، فالمساعدات الأجنبية أحد عناوين التبعية السياسية والاقتصادية، وهي متذبذبة، وكان يفترض توجيهها نحو الاستثمار بمشاريع تنموية تسهم ببناء اقتصاد وطني يضع البلاد على أعتاب مرحلة جديدة،عنوانها الرئيس الاعتماد على الذات، وليس استنزافها بالنفقات الجارية، والتوسع في الإنفاق الحكومي لتصبح عبئًا على الدولة بعد تراجعها، وبدلا من التكيف مع المستجدات واصل النهج سياسة التوسع في الإنفاق الممول بالقروض، إلى أن أُغرقت البلاد بالمديونية.
برامج "التصحيح الاقتصادي"
خضع الاقتصاد الأردني في الفترة ما بين (1989- 2004) إلى 6 برامج «للتصحيح الاقتصادي»، ثلاثة برامج من نوع اتفاقيات الاستعداد الائتماني لتعزيز الاحتياطي الأجنبي، وثلاثة برامج تسهيل ممدد وترتبط بالمشكلات المتوسطة وطويلة الأمد، من نوع وصفات صندوق النقد الدولي. وأُعلن رسميا سنة 2004 عن انتهاء خضوع الأردن لبرنامج «التصحيح الاقتصادي»، قبل أن يعود مرة ثانية للتوقيع على اتفاقية جديدة للأعوام (2012 -2016 ) لمواجهة اختلالات ميزان المدفوعات والركود الاقصادي، التي انتهت في سنة 2015، دون أن تعطي نتائج ملموسة. ووُقّعت اتفاقية طويلة الأمد، التي امتدت لغاية 2019، التي استهدفت مؤشرات مرتبطة مباشرة بالاحتياطات الأجنبية والدين العام. لتبدأ بعدها اتفاقية طويلة الأمد، التي تمتد حتى سنة 2022 واستهدفت مؤشرات مرتبطة بالاحتياطات الأجنبية والدين العام.
في ضوء ذلك أقدمت الدولة على سلسلة من الحزم والإجراءات الاقتصادية والاجتماعية استجابة لمتطلبات صندوق النقد والبنك الدوليين التزاما ببرامج «التصحيح الاقتصادي» والسياسات المالية والاقتصادية النيوليبرالية، وترتب على ذلك إجراءات اقتصادية انكماشية مست مصالح الفقراء والشرائح الوسطى في المجتمع، وكانت تتلخص بتحرير الأسعار وزيادة الضرائب غير المباشرة وتحرير التجارة الخارجية وإلغاء الحواجز الجمركية لتسهيل انسياب السلع وإطلاق آليات السوق المنفلتة، وخفض الإنفاق الحكومي على الخدمات ورفع الحماية عن الإنتاج الوطني، وتولّي القطاع الخاص قيادة الاقتصاد، وإلغاء القيود على الاستثمارات الأجنبية وتحرير أسواق المال ورفع الدعم عن السلع الضرورية، وخصخصة الشركات المملوكة للدولة.
سياسة التخاصية
جاءت سياسة التخاصّية في صلب برنامج «التصحيح الاقتصادي» منذ سنة 1992، وهي تُعتبر من أخطر فصول البرنامج على الاقتصاد الوطني، الأمر الذي أفضى إلى إضعاف الدولة، وعجزها عن القيام بواجباتها، كان مشروع تحويل العقبة إلى منطقة اقتصادية خاصة باكورة عمل المدرسة الليبرالية الجديدة، بإدارة المجلس الاقتصادي الاستشاري، وأصبح المجلس بوابةَ السياسات النيوليبرالية، كما بدأت سياسة تهميش دور الحكومة والوزراء ذوي الاختصاص، وبدأت تتشكل مؤسسات موازية للحكومة قاسمت الوزارات صلاحياتها، وتوظَّف رؤساء ومديرون ومستشارون برواتب عالية لا علاقة لها بنظام الخدمة المدنية مستنزفة اموال الخزينة، والتي عرفت لاحقا في "الهيئات المستقلة" ، تمهيدا لخصخصة المؤسسات العامة للدولة. إن تسليط الضوء على الخروقات القانونية والدستورية التي ارتكبت من قبل الجهات الرسمية أثناء عمليات الخصخصة يكشف بوضوح عن الأضرار الجسيمة التي سببتها المخالفات، عدا عن الفساد المالي والإداري الذي كشفت عنه اللجنة الملكية لتقييم التخاصية، ومع ذلك لم تُتخذ أي إجراءات لمعاقبة ومحاسبة المسؤولين عن هذه المخالفات، ولا إزاء الإجراءات المفضوحة التي تسببت بخسائر فادحة. غني عن القول إن رفض إجراءات الخصخصة ليس محصورا بالمخالفات والإجراءات؛ بل في جوهر سياسة الخصخصة، فإن سياسة الخصخصة لم تكن خيارا وطنيا، أن مبدأ التخلي عن الأصول لصالح الاحتكارات الرأسمالية العالمية أضعف الاقتصاد الوطني، وأفضى إلى هيمنة رأس المال الأجنبي على معظم الشركات الكبرى.
السياسات الضريبية تُفاقم الأزمة
تنطلق الفلسفة الضريبية عامة من مبدأ إعادة توزيع الدخل، وهي تستند إلى ثلاثة مبادئ أساسية، مالية واقتصادية واجتماعية، وذلك لتحقيق الأهداف التالية: أولا، توفير إيرادات للخزينة، ثانيا، استخدام السياسة الضريبية أداةً لتحفيز القطاعات الإنتاجية المرغوبة (الصناعة والزراعة والسياحة وتكنولوجيا المعلومات)، وثالثا، تحقيق العدالة الاجتماعية بفرض ضريبة تصاعدية على الدخل. وقد استندت السياسة الضريبية في الأردن، التى كانت سائدة قبل الدخول في برنامج "التصحيح الاقتصادي" إلى المادة 111 من الدستور الأردني. بينما انطلقت المدرسة الجديدة التي تبنتها السلطات الرسمية في البلاد من مبدأ ما يسمى «المساواة في توزيع العبء الضريبي» ، فقد استُحدثت الضريبة العامة على المبيعات اضافة الى الضريبة الخاصة،على المشتقات النفطية، ومنذ حزيران 2019 خضعت المشتقات النفطية لضريبة مقطوعة، بلغت قيمتها 370 فلسا كل لتر بنزين أوكتان 90 و575 فلسا كل لتربنزين أوكتان 95 و 165 فلسا كل لتر سولار او كاز . وقد أسهمت هذه السياسات الانكماشية في تراجع النمو الاقتصادي فالمشتقات النفطية تعتبر مادة ارتكازية تؤثر بشكل مباشر على أسعار السلع والخدمات، وباتت تشكل الضرائب غير المباشرة نحو 88% من اجمالي الايرادات الضريبية، مما يعتبر مخالفة صريحة لنص المادة 111 من الدستور.
تقييم نتائج برامج صندوق النقد الدولي
يتضح مما تقدم أن برامج صندوق النقد الدولي لم تفض إلى نتائج اقتصادية واجتماعية إيجابية؛ فقد أظهرت المؤشرات الاقتصادية الحيوية اتساع مظاهر الأزمة، بارتفاع نسبة البطالة، وزيادة عدد الفقراء في البلاد، وأحدثت السياسات الضريبية آثاراً مؤلمة على الوضع الاقتصادي والاجتماعي. أما تقليص عجز الموازنة بنسب متواضعة الذي اعتبر إنجازا من قبل الصندوق؛ فقد كان هذا الإنجاز على حساب خفض النفقات الرأسمالية ، وزيادة العبء الضريبي على المواطنين، وارتفاع معدلات الفقر من 14.4% في سنة 2010، إلى 20% في سنة 2016، حسب معلومات وزارة التخطيط والتعاون الدولي، وهي نسب متحفظ عليها، خاصة بعد اعتراف مدير عام صندوق المعونة الوطني أن 650 دينار شهريا هو حد الفقر للأسرة الأردنية، فإن نصف السكان يعيشون تحت خط الفقر، أو اقتربوا منه.
اما الاستشهاد بنتائج النمو الاقتصادي في الأعوام (2001- 2008 ) التي بلغت متوسطها نحو 7.5% كدليل على نجاح سياسات الصندوق، غير صحيح فالنمو الذي تحقق جاء مدفوعا بعودة نحو 300 ألف أردني من دول الخليج، واستثمار مدخراتهم في البلاد، اضافة الى استثمارات العراقيين التي تدفقت في تلك المرحلة. اما النتائج الفعلية لبرامج "التصحيح الاقتصادي" يمكن تلخيصها بما يلي:
1- فشلت محاولات خفض عجز الميزان التجاري والحساب الجاري في ميزان المدفوعات المستهدفة، علما أنه من أهم أهداف البرنامج خفض الموازين إلى الصفر في حين كشفت التقارير الرسمية ( ) لسنة 2005 بعد التخرج من برامج صندوق النقد الدولي، ارتفاع نسبة العجز التجاري إلى 40% من الناتج المحلي، و18% في ميزان المدفوعات.
2- فشل تخفيض نسبة الدين العام إلى 77% من الناتج المحلي الإجمالي مع نهاية سنة 2021. في حين واصل الدين العام ارتفاعه، إذ بلغت نسبته في نهاية سنة2021 حوالي 111 % من الناتج المحلي الإجمالي وبقيمة إجمالية بلغت (35.767) مليار دينار، وفق المعلومات الواردة في نشرة وزارة المالية الصادرة في نيسان 2022.
3- وجهت عضوية الأردن لمنظمة التجارة العالمية، ضربة مؤلمة للصناعة والزراعة الوطنية في البلاد .
الآثار الاقتصادية والاجتماعية لبرنامج الصندوق
تُعدّ الطبقة العاملة وجموع الفقراء الكادحين المعدمين والطبقة الوسطى من أولى المتضررين من سياسة الخصخصة، إذ تعرضت أوساط واسعة من العمال والفنيين والمهندسين للفصل من العمل، فسُـرّح حوالي 20% من العاملين في القطاعات التي خُصخصت وفقا لمعلومات لجنة تقييم التخاصّية الحكومية، منهم 10.4 % من الذين لم يستوفوا شروط التقاعد، وغالبا لم يتمكنوا من إيجاد عمل بديل، وانضموا إلى جيش العاطلين عن العمل.
لم يشعر المواطن بأثر إيجابي للنمو على أوضاعه المعيشية، بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، والتوزيع غير العادل لعائدات الثروة، بل على العكس من ذلك؛ دفع المواطنون أثمانا باهظة بسبب زيادة الضرائب غير المباشرة "ضريبة المبيعات"، إضافة إلى الضرائب الخاصة على الكهرباء والمحروقات، وارتفاع معدلات البطالة الى حوالي 19% في سنة 2019 قبل تأثر البلاد في جائحة كورونا.
تراجع الدعم على المواد الأساسية والخدمات الصحية والتعليمية، ومع ذلك لم تتحقق الأهداف المعلنة للسياسات الاقتصادية، بتخفيض عجز الموازنة والحد من تنامي المديونية، ورفع نسبة نمو الاقتصاد. تأتي هذه السياسات في إطار الوصفة العامة لصندوق النقد والبنك الدوليين للبلدان النامية التي تواجه مشاكل اقتصادية، دون مراعاة لخصائص كل دولة على حدة، كما لم نشهد أن تمتّعت دولة تخرجت من برامج الصندوق بالشفاء بعد استخدام وصفة الصندوق.
- الورقة بالتعاون والشراكة مع مكتب تونس لمؤسسة فريدريش إيبرت، من خلال مشروعه الإقليمي سياسات اقتصادية من أجل عدالة اجتماعية,
للإطلاع على باقي الأوراق البحثية انقر (هنا)