وعدُ ماركيز لبابلو نيرودا: أن نصبح نحن الكُتّاب أكثر شاعرية

"نستطيع أن نصل إلى عقد اتفاقية سِلميّة، بمعنى أن يصبح الشعراء أكثر 'سرديّة'، وأن نصبح - نحنُ الكُتّاب - أكثر 'شاعريّة'". هذه هي عبارة الروائي غابرييل غارسيا ماركيز التي عادت إلى رأسي، بعد أن قلبت الصفحة الأخيرة من رواية صغيرة لا تتعدّى الستين صفحة، هي "محاضرة في المطر" للكاتب الإسباني خوان بيّورو، الصادرة حديثاً عن "منشورات تكوين" بتوقيع المترجم مارك جمال. 

لماذا؟ لأن هذه الرواية الصغيرة أغنية خفيضة نُصِبَت برهافة كأرجوحة بين السرد والشعر، فلم تأتِ سرداً تماماً ولا شعراً تماماً. يقول الكاتب: "ولكن ما المحاضرة إن لم تكن شروداً منظّماً؟"، أفكّر أن هذا التعريف المقتضب يصلح تعريفاً للقصيدة أيضاً، وأتذكّر أنني وأنا أقرأ كنتُ أتخيّل أمين المكتبة (لم يخبرنا بيورو باسمه أصلاً)، كأنه ذاك الشاعر الذي "يتمشّى في هواجسه" - بتعبير محمود درويش - في هذا الجوّ الماطر، حيث المطر حاضر وغائب في آن، ككلمة تتكرّر في القصيدة فتصنع الهيكل والإيقاع، دون أن تتفرّد بالمعنى. يسرد بيورو على لسان بطله قصة كان يمكن أن تكون عادية، إنما جاءت شعراً يتساقط في المخيّلة كالمطر، ويجعلنا في اندماج مفاجئ وتامّ، ويترك فينا هذا الأثر العميق والمباشر الذي يميّز الشِّعر.

لطالما فُتِنتُ بهذا النوع من الروايات التي يكتبها أشخاص نشعر بعد قراءة أعمالهم بأنهم شعراء في حقيقتهم. لا أزال أذكر تماماً أي حالة شعورية عالية تركتني فيها رواية "ساعي بريد نيرودا" لأنطونيو سكارميتا، أو رواية "حرير" لأليساندرو باريكو، أو رواية "أورا" لكارلوس فوينتس. حالة لا تتركنا حين ننتهي من القراءة، بل ترافقنا لوقت طويل، كجملة في قصيدة نحفظها عن ظهر قلب. تتذكر الرواية، فلا تعود إلى رأسك الحبكة أو الشخصية، بقدر ما تعاودك بعض الجمل الشِّعرية؛ فترجع معها على الفور إلى الحالة الشعورية نفسها التي تركتك بها الرواية حين قرأتَها. 

أفكّر برواية "أورا" فأتذكر جوّها الجنائزي الكئيب، ومشاهدها المُبهَمة بين التوهّم والحقيقة، وكيف تكسر الفتاة الجميلة أورا كل هذا في كل مرّة تظهر فيها في مشاهد شاعرية ومرهفة كما في المشهد الذي يصف فيه البطل عينيها اللتين بلون البحر، واللتين "تندفعان كموجتين صاخبتين، ثم تتكسران، وتتحولان إلى زبد، ثم تهدآن ثانية، لتندفعا مرة أُخرى مثل موجة". أتذكّر رواية "حرير" فيعود إليّ ذاك اليقين بأن باريكو كتبها من أجل تخليد فكرة واحدة، فكرة شاعرية واحدة: "الموت من الحنين لشيء لن نحياه مجدّداً أبداً". أتذكّر "ساعي بريد نيرودا"، فأتخيّل الشاعر العظيم يقول للمرأة التي لا تعرف كيف تقرأ الشِّعر: "لا بد من تذوق الكلمات، على المرء أن يتركها تذوب في فمه".

حين سُئلتُ مرة في أحد الحوارات بعد صدور مجموعتي الشعرية الأولى ("التفاتة نحو نغمة خافتة")، عمّا أُحبُّ أن أكتب في المستقبل، أجبت: "أحلم بأن أكتب رواية تكون شاعرية جداً، إلى درجة تبدو معها كأنها قصيدة طويلة". في حينها، لم أكن قد سمعتُ بعد عبارة ماركيز التي افتتحتُ بها هذا المقال، والتي قالها الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز للشاعر التشيلي بابلو نيرودا في حوار عفوي جمع اسمين من أهم الوجوه الأدبية في القرن العشرين؛ إثر فوز نيرودا بـ"جائزة نوبل للآداب" عام 1971. يجلس الرجلان في المقابلة بعفوية، ويتحدّثان كصديقين، ويخوضان في هذا النقاش الشائك عن مدى التداخل بين السرد وتحديداً فن الرواية، وبين الشِّعر.

يعبّر نيرودا عن غيرته من الروائيين؛ لامتلاكهم تلك الخاصية التي تمكّنهم من "التحكم السردي المذهل والقدرة على رَوْي القصص"، وهو أمر أُهمِل في الشعر بعد أن كان في وقتٍ ما منبعاً له، برأي نيرودا، "لا يملك الشاعر أصابعَ لهذا البيانو" الذي هو السرد، إنما المجال مفتوح دوماً على التجريب من خلال الشِّعر. 

ففي الفترة التي نبَذ فيها الجميع الشعر الملحميَّ ولم يعد أحدٌ يحاول مُجرّد المحاولة كتابة شعر كشعر هوميروس، ولا كشعر المقاومة والشعر التعليمي، قرّر هو أن يخوض في ذلك النمط من الشعر رغبةً منه في تعليم شيءٍ ما عبر شعره. فيجيبه ماركيز بأنه على العكس يميل إلى "تحويل السّرد الروائي إلى شعر"، وعن غايته أن يجد "حلولاً شعريّة أكثر منها سرديّة لرواياته". فيجيب نيرودا: "الأمر الذي تجد نفسك مشدودًا لفعله من خلال الشعر، بدافع رغباتك وتحولاتك، لدي رغبةٌ بتنفيذه في شعري من خلال السرد. وهذا يمثّل جزءًا من عملية التطوّر التي يخضع لها الكاتب حيث يتوجّب عليه الخوض في مختلف المجالات". 

من هنا تأتي جملة ماركيز في الحوار، كخلاصة لنقاش ظهر فيه ككاتب يصبو إلى شاعرية أكثر في سرده، فيما بدا نيرودا يبحث أيضاً عن طُرق تمكّنه من سرد القصص إنما دون الابتعاد عن الشعر. "أشعر أنني سمكة في هذا البحر أو المحيط الصغير الذي هو الشعر"، يقول نيرودا.

بعدها بأربع سنوات، سنعرف أن ماركيز كان قد شرع فعلاً في هذا العام بكتابة روايته "خريف البطريرك"، الرواية التي اعتبر أنها "الترف الذي سمح به كاتب 'مئة عام من العزلة' لنفسه حين قرّر أن يكتب ما يريد أخيراً"، والتي صدرت عام 1975 في إسبانيا. 

برأي نيرودا، لا يملك الشاعر أصابعَ للبيانو الذي هو السرد

في كتاب "رائحة الجوّافة" (1982)، يتحدّث ماركيز باستفاضة لصديقه الكاتب والصحافي أبوليو ميندوسا عن "خريف البطريرك"، واصفاً الرواية بأنها "قصيدة في عزلة السلطة"، ويعزو السنوات الطوال التي تطلّبها هذا الكتاب إلى أنه كتبه "كما تُنظَم الأشعار، كلمة كلمة". ويعتبره "أوفر كتبه حظاً من التجريبية"، وأكثرها أهمية عنده بوصفه "مغامرة شعرية". 

والقارئ الذي يبحر مع ماركيز في مغامرته الطويلة هذه، يجب أن يكون صبوراً وغير متعجّلٍ، ليتمكّن من تذوّق هذا الكتاب الصعب؛ أن يقرأ بعناية ما كُتِب بعناية. اللغة هنا مرهفة، مائية، رقيقة، حالمة، عالية، مشغولة بعناية كما نفعل حين نكتب القصائد. حقائق تمتزج بالميثولوجيا، أزمنة وأمكنة تُدمَج بلا أي مراعاة للدقة كما العادة في الروايات، أغانٍ من الشاطئ الكولومبي وأبيات من الشعر اللاتيني، خرافات وأساطير وسحر وتبصير. 

الحبّ حاضر كشيء حالِم وخيالي، وكلما حضر اعتصر ماركيز اللغة أكثر وكثّفها، الراوي يتغير باستمرار وبلا إنذار، والجمل طويلة جداً بلا نقاط تقريباً، الوصف بصري وسمعي يصل إلى حدّ لا يعقل من التكثيف والتركيز. لا تشبه الرواية ما نسميه رواية، ولا تشبه أيضاً الروايات الشاعرية القصيرة التي أوردتُها مسبقاً حيث يمكن استدعاء الشعر بسهولة ضمن حبكة سلسة وواضحة تنساب فيها الأحداث بلا أي عائق. 

في "خريف البطريرك" وُظّف الشّعر واستُدعي عن قصد وانتُبه إليه لخدمة حبكة معقّدة، ولمناقشة موضوع شائك يتناول السلطة والديكتاتورية في أميركا اللاتينية على مدى سنوات طوال، بذكاء وتقنية وسوريالية وسُخرية وكوميديا أيضاً. تبدو هذه الرواية بالفعل قصيدة طويلة جداً، بقي فيها ماركيز وفيّاً لواقعيته السحرية، إنما طبّق فيها أيضاً تلك الاتفاقية السلمية التي عرضها على بابلو نيرودا قبل أربع سنوات "أن نصبح - نحن الكُتّاب - أكثر شاعرية".



* كاتبة وباحثة من لبنان مقيمة في فرنسا

أضف تعليقك