ما بعد الحداثة وسيل الخطابات البعدية: الإعلام الجماهيري وما بعد العاطفة

ما بعد الحداثة وسيل الخطابات البعدية: الإعلام الجماهيري وما بعد العاطفة
الرابط المختصر

اكتسبت فكرة سيطرة وسائل الإعلام المطلقة زخما كبيرا منذ ستينيات القرن الماضي. تجلت هذه السيطرة في قدرتها على تشكيل أذواق العامة، ورغباتهم الفردية أولا، وفي تشظيتها للفضاء العام والعلاقات الاجتماعية ثانيا, إذ لم يعد بإمكاننا إغفال الدور الحاسم الذي تلعبه وسائل الإعلام في ديناميات الفردية المابعد حداثية.

 

ساد المعيار الخاص للسعادة والقيمة الذاتية للمتعة ونموذج الإشباع الفردي الحميمي في الثقافة الجماهيرية. وبفضل التلفاز والصحافة في البداية, اكتسبت السلوكيات المنبثقة عن حب الذات وإشباع الرغبات شرعية اجتماعية. لقد ساهمت وسائل الإعلام ـ عن طريق احتفائها باللذة الخاصة والمتعة الفردية الخالصة ـ دون شك في تدني القيم التقليدية والشفرات الاجتماعية والالتزام الإيديولوجي. ومارس الأفراد سلوك اللحظة الراهنة، والحياة لأجل إشباع الملذات, وبهذا المعنى أصبح الإعلام المساهم الأكبر في هيمنة ثقافة الفردية.

 

إلا أن هذه الفردية بالرغم من ذلك ظلت مفارقة, فثقافة ما بعد الحداثة هي ثقافة المتعة والاستقلالية الفردية، ولكننا نجد هؤلاء الأفراد مسمرين أمام شاشات التلفاز حتى عندما لا تحقق لهم البرامج المتعة والرضا. كما أنها ـ أي الفردية ـ سلبية على الأغلب، لأن الفرد هو مستهلك للصور والمشاهِد. فضلا عن أن الإعلام ـ وإنْ كان يساهم في الفردية الممتعة ـ إلا أنه يساهم في الوقت ذاته في خلق مشاعر الخوف: الخوف من الكوارث والأمراض والإرهاب والعنف والاستغلال الجنسي، وعليه فإن الفردية النرجسية لا تعبر عن نفسها في تقديس اللذة والإشباع الذاتي فحسب، وإنما في مجموع المخاوف. فالنرجسي هنا قلق وان كان مستمتعا بالحياة. والإعلام هو خالق المتعة والخوف على حد سواء. الإعلام الذي يعرفنا بالمخاطر الجديدة بل إنه يضخم المخاطر والأخطار في كثير من الأحيان. الأمر الذي يفترض تعبئة الرأي العام والقوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، وتحفيز الأفراد على التفاعل والتظاهر والنضال والضغط على صانعي القرار لاتخاذ إجراءات توافق رأي الجموع، ولكن هذا لم يعد يحدث، أو على الأقل ما حدث كما كان من المؤمل أن يكون, أو كما كان يحدث في السابق، حين لم تكن وسائل الإعلام قد بلغت هذا القدر من السطوة والتطور والانتشار.

 

 

يخلق الغموض إحساسا بقدسية ما لا يمكن لمسه أو الوصول إليه. لقد جعل الإعلام الجماهيري كل شيء في متناول كل فرد. لا شيء مقدس، أو غامض، أو يصعب الوصول إليه بعد اليوم ومع وفرة المعلومات والمعرفة يصبح الالتزام مستحيلا، لأن هناك وجهات نظر متعددة ومتضاربة تعرض على الفرد في الوقت نفسه حتى يعتاد عليها فلا يعود للرأي أو الرأي الآخر قيمة تتطلب التزاما. ويعتقد عالم الاجتماع الأمريكي الكرواتي الأصل ستيبان مستروفك  أن مجتمع ما بعد العاطفة هو نتيجة لانتهاك ذلك الغامض المقدس.

 

 

نحت مستروفك مصطلح ما بعد العاطفة  عام 1997 وحدده بأنه نوع من المتلازمة المترفة التي تحدث عند ما نمنح كل شيء. عندما يقذف إلينا كل حدث، ومنتج، أو عاطفة. إن حقبة ما بعد العاطفة هي تلك التي تجرد فيها التمثيلات الجمعية المشبعة بالمشاعر من سياقاتها الثقافية ليتم استغلالها في سياقات جديدة ومصطنعة، فنحصل بالضرورة على مشاعر مزيفة وباردة عادة ما تكون في شكل ('سخط متخثر ومدار بدقة ولطافة) يحل محل المشاعر الحقيقية في الوجدان الجمعي.

 

 

لقد انهار الوعي الجمعي الذي يتفوق على الفردية. وتبعا لدوركايم فإن ((التمثيلات الجمعية هي نتيجة تعاون وتشارك هائل لا يمتد عبر الفضاء فحسب، وإنما عبر الزمن، ليصنع في النهاية هذه التمثيلات الجمعية، فيض من عقول مختلفة تشابكت واختلطت واتحدت في مشاعرها وأفكارها، أجيال طويلة تراكمت خبرتها ومعرفتها. تخلق القيم الجمعية هوية جمعية. شعب يُنشِّأ على مثل أسلافه, فيصبح الفرد جزءا من كل أعظم وأقوى)).

 

 

يتمثل الوعي الجمعي من خلال توظيف الرموز. وبتعبير دوركايم فإن الرمز هو المكون المتكامل للعواطف التي تساعد على تماسك المجتمع. ترتبط المعاني بالرموز حتى تساعد الأفراد على استيعاب المُثل المعقدة لما هو جمعي. تساعدنا الرموز في فهم تلك المشاعر من خلال ارتباطها بواقع ملموس نتحسسه بشكل مكثف. ولكن الرموز لم تعد قادرة على التقاط المعنى الحقيقي لتحديد وعي جمعي. من الصعب أن يرتبط المعنى برمز لأن هناك كثيرا من المعاني المختلفة التي ارتبطت برمز واحد. هذا بالضبط ما أطلق عليه مستروفك ما بعد العاطفة التي تتميز بعدم وجود التزام.

 

 

إن الحرية في التعبير والليبرالية في مرحلة ما بعد الحداثة لا تتعلق بالمفهوم الأصيل للحرية التي دعت إليها التنويرية الحداثية. إنها مجرد جزء صغير من المفهوم الكلي. كانت حركة التنوير أكبر من مجرد الفردانية وحقوق الإنسان والعلم والعقلانية والظواهر التي منحت الحداثية جلالها وهيبتها. لقد بحثت التنويرية في الحروب الأهلية والدينية، والإعدامات الجماعية، والاستعمار والعبودية، وغيرها من الظواهر البغيضة. أما اليوم فقد تم تخريج كل المشاعر وإعادة توزيع نسخا جديدة من المشاعر على الجماهير. وبذلك فإن العاطفة المتضمنة في مفهوم الفردية لم تعد أصيلة.

 

 

دنس الإعلام الجماهيري كل مقدس حين جعل كل شيء في متناول الجميع. إنه يبث معلومات متواصلة ولكن تدفق المعلومات يصعق الفرد الذي يتلقى معلومات متضاربة وغير مفهومة. لا تبث وسائل الإعلام المعلومات والعواطف والأفكار فحسب, ولكنها تؤطرها وتشوه حقيقتها حين تخضعها لرقيب خفي وتغلفها ـ ببراعة ـ بسحر زائف حتى لا يعود بإمكاننا التفريق بين الحقيقة والخيال. أما البث المباشر فلم يعد مباشرا بحال, لأن المعلومات المباشرة لا يمكن التنبؤ بها، وتبعا لذلك فإنها قد تشكل خطرا على المجتمع الحديث، لذلك فإنهم يوظفون زوايا مختلفة كفيلة بخلق سحر يمر بخفة ولطافة تستعصي ملاحظتها وتقصيها.

 

 

يبعد التلفاز المشاهدين عن الحدث، والذين يعيشون الحدث، الأمر الذي يُصَّعِبْ التفاعل الجمعي، ويصبح الفوران الجمعي أمرا مستبعدا حين يشعر الناس بالعزلة وعدم التواصل, فضلا عن أنه يبث جرعات عالية وغير عادية من مثيرات العواطف والمشاعر, ولكنها عواطف مترفة تقود إلى إعياء مُشفق، وإلى الأنوميا بوصفها علة الرغبات اللانهائية التي لا يمكن إشباعها أبدا، وإلى قلق مشتت يلون كل ساعة يقظة. يعرض الإعلام مشكلات عديدة وجوانب مختلفة ومتضاربة لكل مشكلة, عندها يتخم الفرد بالمشاعر والعواطف لدرجة أنه لا يعود يشعر بأنه هناك شيء يمكن القيام به أو ينبغي القيام به. يترك الفرد ـ الذي أصبح في حالة ما بعد العاطفة ـ فريسة للقلق: إنه يعرف أن هناك خطأ ولكنه لا يعرف ما هو. إنه مثقل بالقضايا ويشعر بقلق دائم حيالها لكنه عاجز تماما عن الفعل، مما يسبب الخوف والاستياء.

 

 

لم نعد نمارس الطقوس الضرورية لخلق وتدعيم الوعي الجمعي والفوران الجمعي بصورة كافية لتحفيز الشعور في مجتمع ما بعد العاطفة. لا يمكننا أن نرى أي شيء بصورة مباشرة لأننا نراه دائما بوساطة نظرات تجعل الوصول إلى حقيقة أي موضوع أمرًا بعيد المنال. فقدت الطقوس كل مضمون وخلت من أي معنى. لقد أصبحت قصيرة وعملية: دقيقة حداد أو وضع أكاليل زهور أو ما شابه. أصبحت كل الأمور خاضعة للمنطق وفقدت قدرتها على تحريض المشاعر. بل إن المشاعر نفسها أصبحت تحت السيطرة حين أصبح من السهل التنبؤ بها. أصبح هناك مراحل عقلانية من الحزن والأسى ومقدار محدد من الأيام للتعامل مع مثل هذه الأزمات. لم نعد نتناول الحالات الفردية من الحزن والأسى. يقذفون في وجوهنا كما هائلا من الأحزان ولكنهم واثقون بأننا سنتتبع نمط مشاعر يناسب المجتمع. الطقوس لم تعد قادرة على خلق المشاعر اللازمة لزيادة قدسية المجتمع.

 

 

بعد كل كارثة أو فاجعة أو إبادة جماعية يبدأ الإعلام بإعادة تغليف وتوزيع العواطف على الجماهير القلقة العاجزة. إنها مشاعر مُنتجة وليست حقيقية ؛ لأنها لا تصدر عن رغبة تلقائية. ويبدأ الإعلام ببث صور وكلمات منقاة بعناية فائقة كفيلة بإنتاج مشاعر مزيفة تنتج ردود أفعال محسوبة، لا تصل بحال إلى الفوران الجمعي التلقائي الذي ينتج قوة جمعية. لا يسمح مجتمع ما بعد العاطفة بالتلقائية، لأنه لا يتمكن من السيطرة عليها أو التنبؤ بها. لقد أخضعت العواطف للتنظيم: كل إعلان أو حديث أو خطاب مثقل بالأفكار وكل كلمة تقال بطريقة معينة لإحداث تأثير متوقع يسهل التنبؤ به والسيطرة عليه.

 

 

بدا مجتمع ما بعد العاطفة جليا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. لم تمت المشاعر فحسب ولكن حقيقة هذه المشاعر قد قُضِي عليها بفضل الإعلام. زَيف الإعلام الوقائع وعرض وجهات نظر مختلفة بل إن لجانا قد شُكلت لتوضيح ما ينبغي توضيحه وبالطريقة التي يريدونها. وضع الإعلام معيارا جديدا للتعامل مع الموت الكارثي الجماعي: تشكيل لجنة تقصي حقائق، مراقبة الأوضاع وتحليل الحدث ببرودة صاعقة حتى يتسنى للوعي الجمعي كبح جماح ردود فعله العاطفية التلقائية.

 

 

لن يعرف أحد الحقيقة على الإطلاق فالتحكم بالمشاعر وتنظيمها أصبح قادرا على تجنيبنا مرارة الخبرات الصادمة. هناك وجهات نظر عديدة: ربما تكون الحكومة هي التي قامت بذلك أو القاعدة أو طالبان أو العراق، لا أحد يعلم ولكن المؤكد أن فيض المعلومات جعل الناس لا يكترثون.

 

 

كان صانعو القرار في الولايات المتحدة الأمريكية على ثقة تامة من تحول مجتمعهم إلى ما بعد العاطفة لذا جاء القرار سريعا عنيفا وحاسما: غزو العراق وأفغانستان ومما يثير السخرية أن أيا من منفذي الاعتداء المزعومين لم يكن عراقيا أو أفغانيا. لم يعد الناس يهتمون بالحقائق. إنهم مجرد مشاهدين وحتى عندما يهتمون فإن اهتمامهم لا يصل إلى حد الفعل. لا يمكن إنكار أن هناك مقاومة لهذا التلاعب بالعواطف ولكنها مقاومة تعتمد على الهجوم المفرط الواقعية الذي يوظف وسائل الإعلام ورموزها نفسها. تحاول المقاومة المعارضة للحروب الأمريكية وللانتهاك الأمريكي لحقوق الشعوب في تقرير مصيرها أن تلتقط عواطف المعارضة للحرب الأمريكية على فيتنام ومن ثم فإنها توظف الأسلوب ذاته التي تبرع فيه ما بعد العاطفة الموجهة التي تتضمن توظيف العواطف النوستالجية الميتة والتي غالبا ما تكون مستهلكة " عواطف بالإنابة " ومن ثم لا يعود بمقدورها أن تلتقط الحاضر. وبالرغم من محاولتها المستميتة استرداد زخم العواطف الماضية فإنها تفشل، لأن هذه العواطف قد فقدت بريقها بفضل عمليات إعادة الإنتاج والتدوير وتحولت إلى واقعية مفرطة.

 

باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

 

  • أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.
  • الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014.
  • نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.
  • فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني.
أضف تعليقك