تعد نسبة المشاركة في القوى العاملة على مستوى العالم 51.3% من إجمالي سكانه، حيث يعمل حوالي 1.63 مليار شخص في 138.6 مليون شركة، إلى جانب 2.2 مليار آخرين يعملون لحسابهم الخاص أو في القطاع غير الرسمي. وقد أعلنت منظمة الصحة العالمية أن شعار اليوم العالمي للصحة النفسية لعام 2024 سيكون "الصحة النفسية في مكان العمل"، مؤكدة أن الظروف غير الصحية، بما في ذلك الوصم والتمييز والتعرض لمخاطر مثل التحرش وظروف العمل المتردية، تشكل تهديدات خطيرة للصحة النفسية، مما يؤثر على جودة الحياة والإنتاجية في العمل.
إن بيئات العمل الآمنة والصحية لا تُعدّ فقط حقاً أساسياً، بل إنها تسهم أيضاً في تقليل التوتر والنزاعات، وتحسين استبقاء الموظفين وزيادة الإنتاجية في المقابل، قد يؤدي نقص الدعم والهيكلة الفعالة في بيئة العمل إلى تدهور الأداء وحتى فقدان الوظيفة. ومع مشاركة 51.3% من سكان العالم في العمل، تبرز الحاجة الملحة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة تضمن الوقاية من المخاطر النفسية وحماية الصحة النفسية في أماكن العمل.
ونظرًا لأن المدارس من أبرز بيئات العمل التي تستقطب أعدادًا كبيرة من الموظفين، حيث يمتد تأثيرها من بيئة العمل إلى المجتمع بأكمله، فمن الضروري تسليط الضوء على التحديات التي يواجهها العاملون فيها، وبحث سبل التغلب على تلك المعيقات لضمان بيئة عمل أفضل.
تعد الصحة النفسية للمعلم أحد أهم العوامل التي تؤثر بشكل مباشر على جودة التعليم والأداء العام في البيئة المدرسية مع تزايد الضغوط والتحديات التي يواجهها المعلمون يوميًا، تتضح الحاجة الملحة إلى معالجة هذه القضية بجدية من قبل المجتمع والإدارات التعليمية.
التحديات النفسية التي يواجهها المعلمون كثيرة، وتعكس طبيعة العمل المضغوط في المدارس يقول الأستاذ عمران، معلم رياضيات، إن أبرز التحديات التي يواجهها هي ضغوط الوقت والتوقعات العالية من الإدارة وأولياء الأمور، بالإضافة إلى إدارة الصفوف الكبيرة "أشعر أحيانًا بأنني مطالب بالقيام بالكثير في وقت قليل"، يقول عمران هذا الشعور بالضغط لا يقتصر على الجوانب الأكاديمية فقط، بل يمتد إلى التعامل مع طلاب قد يكونون غير متعاونين أو غير مهتمين، مما يضيف عبئًا إضافيًا على المعلمين.
التوتر والإجهاد المرتبط بالعمل يؤثر بشكل كبير على الأداء اليومي للمعلمين "عندما أشعر بالتوتر، يؤثر ذلك على صبري وقدرتي على التركيز"، يوضح عمران يقل التفاعل مع الطلاب ويصبح المعلم أقل قدرة على الإبداع في تحضير الدروس هذه الضغوط اليومية تساهم في استنزاف طاقة المعلم، وهو ما يؤثر بشكل مباشر على جودة التعليم التي يتلقاها الطلاب.
من ناحية أخرى، يرى عمران أن الدعم المقدم من الإدارة والوزارة غير كافٍ لتعزيز الصحة النفسية للمعلمين "نحتاج إلى جلسات دعم أو استشارات نفسية مخصصة للمعلمين لتخفيف الضغط النفسي بشكل فعّال"، يضيف ورغم وجود تدريبات دورية تقدمها الوزارة، إلا أن الجانب النفسي يبدو مهملًا في هذه التدريبات يشير عمران إلى أن الحلول الفردية قد تساعد في التخفيف من الضغوط، مثل ممارسة الرياضة أو التحدث مع الزملاء لتبادل الدعم والنصائح.
توافق أولياء الأمور على أن الصحة النفسية للمعلم تلعب دورًا كبيرًا في جودة التعليم، تقول خلود، وهي والدة أحد الطلاب، إن العلاقة بين أولياء الأمور والمعلمين قد تكون محدودة، ولكنها تؤمن بأن التواصل الإيجابي مع المعلمين يمكن أن يخفف من الضغوط التي يواجهونها "أعتقد أن التواصل المفتوح مع المعلمين قد يخفف من التوتر، بينما قد يؤدي النقد المستمر أو عدم التقدير إلى زيادة الضغوط النفسية عليهم"، تضيف خلود.
وتؤكد خلود أيضًا على أهمية الصحة النفسية للمعلم بالنسبة لأداء الطلاب "عندما يكون المعلم في حالة نفسية جيدة، يكون أكثر قدرة على التفاعل مع الطلاب بشكل إيجابي ويستطيع توصيل المعلومات بطريقة أفضل"، تقول خلود. تؤثر الصحة النفسية للمعلم بشكل مباشر على الطلاب، حيث أن المعلم المضغوط قد يجد صعوبة في التفاعل بشكل مثالي مع طلابه.
من خلال تجربتها الشخصية، تشير خلود إلى أنها لاحظت تأثير الضغوط النفسية على معلمي ابنها في أوقات معينة "لاحظت أن هناك معلمين يظهرون توترًا أو انفعالًا أكبر من المعتاد، مما أثر على تعاملهم مع الطلاب"، تقول خلود أن دعم المعلمين من قبل أولياء الأمور والإدارة يمكن أن يساعد في تحسين صحتهم النفسية ويجعلهم أكثر هدوءًا وتفاعلًا إيجابيًا مع الطلاب.
أما الدكتور سمير أبو مغلي، رئيس جمعية المنتدى الثقافي الأردني للتربية والتعليم،و رئيس جمعية علم النفس فيؤكد على أهمية الصحة النفسية للمعلم ودورها الحيوي في بناء مجتمع قوي ومتعلم. "تعد مهنة التعليم من أكثر المهن تأثيرًا في المجتمع، حيث لا تقتصر على نقل المعرفة فقط، بل تشمل بناء الأجيال وتشكيل القيم" و يشير إلى أن البيئة المدرسية بما فيها من ضغوط قد تشكل تحديًا كبيرًا لصحة المعلمين النفسية، ما يؤثر بدوره على جودة التعليم ومخرجات العملية التعليمية.
يضيف الدكتور أبو مغلي إلى أن ظروف العمل، مثل ازدحام الفصول الدراسية وزيادة الأعباء الإدارية، تشكل عوامل ضغط نفسي كبيرة على المعلمين "المعلمون غالبًا ما يشعرون بعدم التقدير من المجتمع والسلطات التعليمية، ما يضيف عبئًا نفسيًا إضافيًا" هذا الشعور بالظلم أو عدم الإنصاف يمكن أن يؤدي إلى الاحتراق النفسي، حيث يفقد المعلم شغفه ورغبته في العطاء.
وفي سياق متصل، تشير الأبحاث العالمية إلى أن الضغوط النفسية في مهنة التدريس ليست مشكلة محلية فحسب، تقرير بريطاني صدر في عام 2020 أشار إلى أن مهنة التدريس تعد من أكثر المهن التي تسبب التوتر النفسي، ويقول الدكتور أبو مغلي: "الضغوط التي يواجهها المعلمون في الأردن مشابهة إلى حد كبير لما يحدث في بريطانيا والولايات المتحدة"
العلاقات الإنسانية داخل المدارس تلعب أيضًا دورًا مهمًا في تحسين الصحة النفسية للمعلمين يرى الدكتور أبو مغلي أن العلاقات الجيدة بين الزملاء والإدارة تعزز من قدرة المعلم على التكيف مع التحديات اليومية، يقول: "عندما يشعر المعلمون بأنهم جزء من فريق داعم، فإن ذلك يساعدهم على تخفيف التوتر النفسي" لكن عندما تكون بيئة العمل متوترة، ويشعر المعلم بأن الإدارة تراقب كل تفاصيل عمله دون منحه الحرية اللازمة، فإن ذلك يزيد من الضغوط.
الدكتور أبو مغلي يؤكد على أن التشريعات والقوانين المتعلقة بالأجور وساعات العمل والإجازات قد تؤثر بشكل كبير على الصحة النفسية للمعلم "المعلم بحاجة إلى بيئة عمل تتفهم احتياجاته النفسية والمهنية"، التشريعات غير الملائمة يمكن أن تزيد من شعور المعلم بالإحباط وعدم الرضا عن وظيفته.
ومع كل التحديات التي يواجهها المعلمون، هناك حلول ممكنة لتحسين أوضاعهم النفسية، حيث يقترح الدكتور أبو مغلي عدة استراتيجيات تشمل التدخل المؤسسي وتغيير الثقافة الإدارية داخل المدارس لتكون أكثر دعمًا للمعلمين، كما يشدد على أهمية تقديم ورش عمل تدريبية لتعزيز مهارات الرعاية الذاتية لدى المعلمين وتوفير الدعم النفسي لهم.
في النهاية، يختتم الدكتور أبو مغلي بقوله: "الصحة النفسية للمعلم هي ركن أساسي في بناء مجتمع قوي ومتعلم. الاهتمام برفاه المعلم ليس رفاهية، بل ضرورة لضمان جودة التعليم وتحقيق مستقبل أفضل للطلاب والمجتمع ككل".