مركزية الهولوكوست في فكر ما بعد الحداثة وما بعدها

مركزية الهولوكوست في فكر ما بعد الحداثة وما بعدها
الرابط المختصر

 

يبدو عنوان المقال إشكالياً وربما صادماً أو متناقضاً، ذلك أن ما بعد الحداثة تنسف المركزية حين تنكر السرديات الكبرى والحقائق الكونية والأصالة وتستبدلها بالقصص الصغرى والتأويلات الفردية وتعلن انحيازها المطلق للطرف المهمش وحربها على المركز اليوتوبي؛ لذا فليس من المتوقع أو الملائم أن يكون حدث أو قصة أو سردية مركزياً في سياقات ما بعد الحداثة. إلّا أن المفارقة هنا هي أن الهولوكوست أصبحت سردية ما بعد الحداثة الكبرى والوحيدة ومن أجلها تناقضت ما بعد الحداثة مع كثير من جوانب فلسفتها وفكرها حين حولت إنكار الحدث أو التشكيك فيه أو حتى مناقشته من وجهة النظر الأخرى جريمة يعاقب عليها القانون.

 

لقد استوحت ما بعد الحداثة كما سنرى لاحقاً كثيراً من طروحاتها من ذلك الحدث الرهيب وشكّل الحدث (ضحاياه ومجرموه ومنكروه ومؤيدوه) مادة خصبة لأدب ما بعد الحداثة تحديداً بل لقد أصبحت طريقة مقاربة الحدث معياراً للتجريب والتجديد والقيمة الفنية سواء في الرواية والسينما وربما في الفن التشكيلي أيضاً.

 

لا يعني ذلك أنني أقلل من أهمية الحدث أو أنكر وجوده أو أناقش عدد ضحاياه بل إن ما اعتقده يقيناً هو أن حدثاً فظيعاً (كهذا) وجرماً لا يغتفر حدث في الحرب العالمية الثانية كانت خصوصيته في العنصرية الرهيبة التي أنتجته وقد تضافرت الإيديولوجيا والعلم  والثقافة النخبوية والشعبية على حد سواء والقوة العسكرية في إنتاج الحدث وتبريره في حينه،(مع ملاحظة أن النازية لم تهزم داخليا وإنما هزمت من الخارج) كان هذا الحدث هو الفظاعة بعينها. وأكاد أتفهم أن حدثاً مجايلاً مثل هيروشيما وناغازاكي لم يحظ باهتمامٍ مماثل، لأن الخلفية العنصرية البشعة لم تكن موجودة بالقدر الذي شكلت دافعاً أساسياً لحدوث الهولوكوست، إلا أنني لا أتلمس فرقاً بين الهولوكوست والإبادة الجماعية التي قام بها الأوربيون في أمريكا وكندا واستراليا حين أبادوا جنساً بشرياً بأكمله ومحوه من الوجود واحتلوا أرضه، أرض الميعاد كما كانت دائماً وبتبريرات دينية، ببساطة لا يمكن فهمها إلا في إطار عنصرية الرجل الأبيض الذي أصابه الهلع حين امتدت نار العنصرية لتلتهم أبناءه ومواطنيه.

 

كانت ميزة الهولوكوست أن الضحية والجلاد من ذات العرق والثقافة بل أنهم مواطنون في القارة  الأوروبية ذاتها، وعلى الرغم من تورط ألمانيا النازية المباشر في الحدث إلا أن تواطؤ بقية الدول الأوروبية وتحديداً فرنسا وبريطانيا الاستعماريتين كان واضحا. مسألة أخرى أود التطرق إليها وهي الحل الذي ارتأته الدول الأوروبية لإراحة ضميرها كان في منح اليهود، ضحايا الجرم الكبير ( فلسطين) التي كانت ما تزال تحت الانتداب البريطاني كتعويض عن جرائم النازية والأيديولوجيات العنصرية الأوروبية بل وقام الفكر الأوروبي الذي أنتج الأيديولوجيا الصهيونية العنصرية قلباً وقالباً (قبل الهولوكوست) بالعمل الحثيث على أسطرة الهولوكوست فلسفياً وأدبياً وقانونياً وتربوياً بل ودينياً أيضاً، إلى جانب تجنيد الوعي الجمعي للفوقية العرقية المنغلق والاحتلاليّ الذي لا مكان فيه للحساسية تجاه معاناة الآخرين من أعراق وأديان وقوميات أخرى غير أوروبية. وتبعاً لذلك فإن الغرب هو المسئول الوحيد مرة أخرى عن الظلم الكبير الذي ينتجه الواقع الإسرائيلي نفسه؛ فاليهود من وجهة نظر ما بعد الحداثة هم الضحية الوحيدة المعلنة ومن الممنوع مس الوعي بكونه ضحية بواسطة ذكر معاناة الآخرين.

 

لقد كان من المستحيل على ما بعد الحداثة أمام فداحة وفظاعة الهولوكوست أن تلجأ إلى نسبيتها وعدائها للمعايير التقليدية،  خصوصاً ذات الأساس الديني بدعوى أنها تدعي تمثيل الحقيقة المطلقةـ  وتزعم بأن للضحايا وجهة نظر وأن للنازيين وجهة نظر مساوية لها في الشرعية. كان عليها أن ترضخ لمفهوم الحقيقة الكونية المطلقة التي ازدرتها وهاجمتها هجوما عنيفا، بشقيها: الواقعيّ والأخلاقي. ولا اعتراض لدينا على الأمر في الواقع فلم يحدث أن أيدنا جرائم أو وافقنا على إبادات جماعية بل نؤمن بحق البشر "كل البشر"  في الحياة الكريمة في أي مكان على هذا الكوكب. ولكننا نتساءل عن شرعية إسقاط الحقائق الكبرى كلها لصالح حقيقتين اثنتين هما: الهولوكوست وما بعد الحداثة نفسها وعن شرعية تجاهل معاناة الضحايا عبر التاريخ وفي كل مكان على الأرض في العصر الحالي حتى لا تمس قدسية ضحايا الهولوكوست وإحتكارهم المطلق للإضحوية ليس على حساب الجلاد فحسب وإنما على حساب البشرية التي جرى إدخالها كما يقول المفكر الدكتور عادل سمارة " في حالة من دروشة التخلص من ذنب لم تقترفه أصلا، فبات العالم الشعبي يهذي بجريمته التي لم يرتكبها مُشعراً نفسه أن ما حصل لليهود كان يمكن دفعه لو أنه حاول ذلك.

 

لقد حمل العالم الشعبي جثة ضحايا النازية كما لو أنه هو القاتل الفعلي (صناعة الهولوكوست) وعن شرعية الهجوم العنيف على كل من يحاول طرح قضية الفلسطينيين بوصفهم الضحايا الأبرز لاحتكارية الكارثة وطرح ما بعد الحداثة لليهود بوصفهم (الجمعي الفوقي) ضحية بدون منافسة، لتصبح الهولوكوست (ميزة تتمشى بين الأجيال) تحقِّر كل كارثة وتستخف بكل معاناة وتشرع العدل لفئة ممزوجاً بالقهر والمرارة والاضطهاد والظلم لآخرين.

 

وعلى خلفية أوشفيتز يتضح  مجال ما بعد حداثي يقف فيه الجلاد الفعلي والبشرية المذنبة قسراً  والضحية الوحيدة المتفردة ومن جعل من الهولوكوست أداة يرفض بموجبها الإعتراف بمآسي وكوارث الآخرين، لتنتج هي ذاتها ضحايا آخرين هم العرب الفلسطينيون الذين بذلت ما بعد الحداثة وسجلاتها كل جهد ممكن لإثبات أنهم ليسوا ضحايا بل وربما مجرمون وإرهابيون (إريك غانس مثلا ).

 

إن التوظيف الأدواتي للهولوكوست لا يقل بشاعة عن حدوثها والفرق هنا هو الضحية: عرقاً وديناً وقومية وثقافة، كما أن هذا التوظيف الذي ذهبت به ما بعد الحداثة إلى أقصاه قاد إلى إنكار المحرقة جملة وتفصيلاً ليصبح الإنكار أداة أخرى وظفتها ما بعد الحداثة لترسيخ إيقونية الهولوكوست واحتكاريتها المطلقة.

 

لقد قام نظام العدالة الما بعد الحداثي على فكرة الأضحوية التي تشكل الهولوكوست مادتها الوحيدة، إذ لا مكان لغير الضحايا والمظلومين من اليهود الأوربيين ضمن عدالة ما بعد الحداثة. واستمر الأمر على هذه الحال لثلاثة عقود أو يزيد حتى  صدم منظرو ما بعد الحداثة بأحداث الحادي عشر من سبتمبر حين استغل الضحايا، ضحايا أدواتية الكارثة واحتكارها نظام الاضحوية ذاته وهاجموا المركز الأوروبي بكل جبروته وعظمته، كان ضحايا الهجوم هذه المرة من البيض الأوروبيين حصراً،  المتفوقون عرقياً وثقافياً فأعلنت ما بعد الحداثة حرباً شعواء على الأطراف التي طالما ادعت دعمها من قبل وقرر منظروها العمل على استحداث نظام للعدالة لا مكان فيه للضحايا على الإطلاق، أما مزاعم الضحايا فلن تهملها نظرية (ما بعد الاضحوية)  ولكنها ستتعامل معها بوصفها طروحات قابلة للتفاوض( المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية أنموذجاً) ولكننا نرى أيضا ازدواجية  في التطبيق،  ففي حين يفاوض الغرب وإسرائيل الغربية، كما قال رئيس الوزراء الأسباني ازنار، الفلسطينيين لضمان استمرارية وشرعية الدولة الاستيطانية الاستعمارية الإحلالية التي أسسوها، نجدهم لا يفاوضون تنظيم القاعدة (أو داعش) مثلاً الذي يزعم أعضاؤه أنهم وأوطانهم ومواطنيهم ضحايا الغرب والرأسمالية وأدواتية الكارثة بطريقة أو بأخرى.

 

وباختصار شديد لقد منحتنا ما بعد الحداثة وما بعدها سرديتين مقدستين وحيدتين متفردتين استبدلت بهما سرديات البشرية جمعاء: سردية الهولوكوست وسردية الحادي عشر من سبتمبر. ومن أراد قراءة المرحلتين فما عليه سوى الاكتفاء بهذين النصين المقدسين اللذين أحرقت قدسيتهما القداسة ذاتها.....!.

 

لا يفترض من الغرب الأوروبي المستعمر صياغة نظام يضمن العدالة لمن يرى فيهم "مناقضين" قائمين أو محتملين لحضارته ولكن يفترض بالضحايا إذا ما أرادوا  التخلص من الظلم صياغة نظام يضمن لهم مقاومة الطروحات الغربية الفكرية على الأقل إذا لم يتمكنوا من المقاومة العسكرية حين الاعتداء الصارخ عليهم. إن استمرار الادعاء بالإنتصار أو التفوق الفكري أو الحضاري من وجهة نظري هو التربة الخصبة التي مررت طروحات الآخر دون مقاومة تذكر. إذ لا بد من مراجعة حالة شاملة وصياغة خطاب جديد يتم من خلاله رفض دور المتلقي السلبي والضحية التي يجري إنكارها عن سابق إصرار، مثلما يرفض أيضاً أن تتحول معاناته ومظالمه إلى مجرد مزاعم قابلة للتفاوض حسب،  ولا بد أن نذكر أن الأسلوب الهزلي للطروحات الفكرية على غرار إنكار حدوث الهولوكوست جملة وتفصيلاً أو مناقشة عدد ضحاياها أمر لا يجلب إلا المزيد من الضرر والمزيد من تعزيز أدواتية الهولوكوست.

 

لا بد من التأكيد أخيراً على أن عقول البشر على هذه الأرض المقدسة "وكل أرض هي مقدسة بالنسبة لسكانها" ليست مكب نفايات  فكرية أو حقل تجارب فلسفية أو طروحات قسرية يجري تمريرها بنعومة بالغة في ظل خدر دائم أصاب الأمة ومفكريها وبالقوة العسكرية الإرهابية إن لزم الأمر.

 

يدعي الغرب الذي يعاني من مآزق جمة نتيجة مقامراته الفلسفية والفكرية أنه يمد يده اليوم إلى شعوب الأرض كافة لصياغة نظام عدالة جديد وبلورة مرحلة بعد ما بعد الحداثة ويزعم أنه يرغب في مشاركة آسيوية وإفريقية فاعلة على قدم المساواة وعلى أسس الحوار والتفاوض، ولكن يجب علينا أن ندرك ونجعل الغرب يدرك أيضاً أن حواراً من هذا النوع يتطلب أولاً إنهاء كافة أشكال الهيمنة والاستعمار الغربي لمنطقتنا وخروج المستعمر خروجاً فعلياً لا شكلياً من أرضنا كلها، عندها فقط يمكننا أن نبدأ حواراً إنسانياً تصالحياً تقف فيه البشرية بأعراقها وثقافاتها على قدم المساواة الفاعلة والبناءة، فهل نحن على استعداد لبدء هذه المقاومة والمطالبة المشروعة؟ سؤال نوجهه لمفكرينا وجامعاتنا ومراكز أبحاثنا (ليست الممولة من الغرب قطعاً) علّنا نجد إجابة شافية له.

 

ولمن يرغب في الاستزادة أو الإضافة على هذا الموضوع الهام أو ربما لتقديم قراءات أخرى، فقد

قمت في فصل من كتابي (افق يتباعد: من الحداثة إلى ما بعد بعد الحداثة) الصادر عن نينوى عام 2014  بتقصي (مركزية) الهولوكوست في فكر ما بعد الحداثة ثم في أدبياتها وعرجت على التطور والتغير المحتمل في وضعية الهولوكوست في مرحلة بعد ما بعد الحداثة التي دشنتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر، من الناحية الجمالية كما طرحتها أدائية ايشلمان ومن الناحية السياسية الاجتماعية كما تطرحها فكرة (ما بعد الأضحوية) في نظرية ما بعد الألفية لإريك غانس.

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني

أضف تعليقك