مقامات عبد الرحمن في رواية عبد الرحمن والبحر لخالد حاجي
* تمـهيـد:
تعد رواية "عبد الرحمن والبحر" أول رواية للباحث الأكاديمي والمفكر المغربي خالد حاجي، وقد صدرت عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء وبيروت عام 2010، وتقع في ستين ومائة صفحة من القطع المتوسط، وتضم أربعة وعشرين فصلا، وهذه الفصول ليست معنونة، لكنها مرقمة بأرقام تعكس التسلسل الزمني للأحداث.
وقد اعتبرت الرواية لحظة صدروها، "فتحا جديدا في مجال الرواية العربية، حيث إنها تجمع بين العمق الفلسفي الفكري وجمال الأسلوب وحسن الصياغة الأدبية."([1])وهذا ليس غريبا على رجل عرفه القارئ العربي باحثا أكاديميا متخصصا في الأدب الإنجليزي، مبدعا في مجالات الفكر والفن. وهذا ما تشهد به محاضراته التي ألقاها في منابر علمية مختلفة، ودراساته وأبحاثه التي نشرها في مجلات عربية متنوعة.
ويمكن القول إن هذه الرواية قد دشنت نمطا جديدا من الكتابة الروائية العربية؛ إذ يمكن وصفها بأنها رواية حِكْمِية يتداخل فيها الأدبي والفكري، والبيان والبرهان، والشعر والفلسفة. وهذا التداخل - بحسب حاجي - ثم استواء العلاقة بين أطراف هذه الثنائيات، يتولد عنه ما يسميه بـ"الحكمة". والحكمة عنده هي "فعل تعبدي يحول دون الذات والخروج بالشعر والفلسفة عن حدود الاعتدال، فيسد الطريق أمام تأله الشاعر تألها حلوليا، وأمام تأله الفيلسوف تأله من يسع عقله كل شيء علما".([2])
وهذه الحكمة لا تختلف في شيء عما يسميه الباحث بـ"الفلسفة التعميرية" التي تقابل "الفلسفة التغييرية"، وهي فلسفة "يروم المشتغل بها تعمير العالم لا تغييره"، وهي "إذ تصدر عن السؤال: «كيف تعمر الأرض؟»، تبدع إمكانات دفع المضايق ورفع الحوائل التي تحول دون تمتع الإنسان في الطبيعة... ويظل العقل وفق مقتضى فلسفة التعمير موصولا بالشعر وبالبيان...".([3])
كما يمكن وصفها بأنها رواية فلسفية أو حضارية، تقدم أجوبة عن الأسئلة الحضارية الكبرى التي فرضت نفسها على الأمة الإسلامية في مرحلة ما بعد الاستعمار، والتي سبق لخالد حاجي أن طرحها في كتاباته.([4])
أضف إلى ذلك،أن عبد الرحمن – بطل الرواية - يجسد نوعا جديدا من البطولة؛ بطولة "أخلاقية مفقودة". وهذا النوع من البطولة غير مألوف في الرواية العربية.([5])
1- عبد الرحمن في مقام الخلوة/ مغارة التعبد:
قبل الحديث عن الخلوة في الرواية، نشير إلى أن الخلوة التي نتحدث عنها هنا لا علاقة لها بموضوعة الغربة أو الاغتراب التي شاعت في الشعر العربي الحديث، إذ إن دلالات هذه سلبية في الغالب، وهي ترتبط بمعاني الضياع والكآبة والتمزق والمعاناة، والشاعر المغترب يكون مغتربا في الكون كله، لا في مكان دون آخر، أو في لحظة دون أخرى. أما تلك – أي الخلوة - فدلالاتها إيجابية كما سنرى، وهي تكون للتعبد، وترتبط بمعاني التدبر في ملكوت الله، والاعتبار بآياته، والطمأنينة، والخشوع والخضوع لخالق الكون ومدبره.
وتعد موضوعة الخلوة أهم موضوعات الرواية بلا منازع؛ فقد استهل الكاتب روايته بمقطع يظهر فيه عبد الرحمن وقد اختار فضاء الجبل، ليعيش فيه منعزلا "وحيدا، صامتا ومفكرا، ناظرا ومعتبرا". وكان صمت الجبل الذي يقيم فيه، "يوحي له وكأنه يسكن الأبد والخلود، حيث يتعطل الزمن، وتقف الأحداث...". (ص5)، وهي مهمة لأنها هي التي ستؤهل عبد الرحمن للخروج إلى عالم المدينة؛ عالم الناس وهمومهم. وهي المقام الأول الذي سينتقل منه إلى مقام المدينة، ليصل أخيرا إلى مقام الضفة الأخرى. فمن أين استوحى الكاتب هذه الفكرة؟ وما الذي دفع عبد الرحمن إلى اختيار الخلوة والانقطاع عن الناس؟ وماذا أكسبت شخصيته؟
صرح خالد حاجي في إحدى حواراته قائلا: "بأن لكتابات نيتشه، وتحديدا لرائعته «هكذا تكلم زرادشت» وقعا كبيرا على نفسي، لقد تعلمت من نيتشه ضرورة المزج بين الأدب والفلسفة، بين لغة البيان ولغة الفكر".([6])
والحقيقة أن المؤلف لم يتعلم من نيتشه ضرورة المزج بين الأدب والفلسفة فحسب، وإنما استوحى منه فكرة «الخلوة» في الجبل كذلك، وهذا ما يتضح من خلال المقارنة بين شخصية زرادشت وشخصية عبد الرحمن؛ فكلاهما اختار الخلوة بعد فترة من الزمن عاشها في المجتمع؛ زرادشت بعد بلوغه الثلاثين، وعبد الرحمن بعد تجاوزه سن الأربعين، وكلامهما مكث في مغارته مدة عشر سنوات، وكان يرغب في أن يعيش إنسانا، وكلاهما كان يحب الناس ويرغب في الاتصال بهم وإصلاحهم، وكلاهما غادر مغارته باتجاه المدينة.([7])
غير أن نيتشه ليس هو المصدر الوحيد لهذه الفكرة، فثمة مصدر آخر، ربما أهم منه، وهو التراث الروحي للأمة الإسلامية. إن مغارة التعبد هي – حسب حاجي - "رمز للتراث الروحي والرصيد الرمزي لأمة بأكملها".([8])
وهنا نستحضر غار حراء في جبل حراء في مكة المكرمة، وهو الغار الذي كان يختلي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، قبل البعثة وأثناءها، للعبادة ومناجاة ربه، والتدبر في ملكوته وآياته، استعدادا للنبوة وتحمل الأمانة.
ولهذا الاختلاء دلالات عديدة، ربما كان أهمها أن الإنسان المسلم لا يكمل إسلامه إلا إذا اختلى إلى نفسه، يحاسبها ويتفكر في خلق الله، ويربي قلبه على محبة الله وتخليص النفس من آفاتها. وهذا لا يتحقق إلا بالخلوة، وبكثرة عبادة الله، والتدبر في آياته.
ولا يحدثنا السارد – بشكل مباشر - عن أسباب خلوة عبد الرحمن وانقطاعه عن الناس، غير أنه يمكن إجمالها في فساد الأمة وضلالها، وتفسخ القيم، وعجز المخزن وظلمه وفساده، وبؤس المدينة وشقائها، وغياب العمق عن الأمة، مقابل سيادة الابتذال والسطحية.
أما نتائج هذه الخلوة فهي كثيرة؛ فقد أكسبت شخصية عبد الرحمن خصالا حميدة، ووسمته بسمات عديدة، أهمها:
أ. العمق: لقد كان عبد الرحمن يختلف عن غيره من الناس، فلم يكن ينظر إلى الأشياء نظرة الناس إليها، بل كانت "عيناه تفتشان عن الأبعاد المؤسّسة للأشياء. قد يصيب وقد يخطأ [كذا]؛ لكن هذا لا يضره في شيء طالما الأمور لا تتوقف على خطإ تأويله أو صوابه." (ص26). كما أنه عوّد نفسه على "أن يقف عند الأحداث وقوف الفاحص الممحص الذي يطلب أغوارها، لا وقوف المستعجل المهرول؛ حيث لا تنتشر رائحة، ولا تنبعث نغمة، ولا تتجلى صورة إلا استوقفته، فأطال المكث عندها." (ص62).
وقد أعجب المعلم نوفل – صديق عبد الرحمن - أشد الإعجاب بعمق كلام عبد الرحمن، و"بجرْس كلماته وما كانت توحي به من علو المرتبة في التدبر والتأمل والنفاذ إلى بواطن الأمور". (ص107).
ولما كان عبد الرحمن عميقا، صار يبحث عن العمق في المجتمع، لكنه لم يجد فيه إلا السطحية والابتذال. فلجأ إلى الطبيعة هاربا من هذا المجتمع، منكرا عليه سطحيته وابتذاله؛ حيث وجد كل شيء فيها "عميقا"، و"كان العمق علامة تدل على حالة الكون منظورا إليه من هذا المكان: زرقة البحر، صوت النوارس وتحليقها، ثم غروب الشمس." (ص16).
وللإشارة، فإن العمق لا يقابل البساطة، فقد يكون الكلام بسيطا لكنه عميق، إذ إن عبد الرحمن لم يكن يخاطب الناس بلغة معقدة غامضة تستعصي على الفهم، بل كان يحدثهم بلغة بسيطة، يفهمها جميع الناس، لكنها عميقة. (ص18، 46).
ب. الحكمة: لقد اكتسب عبد الرحمن، بفعل اختلائه في الجبل، صفة الحكمة، إذ أصبح شخصا حكيما، يجمع بين قرض الشعر والتفلسف، ورفض السلطة والنفور من السياسة. فقد كان دأبه في الجبل-عالم الصمت والخلوة- أن يبحث عن أجوبة لأسئلته الكبرى، وعن الكلام الصائب والحكمة البليغة. يقول السارد: "لقد كان هذا دأبه، وما عسى أن يفعل آدمي يعيش في الصمت والخلوة سوى أن يحرك لسانه بالكلام بحثا عن قول صائب وحكمة بالغة! كان عبد الرحمن شاعرا، يشعر بمعنيين؛ يشعر بوجوده في الكون، في هذه العتمة المترامية؛ ويشعر، أي يقول شعرا، أو يبحث عن كلمات تختزل لحظات شعوره؛ كان كلما اعتبر، عبّر." (ص8 وانظر كذلك ص35).
وكان يرفض السلطة كيفما كانت؛ فهو "لم يحلم أبدا بسلطة على العباد، أيا ما كان نوعها." (ص17). كما أنه كان بعيدا عن السياسة، بخلاف "فقيه" الدوار. (وكان يوافقه في ذلك الحاج سليمان. انظر ص48-49-51).
ج. الاقتصاد في الحياة: لقد كان عبد الرحمن زاهدا في الحياة، راغبا عن الكماليات وما يزين الأشياء، حتى صار "يثمل" بشرب الماء. يقول السارد: "... أما الماء البارد فقد صيره ثملا منذ شربه. لقد أيقظت سنوات الخلوة حواسه وجعلتها تتنبه إلى الأشياء كما هي، فزادته زهدا فيما يزينها ويزخرفها ويحليها. لم يكن في زهده في الأشياء تنطع، وإنما هي ثمرة رياضية أساسها الحرمان ومقاومة النفس... كان في نيته أن يقتصد ما أمكنه الاقتصاد فيما يلجأ إليه الناس من كماليات، ما دام يجد في إشباع الحاجات الضرورية لذة قصوى. هكذا كان عبد الرحمن، لا يفوته أن يجعل من جرعة ماء مادة للتفلسف وطلب الحكمة في الحياة." (ص30-31).
وقد بلغ به الاقتصاد في الحياة مبلغا لا حد له؛ فحين صلى في أحد مساجد الدوار الصغير، ووجد أمامه، بعد خروجه من المسجد، "قصعتين من الكسكس المخضر باللحم"، و"جرة من اللبن"، اكتفى، رغم أنه كان في حاجة إلى الطعام، بمد يده إلى القصعة وتناول لقمة واحدة، قبل أن يزجر نفسه عن طلب المزيد! (ص33).
ولم يكن عبد الرحمن مقتصدا في مأكله ومشربه فحسب، وإنما كان مقتصدا في فرحه وقرحه، وفي كلامه أيضا. ولذلك، عندما علم نوفل بدنو لحظة مغادرة المدينة، والهجرة إلى الضفة الأخرى، بالغ في فرحه. أما عبد الرحمن، فلم يشاركه "شططه في المرح والقفز والكلام، بل ظل، على عادته، مقتصدا في الفرح، كما يقتصد في القرح [...]". (ص124).
د. إدراك عجز الإنسان: لقد كان عبد الرحمن كثير التدبر في ملكوت الله والتفكر في خلقه، وهذا التدبر والتفكر أوصله إلى إدراك عجز الإنسان أمام خالقه، وعجز الصناعة أمام الطبيعة. وهذا ما يتضح من خلال كيفية استقباله حادث الزلزال؛ حيث جعل منه مادة للتدبر والتفكر والاعتبار. يقول السارد: "لقد خلف الزلزال لديه زلزلة نفسية لا شك أنه متجاوزها، بل أصبح الزلزال بعد مرور دقائق مادة تدبر وتفكر بالنسبة لعبد الرحمن. فلقد دفعه هذا الواقع إلى التأمل في عجز الإنسان واستحالة قدرته على التوقع، وصار يلوك بين شفتيه مادة «وقع» ليلفظ شيئا مثل: «الوقوع والواقع والواقعة لا تتوقع»." (ص11). كما أنه أدرك عجز الإنسان وضعفه ومحدودية أفعاله. يقول عبد الرحمن مخاطبا نوفل: "الوجود يعرينا يا نوفل، يعري ضعفنا وقلة حيلتنا، فنريد أن نثور. نحسب أننا سنستر عرينا وسنجد ضالتنا في ما نبدعه من أشكال وهندسات، لكننا كلما زدنا تنطعا في التشييد، وكلما تطاولنا في البناء، وقفنا على محدودية أفعالنا وبنائنا، فازددنا حزنا وأسى." (ص107. وانظر كذلك ص106).
من هنا، كان يدعو الناس إلى التدبر في خلق الله وآياته، لأن ذلك سيورث قلوبهم الإيمان والخضوع والطمأنينة. يقول السارد على لسان عبد الرحمن، وهو يخاطب الناس الذين زاروه في بيت الحاج سليمان لعيادته و"التبرك به" (ص45): "استرسل في ذكر النجوم والقمر والشجر والمطر وكيف أن السباحة الحسية في هذه العوالم تربي قدرة الإنسان على التسبيح. ولما أحس بأن الحيرة ملكت عقول المتحلقين حوله، استدرك يذكرهم في لغة بسيطة كيف أن النظر إلى هذه الأشياء بتمعن يورث القلب الإيمان والخشوع والطمأنينة، ويباعد بين الروح وبين أسباب العيش الضنك والقوارع التي يصطنعها الإنسان اصطناعا ثم المصائب التي يجلبها اجتلابا." (ص46).
2- من مقام الجبل/ عالم الصمت إلى مقام المدينة/ عالم الصوت:
بعد قضاء عبد الرحمن مدة عشر سنوات في مغارة التعبد بالجبل (ص17-18)، قرر الخروج من عالم الصمت إلى عالم الصوت؛ عالم المدينة والناس وهمومهم. فما هي أسباب هذا القرار؟ وما هي الصعوبات التي واجهته؟ وكيف تغلب عليها؟
لقد كان الزلزال حدثا حاسما وراء القرار الذي اتخذه عبد الرحمن بالنزول من الجبل إلى المدينة، والخروج إلى عالم الناس؛ حيث إنه بعد وقوع الزلزال مباشرة، تذكر أهل المدينة: "...آه ربي! هل زلزلت المدينة كما الجبل؟" (ص10)، فقلق لحالهم، وأشفق عليهم، ونسي أمره، لأنه كان يدرك أن الهمّ همّ القصور وليس الخيام الصغيرة. أما هو، فليس لديه ما يخسره؛ فلا مال ولا بنين. وبعد ذلك مباشرة قرر الانطلاق صوب المدينة. (ص11-12).
غير أنه لابد من الإشارة إلى أن عبد الرحمن كانت لديه رغبة شديدة في الخروج من عالم الصمت والجبل إلى عالم الصوت والمدينة قبل حدوث الزلزال، وأن دور الزلزال يتمثل فقط في نقل هذه الرغبة من القوة إلى الفعل. فمنذ البداية يطالعنا عبد الرحمن، وهو يخشى أن يموت وحيدا خارج التاريخ، وكان دوما يطمع في أن يموت موتة إنسان؛ فيظفر بقبر يواري جثمانه، وشاهد يشهد على أنه مضى من درب الحياة (ص7)، وكان يحس بحنين نحو الإنسان، ومتشوقا للقائه (ص18). وعندما صادف أول آدمي في طريقه (الرجل العجوز، ص20)، والتقى بالرجلين المتوجهين إلى المدينة حاملين مساعدات لأهلها (ص22)، فرح فرحا شديدا، لأنه عومل من قبل هؤلاء معاملة إنسان عادي، وأيقن بعدها أن "مخاطبته الناس بالكلام ستكون هي الفاصل الذي سيحول بين الآخرين وبين إلصاق صفة الجذب أو الحمق به، كان يكفيه أن يكلم الناس في المدينة حتى يدفع عن نفسه أذى الصبيان وشفقة الكبار وسخرية بعضهم ...". (ص23).
أضف إلى ذلك، أنه حين كان يناجي نفسه، كان يندم على المسار الذي اختاره لحياته. يقول السارد: "جلس في هذا المكان يتصفح تاريخ جروحه حتى أشفق على نفسه... كان في نبرة حديثه مع نفسه ما يشف عن الحزن والأسى وشيء من الندم على المسار الذي اختاره لحياته."(ص17). كل هذا دفعه إلى أن يتخذ قرار الخروج إلى عالم الناس، وأن يمتهن منذ اللحظة التي وقع فيها الزلزال مهنة الحب؛ حب البشر وخالقهم، حب الوجود والأشياء، حب الذات والآخرين، وأن يفطر بعد صومه عن الكلام. وقد وجد عبد الرحمن في هذا القرار ما يبعث الدفء في قلبه، ويدفع عنه الوحشة، واعتبر خروجه إلى عالم الناس بمثابة ميلاد جديد له. (ص18-19).
وقد خلف الزلزال دمارا كبيرا في المدينة التي كانت تبدو منيعة، إلا أنها تحولت إلى ركام. وقد شاهد عبد الرحمن آثار الدمار، ووقف على عجز المخزن الذي لم يفعل شيئا تجاه المنكوبين لإنقاذهم، الأمر الذي أثار غضب الناس، ودفع عبد الرحمن إلى مخاطبتهم قائلا: "أهذه دولتكم التي بنيتم! إن كانت الدول مثل دولتكم هذه فحسب، فما أسهل أن أؤسس لدولة أنا كذلك!" (ص13).
وإلى جانب هذا الدمار المادي الذي خلفه الزلزال في المدينة، زلزل نفوس الناس جميعا، بما فيها نفس عبد الرحمن. لقد صار الناس متيقنين أن تركهم الدين، وبعدهم عن التراث، واتباعهم الإشهار والموضة والحداثة، هو سبب حدوث الزلزال. يقول السارد، على لسان أحد الرجال: "وكيف لا يأخذنا الزلزال ونحن تركنا السنة واتبعنا الإشهار" (ص55). وقد وجد البطل في كلام هذا الرجل ما يختزل أحاسيس الأمة بكاملها، و"كشف له عن تمزق الإنسان بين القديم والحديث، بين الهدى والتيه، بين الدين والسياسة، بين سلطة المطلق الحق وسلطة النسبي الجائر." (ص55).
أما عبد الرحمن، فقد جعل من حادث الزلزال مادة للتدبر والتأمل في قوة الله عز وجل، وعجز الإنسان عن التوقع. يقول السارد: "لقد خلف الزلزال لديه زلزلة نفسية لا شك أنه متجاوزها، بل أصبح الزلزال بعد مرور دقائق مادة تدبر وتفكر بالنسبة لعبد الرحمن. فلقد دفعه هذا الواقع إلى التأمل في عجز الإنسان واستحالة قدرته على التوقع..." (ص11). كما اهتدى إلى هزيمة الصناعة أمام الطبيعة. (ص12-14).
وقد واجهت عبد الرحمن في عالم الصوت مجموعة من الصعوبات والعراقيل التي كانت تدفعه إلى التفكير في العودة مرة أخرى إلى مغارة التعبد، والانقطاع عن عالم الناس، غير أنه في كل مرة كان الله يبعث له ما يثنيه عن العودة إلى الجبل، ويصرفه عن التفكير فيها، ويزرع في قلبه التفاؤل. وهذه أمثله من تلك الصعوبات:
أ.بعدما ضربه بعض المصلين في الدوار الكبير، وبينما عبد الرحمن "يتضوع من شدة الألم وسط المارة، يسمع عبارات المواساة والتعاطف"، جاء الحاج سليمان ليستقبله في بيته، ويحسن ضيافته. (ص38 وما بعدها)
ب. بعدما كاد ييأس من عالم المدينة، وخاب ظنه في عالم الناس، وأخذ يفكر في العودة إلى الجبل بسبب ما عاينه في المدينة من فساد وعبث وفوضى وبؤس، بعث الله بلقلاق يبني عشه في مكان خال مقفر، فعدل عن فكرة العودة إلى الجبل، وامتلأ قلبه شجاعة وعزما على مواصلة مسيرة الإصلاح. (ص66-67).
ج.بعد تعرضه للتعذيب والإهانة في سجنه، وتيقنه من فساد السلطة والمجتمع، واتخاذه قرار العودة إلى الجبل (ص87)، "جاء صوت المؤذن ليذكره بالرجاء في الله، ولينتشله مما ألمّ به من همّ وحل به من يأس". ثم بعث الله إليه بمن يذكره بأن الخير في العباد ما زال موجودا ولم ينقطع. (ص88-89).
د. بعد أن ضاقت به كل السبل، وتيقن أنه لا محالة واقع بين يدي المخزن مرة أخرى، ويئس من الخلاص، واشتد اشتياقه إلى الجبل، أتى نوفل ليفتح له باب منزله، ولينقذه مما هو فيه من ضيق وحرج. (ص101).
ﻫ.بعد أن اعتقد أنه سيفقد صحبة نوفل، ويبقى وحيدا بعد أن يهاجر، انسحب أحد المهاجرين السريين، مانحا الفرصة لعبد الرحمن للهجرة رفقة نوفل. (ص136-138).
و. وأخيرا، وبعد أن كاد يقضى عليه في البحر رفقة نوفل، وبلوغه مرحلة اليأس في المستشفى، جاءت روزانجيلا، الفتاة التي ألهمته السكينة، وخففت من وطأة المصيبة التي حلت به، لتنقذه من المصير المجهول الذي كان ينتظره في بلاده، بعد طرده من الضفة الأخرى، وذلك بزواجها منه رغم فارق السن بينهما، إذ لم تكن هي تبلغ الثلاثين، بينما هو كان في أواسط الخمسين. (ص157-159).
3-من مقام المدينة إلى مقام الضفة الأخرى:
1.3- هجرة عبد الرحمن ونوفل إلى الضفة الأخرى:
تعد الهجرة السرية - أو الحريك بالعامية المغربية - إلى الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط حدثا مهما في الرواية، لكونه سيمكن عبد الرحمن من الوصول إلى عالم هذه الضفة، ولكونه كذلك سيكشف له عن فساد المجتمع وظلم المخزن، وعما آلت إليه أوضاع الأمة من ضعف وتدهور.
وتتعدد أسباب تفكير المعلم نوفل وغيره من الشباب في الهجرة السرية إلى الضفة الأخرى، إلا أنه يمكن تصنيفها إلى صنفين:
أ. الأسباب الموضوعية: وتتمثل في "فساد المجتمع وكساد التجارة وتعطل الصناعة"، وتعقد أوضاع الناس، واقتناعهم بأن هذه الأمة لا غد لها ولا مستقبل. (ص110)، إلى جانب فساد الدولة وظلمها لأبنائها، وتفريطها فيهم، وتضييقها عليهم، ودفعهم إلى المغامرة في البحر قسرا وكرها. (ص136). ولذلك، نجد عبد الرحمن يحمّل الوطن مسؤولية غرق نوفل في البحر. (ص147). ولذلك، أيضا، نجد نوفل قد يئس من هذا الوطن بسبب قساوته على الأحياء والأموات معا، إذ إنه – في نظره – لم يعد صالحا حتى للموت فيه! ولهذا السبب تحول الوطن لديه إلى مجرد حلم يحمله معه أينما حل وارتحل، ولم يعد له وجود مادي بوصفه فضاء جغرافيا. (ص120).
ب.الأسباب الذاتية: وهي لا تنفصل عن الأسباب الموضوعية، بل يمكن القول بأنها نتاج لها وتبع لها. وتتلخص هذه الأسباب في رغبة نوفل، وغيره من الشباب ممن هم في سنه (ثلاثون سنة. ص119)، في التخلص من الشعور بالحرمان، والاستمتاع بلذة الحياة. (ص118-119). ولذلك، كان يحلم بالوصول إلى الضفة الأخرى "لتضحك في وجهه الأيام، ويسعد بلقاء امرأة تشاركه لعبة الحياة. كان يطمع في أن يسرح نظره في عواصم الضفة الأخرى من البحر، فيرى ما تزخر به من نظام وما توفره من نعيم. كان نوفل يحلم بسيارة وبآلة تصوير." (ص122).
أما عبد الرحمن، فقد كان متفقا مع نوفل على فساد المجتمع وظلم المخزن، وحصل له اليأس، أيضا، من الطمع في صلاحهما، إلا أنه لم يفكر يوما في الهجرة إلى الضفة الأخرى. ومع ذلك، لم يحاول إقناع صديقه نوفل بالعدول عن قراره، لأنه كان يشعر مثله بانسداد طرق الأمل في هذا الوطن، بل إنه، أكثر من ذلك، سانده في قراره، وبارك خطواته، ودعا له بالنجاح. (ص119 و122). ولذلك، اتخذ عبد الرحمن قرار مرافقة نوفل والهجرة إلى الضفة الأخرى بعد انسحاب أحد المهاجرين السريين، رغم تردده في البداية. (ص138).
وقد كشف قرار نوفل الهجرة إلى الضفة الأخرى عن عمق أزمة المسلمين وتردي حالهم، خاصة وأن المهاجر معلم يتولى تربية الأطفال الصغار الذين هم أمل الأمة! (ص111).
2.3- العلاقة بين الشرق/التراث والغرب/الحداثة:
قبيْل وصول عبد الرحمن وصديقه نوفل إلى الضفة الأخرى، انقلب الزورق الذي كان يقلهما رفقة عدد من المهاجرين السريين، وغرق كل من فيه، إلا عبد الرحمن، فقد نجا لأنه كان "ماهرا في السباحة، متقنا لفنونها وضروبها المختلفة". (ص142).
وقد كشف وصول عبد الرحمن إلى الضفة الأخرى عن الموقف السلبي لدى أبناء هذه الضفة من الآخر، ويتلخص هذا الموقف في النظر إليهم على أنهم وحوش وحيوانات بلا أحاسيس ولا عواطف. (ص143-144). ولذلك كانوا يكرهونهم ويعاملونهم بغلظة وجفاء (ص145). ولكنهم مع ذلك يعطون المهاجر حقوقه، ويعاملونه معاملة حسنة كأي مواطن آخر عادي؛ فالمراقب رغم كراهيته المفرطة للأجانب، إلا أنه لم يتأخر في أخذ هاتفه النقال وطلب رجال الإسعاف عندما اكتشف أن عبد الرحمن ما يزال على قيد الحياة (ص144)، وفي المستشفى عومل عبد الرحمن معاملة حسنة من قبل الأطباء والممرضين (ص146-147).
أما بخصوص التعايش بين الشرق والغرب، أو المزاوجة بين التراث والحداثة، فيمكن القول إن عبد الرحمن كان مؤهلا أكثر من نوفل لهذا التعايش ولهذه المزاوجة، إذ إن عبد الرحمن يمكن وصفه بأنه أنموذج لهذا التعايش والمزاوجة؛ فقد كان منظره "تقليديا أصيلا، يوحي بخلوه من مذهب المعاصرة في التلذذ والسماع والتفنن." لكن روحه كانت معاصرة (ص105)، وكان يجد العمق في الموسيقى الأجنبية ويتلذذ بسماعها، ولا يجد حرجا في ذلك، ولم تكن لديه أدنى مشكلة مع المستعمر المنسحب، وإنما كانت مشكلته مع الإنسان الذي أنتجه هذا المستعمر. (ص109). ولذلك، سهل عليه التخلص من الشعور بالتمزق بين الانتماء إلى الوطن، والانتماء إلى الضفة الأخرى، وصار يجتهد لتقبل الانتماء المزدوج إلى الوطن وإلى الضفة الأخرى. يقول السارد: "كان الشوق والحنين يحملانه إلى تربة الجبل، بين صخوره ووديانه، وتحت أشجاره وأحجاره. صعب عليه أن يتنكر لتربة الوطن الأول، مهد الصبا ومرتع الصغر. لقد أخذت جراحه تندمل شيئا فشيئا، ولم يعد يشعر بالتمزق بين «هنا وهناك»، بل صارت نفسه تجتهد لتقبل بالانتماء المزدوج إلى هنا وهناك، والاغتناء بهما معا." (ص158).
أما نوفل، فكان يعاني التمزق والفصام بسبب حنينه إلى عالم المستعمر وشعوره بالذنب في الوقت نفسه. يقول نوفل مخاطبا عبد الرحمن: "هذا الزليج يا سيدي عبد الرحمن، حين أنظر إليه، يغور بي في عوالم مضت؛ صار عندي بمثابة رسم يدل على حقبة فاتت، حقبة يعذبني الإحساس أن ليس لها من إياب. لكن... اسمع... أريد أن أقول لك... إنني أحس بالذنب بالمقابل، أتفهمني. كيف أحن إلى عالم يرسمه بداخلي هذا الزليج؟ أتفهمني... زليج صنعه المستعمر، أتفهمني... كيف أنساق مع تلذذ موسيقى المستعمر وأغانيه مثلا إلى درجة التماهي مع توجعاتها وآهاتها و... أتفهم طبيعة المشكلة يا السي عبد الرحمن؟" (ص108-109).
كما يمكن القول إن روزانجيلا كانت مؤهلة أيضا لتغيير موقفها السلبي من المهاجرين، بسبب إعجابها المبدئي بسحر الشرق القديم (ص159). ولذلك، سرعان ما تحولت كراهيتها لهؤلاء المهاجرين إلى حب، عندما اكتشفت خطأ رأيها فيهم، وأدركت أنهم يحبون ويعشقون، مثلهم في ذلك مثل غيرهم من أبناء الضفة الشمالية. (ص144).
ومن هنا، لم تكن اللغة عائقا للتواصل بين روزانجيلا وعبد الرحمن، بين الشرق والغرب، لأن اللغة يمكن تعليمها وتعلّمها، وهذا ما حصل بالفعل. كما أن هذه اللغة فيها من الأسماء ما هو مشترك، مثل اسم "الليلك". بل إن السارد في النهاية، يريد أن يبلغنا بقيمة الإحساس بالآخر، وقبول التعايش معه، والتواصل معه بلغة "النظرات والهمسات والبسمات واللمسات..."؛ أي بقيمة التواصل العاطفي الوجداني، ولو في غياب التواصل اللغوي. (ص154-155).
* خاتـمـة:
نخلص من هذه الرحلة عبر فصول الرواية إلى ما يأتي:
1. إن الرواية هي بحق لبنة أساسية ومتميزة من لبنات الرواية العربية في الألفية الثالثة، وهي بحاجة إلى مزيد من الدراسة المتفحصة للكشف عن ملامح تفردها وتميزها مضمونا وشكلا.
2. إن بطل الرواية، بكل ما يتصف به من العمق والحكمة، والاقتصاد في الحياة، والتواضع، والإيمان بقيمة التعايش، إنما هو نموذج للإنسان المسلم الناسك العابد، المنفتح على الآخر، المتعايش معه، المحتك بالحداثة، الذي يحاول إصلاح مجتمعه رغم إدراكه صعوبة المهمة. كما تعد روزانجيلا نموذجا للإنسان الغربي المعجب بالشرق، المؤمن بقيمة التعايش والتعارف. أما نوفل، الشخصية الممزقة بين رفض عالم المستعمر والحنين إليه، فيمكن اعتبارها رمزا لنمط من المثقفين العرب التائهين الضائعين.