"سكون".. جهد شبابي لمقهى أدبي بطابع عصري
لم تكن فكرة بيت القهوة أو مكان الراحة وتبادل الأحاديث واللقاءات فكرةً حديثة العهد، إلا أنها بمرور الزمن أصبحت مكانًا ثالثًا للأشخاص يقصدونه بعيدًا عن منازلهم وأماكن عملهم لتفريغ ضغوط الحياة ومشاركة القهوة والنقاشات والأنشطة، متخففين من قيود المنزل وأحكام العمل مع آخرين يشعر معهم الشخص بالألفة والأنس.
في السنوات الأخيرة تطوَّر مفهوم المقاهي لتتجاوز فكرة قضاء وقت قصير لمجرد احتساء القهوة أو سماع آخر الأخبار من مرتادي المقهى، وباتت تجسد مفهوم المكان المريح الدافئ متعدد الأنشطة الذي يعكس تصميمه الداخلي أمانًا وراحة تجعل مرتاده يكوِّن علاقةً خاصةً بالمكان ويمكث فيه لساعات طويلة للدراسة أو العمل أو القراءة أو المشاركة في الأنشطة والفعاليات المختلفة التي يعقدها.
مقهى سكون أحد مقاهي وسط البلد في عمان والذي عزَّز مفهوم المكان الثالث، ويتجلى ذلك في تفاصيل المكان بتصميمه المريح وديكوراته التي تشبه المنزل وانتشار الكتب على مختلف جدرانه، فجمع بين الراحة والثقافة والترفيه وتبادل النقاشات والفعاليات الفردية والجماعية خلال أيام الأسبوع داخل حلقات نقاشية.
المدير العام لمقهى سكون، مراد الشركسي ذكر لـ"صوت شبابي" أن فكرة سكون ولدت من خلال "بسطة" كتب صغيرة في منطقة وسط البلد، الذي يعتبر بيئة حاضنة للثقافة في ثنايا طرقاته، ما جعل فكرة هذه البسطة أبعد من مجرد بيع للكتب، يقول: "بل كان الحلُم أن نفتتح مكانًا يستطيع القارئ أن يقرأ ويطرح أفكاره ويتشارك نقاشاته مع الآخرين داخله، وهو ما دفعنا لاستفتاء الجمهور حول الفكرة وإذا ما كانت ستلقى إقبالًا لدى الجمهور وهو ما أراده المتابعون بشدة وأثنوا عليه، لكنه بقي مجرد حلم لمدة خمس سنوات إلى أن سنحت الفرصة لافتتاح مقهى سكون عام 2023".
ويتابع الشركسي أن اختيار اسم سكون خُلق من الحاجة فالقارئ يحتاج لجو من الهدوء والسكينة والراحة لتنشأ بينه وبين الكتاب علاقة وتركيز بعيدًا عن التشتت فجاء اسم "سكون" ليجمع هذه الخصال ويجعل القارئ يغوص في رحلة هادئة مع كتابه.
يحتاج الشباب إلى مكان يجتمعون فيه بأجواء مريحة دافئة يفرغون مكنوناتهم ويعبرون عن شعورهم ويتشاركون النقاشات والأحاديث ومختلف الأنشطة مع غيرهم في إطار مريح غير رسمي، ويستطيعون الذهاب إليه خارج أوقات التزاماتهم، يوضح لنا الشركسي في هذا السياق أن مقهى سكون يلبي هذه الحاجة لدى الشباب فهو مكان يهربون إليه من عملهم أو منزلهم وهي فكرة قديمة لدى الناس تتمثل في المقهى الشعبي الذي يتشاركون فيه الأحاديث بعيدًا عن صخب الحياة، لافتًا إلى أنهم في مقهى سكون يعطون المكان صبغة أدبية من خلال النقاشات في كتب أدبية والحديث عن الكتاب والأدباء.
يوضح الشركسي أن سكون بات المكان الأول له فهو يقضي فيه غالب يومه كما أصبح للكثير من الزبائن مقصدهم الأول بعد انتهاء انشغالاتهم، وأضاف أن فكرة المكان وتطبيقه من خلال التصميم الداخلي يأتي من فكرة حاجة القارئ "فهنا في سكون لن يكون مقيَّدًا كما المكتبات العامة بالطابع والمعاملة الرسمية بل جاء سكون ليكون بيتًا للقارئ في تفاصيل تصميمه ومختلف الإضافات فيه، وتعامل الفريق معه، فهو ليس مكانًا لاحتساء القهوة أو اقتناء كتاب فحسب بل أكثر من ذلك".
*تنوعية المكان تجذب الشباب*
وحول الذي يميز مقهى سكون عن غيره قال الشركسي إن الذي يجعل سكون مختلفًا هي التنوعية في الأنشطة التي يقيمونها فهناك جلسات أسبوعية لمناقشة كتب، وقسم للألعاب الترفيهية كما تُعقد جلسة نفسية أسبوعية تُطرح فيها قضايا نفسية هامة لدى الشباب، مبيِّنًا أن الهدف من هذه الفعاليات على اختلافها هو عزل الشخص عن الهاتف والعوالم الافتراضية التي باتت تسرق معظم وقته، وتعزيز التفاعلية الاجتماعية وتكوين العلاقات وتبادل الآراء.
إقبال واسع على الفعاليات التي يقيمها مقهى سكون، فجمهور كل فعالية يختلف عن الأخرى حسب اهتمامات الشباب الترفيهية أو النفسية أو الثقافية النقاشية والتي يخصص كل يوم في الأسبوع لنوع معين من الأنشطة، فيذكر الشركسي أن هناك برنامجًا يضعه سكون لزبائنه يعلن من خلاله عن كل فعالية في اليوم الخاص بها مع موعدها وما تتخلله من أنشطة.
ويوضح أن هذه الجلسات التفاعلية تكسر حاجز الخوف أو الرهاب لدى الكثير من الأشخاص وتشجعهم على إبداء رأيهم والإبحار في عوالم كثيرة من خلال مختلف أنواع الأدب خلال النقاشات "وهذا ما يسعى سكون لتعزيزه، فهناك أشخاص لم يجدوا مساحةً للتعبير واحترام الرأي، حيث نقوم من خلال تسيير الجلسة بتحفيز الأشخاص على المشاركة وإبداء آرائهم والتعبير عن أفكارهم"
الكثير من المشكلات النفسية والتي تترك آثارًا سلبية على جمهور وسائل التواصل الاجتماعي يرى القائمون على سكون أنها أمر يستحق تسليط الضوء عليه، وهذا ما كرسوه من خلال جعل يوم لجلسات نفسية نقاشية جماعية، يحددون إحدى المشاكل أو الاضطرابات النفسية الجدلية في الوسط الشبابي ويقومون بالبحث والإعداد حولها لتوضيحها خلال الجلسة وتصحيح المفاهيم عنها، لمعرفة الأعراض الحقيقية لهذه المشكلات والتوعية الوقائية للشباب من مثل هذه المشكلات.
*من الشباب للشباب*
مكانٌ فكر أصحابه الشباب كيف يستقطبون بقية شباب جيلهم لاستثمار أوقاتهم والترفيه عن أنفسهم وتوفير متنفس بطابع أدبي ثقافي يظهر في شكل المكان وأركانه وطبيعة محتوياته فكان نتاج تظافر هذه الجهود مكان يبحث عنه الشباب ليقضوا وقتًا مريحًا، تصف مروى عايش إحدى زبونات سكون إن تجربتها الطويلة في المقهى مريحة جدًا "فتشعر أنك في بيتك ولست مقيدًا خلال وجودك في المكان كما أن فريق العمل مريح بشكل كبير " معتبرةً هذه التجربة من أفضل تجارب حياتها وتشعر أن سكون بات جزءًا هامًا من يومها كما ساعدتها أجواؤه على الدراسة "فهو مريح نفسيًا وساعدها على تنظيم وقتها في الدراسة" على حد قولها.
وأضافت عايش أن الأنشطة لمقهى سكون تلامس الزبائن الحاضرين، مبينةً أنها تجربة متكاملة بين الترفيه والراحة والمذاكرة والمناقشة تلبي احتياجات مختلف الشباب، وجمعها في مكان واحد بتصميم للمكان مريح ولطيف يجعل منها تجربة ثرية.
وحول الأفكار التي ينفذها مقهى سكون ذكر الشركسي "أنها تنبع من قراءاتنا للأدب وفهمنا للجيل الحالي وما يدور في عقول الشباب فحاولنا جمع الأمور التي يحبونها مع أفكار هادفة في مكان واحد وهذا الي طلعنا فيه بسكون، وأي فكرة تضاف لسكون هي من وحي تجربتنا ومعرفة رغبات الشباب وتطورات السوشال ميديا ومواكبتها بأسلوب شيق ومحتوى هادف"
وأضاف أن مقهى سكون يطرح فكرة التدريب كل فترة، حيث يقومون باختيار شخص وتدريبه على بيع الكتب وتحضير القهوة لتكوين خبرة لدى الشباب الذين يواجهون عائق الخبرة عند رغبتهم بالالتحاق بوظيفة مشابهة.
في سياق متصل تذكر رغد سمير موظفة "السوشال ميديا" لدى سكون لـ"صوت شبابي" أنها عند ارتيادها المقهى للمرة الأولى شعرت من أجوائه أنه كبيت العائلة، يحتوي مختلف الأطياف بأنشطته المتنوعة، "أصبحت أزور المقهى بشكل يومي ويعجبني الانسجام بين فريق المقهى فكنت حابة أكون جزء من هذه العائلة، ما بعاملوكِ كموظفة، بل كأخت لهم لطيفين جدًا ومتعاونين ورغم أني حاولت الالتحاق بعمل آخر لأني بقيت أشعر بالانتماء لسكون".
وتضيف عن تجربتها "لم أكن أميل لقراءة الكتب أبدًا إلا أني بزيارة سكون اليومية أصبحت أحب الكتب وآتي للمكان لقراءة كتاب معين في كل مرة، كما تعرفت على الكثير من الأشخاص في سكون وصاروا من المقربين لي، تشعر هنا أن الجميع يعرف بعضه ويألف الآخر بسهولة ويدخل معهم في نقاشات ويتشارك الألعاب وهذا يضفي جو من الألفة".
توضح رغد أن مقهى سكون استطاع أن يترك انطباعًا وأثرًا جيدًا في الشباب "فأحد رواد المقهى كان شاب في مرحلة التوجيهي ولم يكن يهتم كثيرًا بالدراسة، إلا أنه تأثر بالطلبة الذين يقصدون المقهى للدراسة وأصبح يقوم بزيارة المقهى بهدف الدراسة وأخبرهم بعد ظهور النتائج أنه تحصل على معدل مرتفع".
*سكون متفاعلًا مع قضايا مجتمعه*
ينخرط سكون في القضايا الواقعة في محيط مجتمعه والتي تؤثر فيه فحسب مدير المكان مراد الشركسي يذكر أن تفاعل سكون مع قضايا المجتمع يتأتى من كونه مكانًا اجتماعيًا ثقافيًا وأدبيًا "ففي الطوفان تحولت مناقشات الكتب من متنوعة وأدبية إلى كتب تختص بالقضية الفلسطينية لكُتاب مثل غسان كنفاني ومريد البرغوثي ومناقشة لسميح قاسم ودواوين لمحمود درويش فكانت نقاشات كثيرة في مختلف جوانب القضية وتثقفنا حولها لنوجه الشباب لها فكثير منهم يجهل كيف بدأت الحكاية في فلسطين وكيف بدأ الأدب الصهيوني الذي دفع لوجود فكرة دولة صهيونية.
وذكر أن فريق سكون شارك يوم الإضراب العالمي لأجل فلسطين، كما شارك في المسيرات ضد الاحتلال ساعين من خلال فعاليات المقهى لتوجيه الشباب نحو قضاياه.
* مكان لكل قارئ وغير قارئ*
يتسم مقهى سكون بتوفير أماكن مريحة للقراءة وخزانات كتب تحوي الكثير من العناوين في مختلف المجالات فهو نقطة بيع كتب كما يوفر كتبًا للقراءة في المكان فهو على حد قول الشركسي "ليس لتوفير جو للقارئ فحسب بل لتشجيع غير القراء على القراءة والمشاركة في نشاطات مناقشة الكتب فمن خلال أجواء المكان المليء بالكتب يحفز الشباب على القراءة لكسب قرّاء جدد".
ويوضِح أن الزبون يستطيع أن يستبدل كتابه بكتاب من مقهى سكون بعد الانتهاء من قراءته، كما يستطيع طلب كتابه ليصله إلى بيته فالمقهى يوفر خدمة توصيل الكتب، كما يستطيع رواد المكان اقتناء مختلف الكتب المعروضة.
تُظهر جهود الشباب في مقهى سكون أهمية الإبداع كوسيلة للتغيير الاجتماعي والثقافي، فالمقهى ليس ملاذًا للراحة والتسلية فحسب، بل نقطة انطلاق لأفكار جديدة تساهم في التغيير بأيادٍ شبابية، ما يعزز من روح التعاون والتفاعل المجتمعي.