لطالما عرفنا أنّ للفنّ بأشكاله المتعددة تأثيرًا عاطفيًا قويًا، لكن هل يمكن للفن فعلًا أن يُساعد الشباب في التخفيف من أعبائهم النفسية؟
"على الرغم من تميزي الأكاديمي في المدرسة، إلا أن حصة الفن دائمًا كانت من أولوياتي. ومع مرور الزمن، في الثانوية العامة، رغبت في تجربة فنّ النحت، فقمت بصنع قلادة على شكل قلب الإنسان، كانت قطعة فريدة غير متوفرة في الأردنّ، وقمت بنشر صورة لها على "فيسبوك"، انتشرت بشكل كبير وحظيت بإعجاب الجميع، وشجعني الناس على بدء مشروع وتحويل هذه القطعة إلى منتج، بلغ أول رأس مال ملكته عشرة دنانير، ومن تلك العشرة دنانير، اليوم أنا أملك "أفانين"، استديو خاص بفنّ النحت والعلاج بالفن."
هكذا وصفت الشابّة أفنان موسى، النّحاتة والخزّافة وأخصائية العلاج بالفن، رحلتها نحو كسب المال من خلال العلاج بالفنّ، بعد دراستها له في الجامعة الأردنية.
يستند العلاج بالفن على أسس علمية قوية تدعّم فعاليته في مجالات عديدة من الرعاية الصحية والتربويّة، حيث ترى أفنان أنّ العلاج بالفنّ هو نوع من أنواع العلاج النّفسي، يتم تسخير العملية الفنية فيه بشكل غير مباشر، لتحقيق أهداف علاجية تخصّ مشكلة نفسيّة يعاني منها المريض.
وأضافت أفنان أنّ آلية العلاج بالفن تعتمد على استخدام أنواع مختلفة من الفنون، مثل الرسم، والتصوير، والنّحت، والغناء، والدراما، والتمثيل، في جلسات العلاج، بحسب طبيعة الحالة التي ستتم معالجتها، ويتم اختيار الأدوات والمواد المناسبة التي يمكن استخدامها بشكل آمن ومريح مع المريض.
وأشارت الأستاذة الدكتورة في علم النفس التربوي وجدان الكركي أن العلاج بالفن يسمح للمريض بالتعبير، بينما يساعد المختص النفسي في فهم وتحليل المشكلة ووضع خطة علاجية تتضمن أساليب مختلفة مثل العلاج السلوكي المعرفي والتحليل النفسي وغيرها، استنادًا إلى الحالة الفردية للمريض.
وذكرت أفنان أنّ هذا النوع من العلاج يحظى باهتمام خاص من قبل الشباب، نظرًا لما يواجهونه من ضغوطات نفسية واجتماعية في حياتهم اليومية؛ حيث توفر هذه الجلسات لهم متنفسًا إبداعيًا للتعبير عن مشاعرهم والتعامل مع التوتر والقلق بطرق غير تقليدية، مما يساعدهم على تحقيق التوازن النفسي والتغلب على التحديات بأسلوب إيجابي وملهم، وأضافت: "معظم العملاء الذين يترددون على الاستديو هم من فئة الشباب".
وأكدت الكركي أنه من خلال الاستفادة من الأساليب الفنية المختلفة، يستطيع الشباب تفريغ طاقتهم والتعبير بحرية. بعد ذلك، يمكننا أن نتحاور لفهم المشكلة بشكل دقيق ووضع برنامج علاجي مناسب.
في سياق توظيف العلاج بالفن في مجال البحث العلمي، أُنجزت رسالة دكتوراه في جامعة مؤتة حول فعالية العلاج بالفن (الرسم) في تنمية الاندماج الاجتماعي وتخفيض النزعة الاندفاعية لدى طلبة جامعة مؤتة الجدد، وقد تم تطبيقها على طلاب الجامعة وتنفيذها بواسطة د. حسام ضمور، رئيس شعبة الخدمات الإرشادية في مركز الملكة رانيا العبدالله للدراسات التربوية والنفسية عبر برنامج تدريبي، بحسب الكركي.
وبما يتعلق باستخدام العلاج بالفن كبديل للعلاجات الطبية، بيّنت أفنان أنّ العلاج بالفنّ لا يمكن أن يعالج السرطان أو التوحد، لأنه ليس وصفة طبيّة، ولكنّه يعزّز جودة حياة الأفراد. على سبيل المثال، إذا كان الشخص يعاني من السرطان ويصاحبه اكتئاب بسبب هذا المرض، فيمكننا معالجة الاكتئاب وأعراضه باستخدام العلاج بالفنّ، وليس السرطان.
وكشفت أفنان أن جلسات العلاج بالفن في استوديو "أفانين" الخاص بها، تُدار باستخدام مادة الطين الخزفي، مشيرةً إلى أن كل جلسة تُصمم بشكل مخصص وفقًا لحالة كل شخص.
أما بالنسبة للفوائد العلاجية، ذكرت أفنان أنّ العلاج بالفن يشمل تعلم مهارات حياتية جديدة، ويقدم فوائد عديدة للشباب، قد لا يكونون قادرين على تعلمها أو اكتسابها نظرًا لقلة تجاربهم وخبراتهم في الحياة، كمهارة التعبير عن المشاعر، وتعزيز الوعي الذاتي؛ فأثناء العمل على الطين مثلًا، يمكن أن تحدث تشققات، مما يتطلب دمجها بالإسفنج أو باليد، وهذا يُعلم مهارة حل المشكلات.
وقالت أفنان إنّها عندما أسست "أفانين" من مدّة ليست بطويلة، كان هدفها الأساسي إقامة جلسات العلاج بالفن لتوعية الشباب والمجتمع حول هذا المجال وتعزيزه في الأردن، وأرادت أن توضح فوائد العلاج بالفن وكيفية تأثيره الإيجابي في تحسين نوعية الحياة.
تجربة واقعيّة
خلافًا للاعتقاد الشائع، لا يتطلب العلاج بالفنّ امتلاك الموهبة، فجميعنا فعليًا نملك قدرًا من الإبداع بأشكال مختلفة، الأهمّ من الموهبة هو رغبة الفرد في المشاركة وانفتاحه على تجربة جديدة.
في تجربتها مع العلاج بالفنّ في استوديو "أفانين"، وصفت الطبيبة العامّة والجرّاحة والباحثة، د. طَيف الصّرايرة (٢٦ سنة)، الورشة باختصار بأنّها "لا تُنسى، وتُعاد"، مُعتبرة أنّ الشباب بحاجة لتجربة هذا النوع المختلف من العلاج، لاستشعار معانيه الرائعة بكلّ خطواته.
العلاج بالفن ساهم بشكل كبير في تحسين حالة طَيف النّفسية، حيث كانت تعاني من فترة صعبة نتيجة عدة أمور، وكانت بحاجة ماسة للتخلص من التوتر والاحتراق العصبي الوظيفي، حيث ساعدتها الجلسة على تفريغ جزء من الطاقة السلبية من خلال تشكيل الطين الخزفي وصبّه وتلوينه.
عن أكثر تجربة مؤثّرة في الورشة أشارت الصرايرة إلى اختبار نظريّة "كلّ ما يُكسر يُمكن تصليحُه"، وتشرح عن التجربة أكثر: "قمنا بكسر صحن مصنوع من الفخار، كان جافًا جامدًا وسهل الكسر، بسبب عدم اكتمال احتراقه. وعلى الرغم من أنه تكسّر، إلا أنه كان بإمكاننا إعادة تشكيله من جديد وصنع شيء أصلب وأقوى. هذه التجربة تذكرني على الدّوام أنّ الإنسان قادر على التعافي من الصعوبات والتحديات، وأن بإمكانه أن ينمو ويتجدد بشكل أقوى بعد كل انكسار".
ونصحت الصرايرة باختبار هذا النوع الجديد من العلاج، وتقول: "كطبيبة، عندما يطلب المريض بديلًا للأدوية، أوجّهه إلى هذا العلاج الذي يحمل معنى ومغزى، مستندًا إلى دراسات علمية دقيقة وموثوقة". متمنّية أن ينتشر هذا النهج بين الشباب ويتسنى للجميع تجربته، فالأهم ليس النتيجة النهائية أو الصورة الجمالية، بل العملية نفسها والطريق إلى الهدف المنشود.
وشددت الصرايرة على أنّ هذا النهج مبتكر وجميل، قد تم استخدامه في دول عدة منذ فترة طويلة، متطلعة إلى وجود مرافق مثل استوديو "أفانين" في كل مكان في المملكة؛ لأن هذه التجربة فرصة ثمينة لكل شاب في مقتبل عمره لتحسين حالته النفسية واكتساب مهارات حياتية قيّمة، ولكلّ فئات المجتمع.