هيبة «الضاد» تستباح بمدارس أجنبية.. والضحايا جيل بلا هوية !

«هل لنا أنْ نتحسّس معالم الأشياء، ومواقع الجمال، وأبواب السحر والخيال، دون العربية؟».. بهذا التساؤل تباغتك مها طيفور، وهي تهمُّ بالحديث عن قصة إبنتها البكر مع اللغة العربية.

مردُّ حديث طيفور (أم مرام)؛ فقدان مرام «نعمة» تعلّم قواعد وأساسيات اللغة العربية، بعد أن التحقت للدراسة، منذ نعومة أظفارها، بمدراس أجنبية، لتحرمها كل هذه السنين خاصية التعبير عن ذاتها من خلال العربية.

«شعورٌ سيء، أن تكتشف حقيقة إبنتك التي لا تجيد التعبير عن لغتها الأم.. العربية، والأقسى من ذلك أن تصطدم مرام بعد أن أنهت التوجيهي، ودخلت الجامعة لتدرس التخصص الذي اختارته: علم الاجتماع، أنها غير قادرة على فهم المواد الجامعية»، تقول الأم.

 تعلم الأم جيداً أن المدارس الأجنبية لا تُوفّر في مناهجها المواد بالعربية، لكنها تصرُّ على أن «هذه المدارس تبقى أرحم ألف مرة من مدارس الحكومة، خصوصا أنها توفر لمرام الكثير من المميزات والضوابط التي تفتقدها المدارس الأخرى»، تضيف طيفور.

 ومرام واحدة من بين كثيرات لم يَجدنَ من يصوّب مسارهن التعليمي منذ الصغر، لتجد نفسها تفقد القدرة على الكتابة والمحادثة والتعبير عن ذاتها بالعربية، في ظل قصورِ تشريعات وزارة التربية والتعليم عن فرض إلزام المدارس الأجنبية بالعربية لغةً أساسيةً في مناهجها.

 حال مرام هو حال المئات، بل الآلاف من خريجي مدارس أجنبية، يفتقدون القدرة على التعبير عن أنفسهم باللغة العربية ويميلون لتبني اللغة الانجليزية على وجه الخصوص، على اعتبار أنها لغة «عصرية»، غير آبهين بهويتهم العربية وقوتها منذ القدم.

 افتقاد هذه المدارس لبرامج تُعظّمُ أهمية اللغة العربية في نفوس طلبتها، وأيضا جمود المناهج وافتقارها للحيوية؛ هي أسبابٌ أجمعت عليها آراء تربويين وتعليميين في بحثهم عن تفسير «تعاظم الفجوة بين الطلبة والعربية، والضعف العام في اتقان مهاراتها وأدواتها، مقارنة بالإنجليزية».

 نقيب أصحاب المدارس الخاصة منذر الصوراني، لم يُنكرْ «حقيقة» اهتمام الأهالي بتعليم أبنائهم الانجليزية محادثة وكتابة، عوضاً عن العربية، مجاراة لما يطلبه عمل المؤسسات والشركات في البلاد ، لكنه يعتبرُ أن «الأصل في المدارس الخاصة، خصوصًا الأجنبية، أن تتقيّد بمادة اللغة العربية، لكونها لغة أساسية، ومن خلالها يستطيع الطلبة بناء أفكارهم وثقافتهم وعلومهم، فهي منبع كل علم ومعلومة».



سرُّ الضاد



«إنَّ الذي ملأ اللغاتَ محاسنًا...جعل الجمال وسرّهُ في الضاد»، لم تنس أم مرام وهي تحدثنا عن قصة إبنتها، أن تعيد على مسامعنا ذلك البيت الشعري لأمير الشعراء أحمد شوقي، على أمل أن تفهم إبنتها معناه، وتستعيد اعتزازها بلغتها العربية. 

 ضرورة أن تنال العربية حظّها في المدارس الأجنبية، مثلها مثل بقية اللغات الأخرى؛ هي صرخة تمنت الأم أن تجد صداها لدى الأهالي والمسؤولين عن المناهج وأصحاب المدارس الأجنبية، ما يعني إدماجها في المحيط المدرسي وجعلها مادة إلزامية.

 أين يكمن سر لغة «الضاد؟»، يجيب وزير الثقافة الأسبق، د. صلاح جرار: «العربية، هي أصل الأشياء، وهي الأسُّ الأول لتحريك مشاعر الأفراد نحو القيم النبيلة في المجتمع، والعمل على رفع مدماك الفكر البشري، وتسجيلها لوقائع غيّرت مجرى التاريخ».

 لكن ذلك، لا يبدّدُ ما تبنته المستشارة التربوية بشرى عربيات، من أنًّ معظم طلبة البرامج الأجنبية «يعانون من ضعف واضح؛ يتمثل أولاً في عدم قدرة هؤلاء على التعبير عن أنفسهم بالعربية».

 وبحسبها، يعود سبب هذا الضعف لعدم الاهتمام بتدريس العربية في هذه المدارس، وتحديدًا في المرحلة الأساسية الدنيا، كما أن مناهج اللغة العربية في هذه المدارس من الصف التاسع وحتى الثاني عشر تكون في غاية الصعوبة عليهم؛ نظرا لعدم وجود أساس لغوي لديهم، إضافة ً إلى آلية امتحانات اللغة العربية لبرامج (IB، IGCSE) وغيرها التي تتطلب من الطلبة مستويات عالية لفهم اللغة العربية وكتابتها.



أزمة بطلها الشبح الأزرق!



في خضم مشكلة عزوف الطلبة عن اتقان العربية، وافتقار مناهج المدارس الأجنبية لمادة العربية، يأتي إقرار وزير الثقافة الأسبق، د. صلاح جرار، بأننا نعيش أزمة ذات تأثير كبير على هوية الأمة وأركانها.

فتيل هذه الأزمة، هو تعدد مصادر التعليم المختلفة، بحيث لم تعد هي المصدر الوحيد لتعلم اللغة العربية وإتقانها، بل شاركتها في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك أكثرها)»، يقول جرار.

ويزيد: «لا شكّ أن اللغة العربية، شأن العديد من اللغات تعاني من أزمات نتيجة تعرض هذه اللغات لظروف جديدة على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي التي فرضت نفسها بقوة على اللغة، بحيث أصبحت هذه الوسائل ذات أذرعٍ بالغة التأثير على الأجيال، وعلى مستخدمي هذه الوسائل».

وحلت اللغة العربية في المرتبة 17، وبلغت نسبتها من المحتوى الكلي على الإنترنت 0.6 ٪ مع نهاية 2018، متراجعة عن المرتبة السابعة التي كانت عليها في العام 2011 وبنسبة وصلت آنذاك إلى 1.6 ٪.

غيرَ أن هذه الوسائل لا يمكن الاعتماد عليها كليا، بحسب جرار؛ بسبب ما يشوبها من أخطاء كثيرة قد يعتقد القارئ لها أنها تمثل وجه الصواب، فهناك أخطاء كثيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، سواء في النحو والصرف والإملاء، وحتى الدلالات التي هي المعاني.

وعلى ذلك، فإنّ هذه الوسائل على الرغم من أهميتها البالغة، إلا أنها تنشر الخطأ على نطاق واسع، كما أن بعض الكتابات التي يقرؤها متصفحو هذه الوسائل، تبتعد في مجملها عن الذوق السليم من الاستخدامات، وفقا لجرار.

وبحسبه، هناك جوانب أخرى من الأزمة، تتعلق في المزاوجة بين العربية واللغات الأخرى، والمزاوجة بين العامية والفصحى، بالإضافة إلى ضعف التعليم في المدارس والمؤسسات التعليمية الأخرى».

ولاحظ جرار أن هناك أزمة أخرى؛ تتمثل بقلة ثقة الجامعات بقدرة اللغة العربية على التعبير عن العلوم العصرية من طب وهندسة.. الخ، ما أدّى إلى أن يقوم الباحثون باكتساب اللغات الأجنبية وتدريسها بدلاً من العربية».



سوق «الأجنبية» ينتعش



تزايد ظاهرة عزوف الطلبة والعوام، عن تعلم اللغة العربية وإتقان مهاراتها وقواعدها في السنوات الأخيرة، أنعش سوقاَ بين أوساط عديدة، بات يعرف بـ»سوق الأجنبية»! أبطالها طلبة وجامعيون ومعلمون، تكيفاً مع متطلبات سوق العمل!  

الخبير التربوي د. ذوقان عبيدات لم ينكر في حديثه لـ «الدستور» أن اكتساب اللغات الأجنبية ضرورة ملحة للفرد، خصوصا الطالب الجامعي، ولعلّ هذه الأهمية تزداد أكثر فأكثر من باب ولوج الطلبة سوق العمل بكفاءة.

لكن عبيدات يبدي قلقاً واضحاً حول أوضاع اللغة العربية، فهي مهدّدة أولاً باللغات الأجنبية، بينما تميل كثيرٌ من المؤسسات المهنية إلى توظيف من يتقن لغات أجنبية، بغّض النظر عن إتقانه اللغة العربية. وهو يلحظ ميل بعض الأسر إلى التركيز بتعليم أبنائها على اللغة الأجنبية فقط، وتركيز المدارس الخاصة على التدريس بلغات أجنبية.

ويرى أن مدرس العربية هو المسؤول عن صعوبة استساغة الطلبة لهذه اللغة، خصوصا ما يتعلق بتعقيدات لغوية لا صلة لها بالحياة اليومية، مثل إعراب بعض الكلمات والجمل النادرة مثل: «لاسيما، حيثما».

فالمعلم الجيد، بحسب عبيدات، هو الذي يعمل على تنمية قدرات التلاميذ ومهاراتهم عن طريق تنظيم العملية التعليمية، وضبط مسارها التفاعلي، ومعرفة حاجات الطلبة وقدراتهم واتجاهاتهم وطرق تفكيرهم وتعلمهم.

ويعتبر عبيدات أن البرامج الأجنبية تختلف عن العربية، خصوصا أن الطلبة يجدون في تعلم الإنجليزية ملاذا آمنا، وأكثر سهولة، وبالتالي من الطبيعي جدا تزايد الطلب والإقبال على المدارس الأجنبية.



 هل نملك صلاحية الحفاظ على العربية؟



ماذا يقع على عاتق المدارس الأجنبية لكي تحافظ على اللغة العربية؟ ثم هل نعاني من أزمة لغة، تنذر باشتعال أزمة مجتمعية؟



يقول التربوي والأكاديمي د. يوسف ربابعة: «ما يقع على عاتق المدارس الأجنبية لا يتم إلا من خلال قانون ينظم عمل هذه المدارس، وهو صعب أيضا بسبب قانون حرية التعليم في برامج دولية، فالوزارة لا تملك صلاحية إلزام الناس باختيار المناهج التي يريدونها، إلا بالحد الأدنى وهو فرض المناهج الوطنية إلى جانب المناهج الدولية».

ربابعة يرى أن هذا الأمر بالذات «فيه ظلم للطلاب أيضا، حيث يضطرون لدراسة مكثفة في منهاجين، لكن يمكن تطوير تعليم اللغة العربية في هذه المدارس ضمن القانون الحالي».

ولا يعتقد ربابعة أن هناك أزمة لغة؛ فطلاب المدارس الحكومية أو الخاصة في البرنامج الوطني ليسوا أفضل حالاً في اللغة العربية من المدارس الأجنبية، والمشكلة ليست في اللغة بل في المستوى التعليمي، حيث سيحصل طلاب المدارس الأجنبية على مستوى تعليمي أفضل، كما يكون لديهم مهارات أفضل في طرق التفكير، ما يؤدي إلى أزمة فكر وليس أزمة لغة.

وقدر عدد المدارس الخاصة العام 2018 بـ 3211 مدرسة، من أصل 7262 مدرسة في الأردن، فيما بلغ عدد طلاب القطاع الخاص في نفس العام 535 ألف طالب وطالبة، من أصل نحو مليوني طالب وطالبة في عموم مدارس الأردن، وفق إحصائيات حكومية.



 هل أتاكم حديث «فاطمة» ؟



 «العلم في الصغر، كالنقش في الحجر» لكن فاطمة (19 ربيعاً) أخرجت هذه المقولة من معناها عندما وجدت نفسها، بعد تخرجها من مدرسة أجنبية قريبة من ضواحي العاصمة، لا تجيد التعبير عن نفسها بالعربية.

 وبدافع القلق والخوف؛ من عدم إتمام الدراسة الجامعية، قررت فاطمة أن تكف عن الرؤية العادية، وتبدأ بتقدير الأشياء بمعيار جديد، آخذة على نفسها مهمة تعلم العربية من الصفر.

 عين الرجاء التي نظرت بها فاطمة، حين همت بتعلم العربية، ولدت لديها قناعة تامة أن «العربية؛ تجعلنا نتلمس مواضع الذوق والجمال من خلال مفرداتها التي لا تعد ولا تحصى»، حسبما تقول لـ»الدستور».

 حالة «الضعف» تلك، يجدها ربابعة متأتية «من عدم الاهتمام أولا، ثم من عدم الاستخدام ثانيا؛ فالمدارس الأجنبية تركز على اللغة الإنجليزية لأن كل المواد يتم تدريسها باللغة الإنجليزية، فالطالب لا يحتاج اللغة العربية إلا في الحد الأدنى من الاستعمال، وهو تحقيق متطلب النجاح في حده الأقل عادة».

 ما هي صلاحيات وزارة التربية والتعليم بفرض أن تكون العربية، لغة أساسية، في منهاج المدارس الأجنبية؟ يجيب ربابعة «وزارة التربية لها صلاحيات في إلزام هذه المدارس بتدريس مادة اللغة العربية من خلال منهاج الوزارة، لكنها لا تملك الصلاحية في فرض اللغة العربية في باقي المواد».

 لكن ما السبب في ذلك؟ يقول ربابعة «طلاب هذه المدارس لا يقدمون الثانوية العامة في المنهاج الوطني، بل يقدمون الامتحان الدولي بحسب النظام الذي يختارونه، لذلك لا يمكن أن تفرض عليه الوزارة مناهجها، ولا تستطيع فرض التدريس باللغة العربية».

فاطمة لمواجهة هذه المشكلة بدأت بالالتحاق بـ»كورسات» مكثفة لتعلم العربية، واتقان قواعدها ومهاراتها، مع اقترابها أكثر من قراءة القصص والروايات والكتب الفكرية؛ ليسهل عليها تعلم المصطلحات العربية وفهم معانيها.



جرس إنذار لحماية «الضاد»



إعادة الاعتبار للغة العربية في حياتنا اليومية، وإزالة التشوهات الكثيرة التي تعتري استخداماتها، يراها الأمين العام لمجمع اللغة العربية الأردني د. محمد السعودي «ضرورة كبيرة وملحة تستدعي حماية اللغة من العبث والتطاول عليها».

وتقرع قضية عزوف هؤلاء الطلبة عن العربية جرس الانذار، وتستدعي، بحسب السعودي، ضرورة توفير برامج أكثر فاعلية لحماية اللغة العربية، لكونها لغة الأمة وهويتها.

وبعد فوضى انتشار الإعلانات واللوحات التجارية في الشوارع ومختلف الأمكنة باللهجات العامية ولغات أجنبية، أخذ المجمع، بحسب السعودي، على عاتقه تفعيل قانون حماية اللغة العربية بحيث تلتزم المؤسسات والمحال التجارية بالقوانين والانظمة التي تحمي اللغة وتنقيتها من أي تشويه.

أضف تعليقك