معنى الحياة بين الدين والفلسفة

معنى الحياة بين الدين والفلسفة
الرابط المختصر

 

إذا سألت الأديان لماذا وجد الإنسان على الأرض؟ لأجابتك معظم الديانات:

-         إن واجب الإنسان العبادة، وأن يكون لله عبداً وخادماً.

-         خلقنا الله لنحبّه ونعبده (أي أنه خلقنا له).

-         اسمع يا إسرائيل: "أحب الرب إلهك من قلبك وكل ذهنك ولا يكن لك إله غيري".

 

إلا أن الدين في الوقت عينه يقول: "إن الله ليس بحاجة لنا ولا لعبادتنا، فهو غني في ذاته عن العبادة وعن عباده أو مخلوقاته، فهو القادر الكامل والعليم والمكتفي بذاته".

 

وإذا سألناه: إذا كان الله مكتفياً بذاته وليس بحاجة للإنسان فلماذا خلقنا؟ يجيبك: بأننا إذا عبدناه وأحببناه فإنما نعمل لصالحنا نحن، فنحن الفائزون بما وعدنا إياه من نعيم أبدي وجنة تجري من تحتها الأنهار، وسماء نكون بها معه. وتبقى الأسئلة مفتوحة والمنطق مغيب.

 

نستنتج أن هذه الحياة وجدت لتحضر لحياة أبدية أخرى توجد فيما بعد الموت. لذلك يسمي الدين هذه الحياة امتحاناً ومحنة أو غربة عن وطننا السماوي، وهذا يعني أننا مسافرون وعابرون على هذه الأرض، فإذا تحملنا مصائب هذه الحياة من فقر وظلم واستبداد، وزهدنا في ملذاتها، نلنا حياة أبدية تتحقق فيها العدالة والسعادة والرغبات الجنسية والغذائية والراحة التامة.

 

وعادة ما يؤمن بهذه الأفكار ويتبناها الناس الفقراء والمسحوقون والمظلومون، لأنهم يتوقون ويحلمون بواقع أفضل من واقعهم، بينما يعيش الأغنياء وأصحاب السلطة والمال، حياة تخالف هذه التعاليم وهذه الأفكار، وحتى رجال الدين والسلطة الذين يبشرون بهذه الأفكار، يعيشون حياة مترفة ومرفهة، ويشعرون أنه يجب تسويق هذه الأفكار إلى العامة من الناس، لئلا يثوروا أو يسألوهم عن مصادر ثرواتهم أو أموالهم.

 

لا تقبل الفلسفة بهذه المنظومة الفكرية بل تعاكسها. فليس من شأن الفلسفة أن تبحث في ما بعد الموت، إنما تحاول أن تفهم وتفسر وتغير هذه الحياة، التي تعتبرها هي الواقعة الوحيدة والمتوفرة بين أيدي الناس، فمن مقولات كارل ماركس "على الفلسفة أن لا تكتفي بالتنظير للأفكار بل أن تغير الواقع".

 

كما أن الفلسفة المادية مثلاً، ترفض فكرة الخلق بالأساس، وتقول بفكرة التطور التي استمرت ملايين السنين، حتى وصل الإنسان إلى ما هو عليه الآن من ذكاء وإدراك. وتقدم تفسيراً علمياً لوجود الكون ولظهور الحياة على الأرض.

 

لا تضخم الفلسفة المادية "الأنا" الإنساني ولا تربطه بالماورائيات، كما أنها لا تبخسه حقه كموجود ذكي. فالفلسفة المادية تعتبر الذكاء أرقى تجليات المادة المتطورة عبر الزمن. ومصدره ليس غيبياً أو ماورائياً، إنما مادياً طبيعياً متطوراً عبر التاريخ، فالإنسان بنظرها ينتمي إلى نوعه أي إلى الثديات العليا، ومتفوق عليها كلها ذكاءً وعقلاً، مما يؤهله لفهم الكون والطبيعة، وفكره جاء انعكاساً لواقعه، وقد طوره من حاجته الأولى للبقاء. وقد كشفت دراسة المستحاثات الأثرية أن سعة دماغ الإنسان تطورت عبر ملايين السنين من 400 ملم3 إلى 825 ملم3. فالإنسان يشترك مع الشمبنزي مثلاً 97- 98% من جيناته، بينما يشترك مع باقي البشر 99% من جيناته الوراثية، مما يجعل الفلسفة المادية تتبنى هذه النظرية التطورية وتقول بارتقاء الإنسان التدريجي من حالة بدائية (أشبه بالحيوانية) إلى حالة إنسانية متطورة رفيعة المستوى.

 

يعطي الدين لوجود الإنسان معناً نسبياً، يكاد يكون معنى تصغيرياً، يقارن النسبي بالمطلق، والضعيف بكلي القدرة، وفاعل الشر بالخير الكلي والكامل. بمعنى أنه يقارن وجود الإنسان (الممكن الوجود) بالإله (الواجب الوجود)، كما يقارب وجود الناقص – بالكامل، والعبد بالسيد، ويطلب من الممكن الوجود، والناقص، والعبد، والضعيف، والخاطئ أن يعبد ويسجد ويؤدي واجباته للكامل والقدير والمكتفي، وفي الوقت نفسه الذي ينسب فيه الخير للمطلق، ينسب الشر للإنسان، مما يشعرالإنسان بالاغتراب عن الإله وعن ذاته وعن الطبيعة، التي لا يعترف الدين أن الإنسان ابنٌ لها.

 

أما الفلسفة المادية فإنها تضع الإنسان أمام الطبيعة والكون أولاً كجزء منها، وثانياً كمدرك لها، وثالثاً كمتفاعل معها. فالطبيعة والكون ليسا مطلقين، فالإنسان يملك ذكاء ليدركها ويتعامل معها ويفهم ما يدور حوله من ظواهر طبيعية. أما كونه متفاعلاً معها وليس منفصلاً عنها، فهذا يعني أن لديه مسؤولية تجاهها وهي الحفاظ عليها، لأن وجوده الذكي وعقله، منحاه أولوية على باقي الموجودات غير المدركة، أما واجباته باتجاه الطبيعية والكون وذاته، فتمكن من المحافظة عليها والتفاعل معها بطريقة ذكية دون اللجوء إلى تدميرها أو استعمالها بطريقة مفرطة مما يتسبب في إيذائها.

 

تقع على الإنسان مسؤولية إعطاء المعنى لحياته، فالحياة ذاتها محايدة، لا تقدر أن تعطي نفسها معنى، أما الإنسان الذكي والمدرك فهو الذي يعطي المعنى للحياة التي يعيشها، والمعنى المُعطى عادة ما يكون معناً شخصياً ونسبياً.

 

من الواضح الآن أن هناك فرقاً ما بين الدين والفلسفة في النظرة إلى معنى الحياة: ففي الدين المعنى معطى سابقاً، ومحدد من قبل الخالق الذي خلق وحدد واجبات الإنسان وحدد العلاقة معه وحصرها به. أما في الفلسفة، فالمعنى غير معطى وعلى الإنسان الذكي أن يدرك ذاته والعالم والطبيعة والكون من حوله، ومن ثم أن يعطي لذاته ولحياته معناً جميلاً يختاره بنفسه دون أن يفرض عليه من قبل أحد.

 

ليس من السهل اكتشاف هدف الحياة ومعناها، لأنها محايدة وتعطي نفسها لجميع الموجودات دون استثناء، وتترك للذكاء الإنساني أن يعطي معنى لنوع الحياة التي يريد أن يحياها. وقد تحدث الفلاسفة الوجوديون عن نوعين من تحقيق الوجود أسمياها: الوجود من أجل الوجود، والوجود النوعي. فالمعنى الأول واحد لكل الموجودات أي الوجود بذاته، أما الوجود النوعي فهو مقتصر على الوجود الذكي أي على البشر. فيمكن للإنسان أن يقول وجدت نفسي موجوداً، وعليّ الآن أن أحقق وجوداً نوعياً ذكياً ومتفاعلاً مع ما حولي، وأن أرتقي بهذا الوجود النوعي إلى أن يكون وجوداً مفيداً. وكلما سمت الغايات وتكثفت الجهود استطاع الإنسان الذكي المجتهد أن يحقق لنفسه وجوداً نوعياً مميزاً ومفيداً.

 

أسمى وأعلى أنواع الوجود النوعي المميز، حصده المميزون في التاريخ الإنساني فقد حققوا لأنفسهم وللآخرين حياة ووجوداً نوعياً مميزاً وأعطوا لحياتهم معانٍ سامية وأهداف رفيعة تختلف عمن عاش ومات وهو لم يعطي معنى لحياته أو لوجوده.

 

*عضو الجمعية الفلسفية الأردنية وأستاذ الفلسفة في الجامعة الأردنية حاصل على دكتوراه في اللاهوت من جامعة اللاتران بإيطاليا، دكتوراه في الفلسفة من جامعة كليرمونت في كاليفورنيا دكتوراه في الفلسفة من جامعة الكسليك في لبنان.

أضف تعليقك