ما بعد الحداثة: فلسفة التفجع والنحيب وترقب النهايات

ما بعد الحداثة: فلسفة التفجع والنحيب وترقب النهايات
الرابط المختصر

 

تطورت ما بعد الحداثة من الناحية النظرية رداً على النظرة الغائية للعالم. تلك النظرة التي نجدها في النزعة التاريخية لنقاد مثل كليمنت غرينبيرغ الذي يرى أن تاريخ الفن يعرض نفسه كما لو كان قطاراً يتجه نحو تحقيق فكرة ما. ويتمثل أيضا في يوتوبيات السياسات الجمالية التي طبعت قرن الرواد. وهذا بالطبع يختزل الحداثة في جانبها التقدمي المباشر والذي يتمثل في تماهيها مع الطموحات بتغير سياسي, والحركات الفنية الأكثر جذرية تلك التي تتوق لكل ما هو زائد، وتعود بالأمور إلى جذورها. ويذكر نيكولاس بوريو ــــ صاحب المصطلح الشهير الجماليات العلائقية  (Relational Aesthetics) الذي نحته عام 1995، ثم ضمنه في كتاب صدر عام 1998يحمل الاسم نفسه وترجم إلى الانجليزية  في عام 2002 ــــ فنانين مثل مارسيل دوشامب، وروبير فيليو، وأون كاوارا، وغوردون ماتا كلارك، ويقول:"ليس من السهل الانتباه إلى الميل الخفي في هذا الاتجاه لأن نظرتهم إلى التاريخ ليست تقدمية بقدر ما أنه ـ أي التاريخ ـ زمن مدرك بكل تعقيداته واتجاهاته المتعددة. وبالنسبة لكل واحد منهم فإن أيً حركة باتجاه الماضي سواءً كانت رمزية كما عند دوشامب، أو فلسفية شرقية كما عند فيليو وكاوارا، أو بيئية كما عند ماتا كلارك، تكون متداخلة مع أخرى باتجاه المستقبل مما يجعل منها بوادر لطفرتنا الزمانية.

 

إن فلسفة ما بعد الحداثة هي فلسفة النحيب والتفجع, فترة حداد طويلة في حياتنا الثقافية. لقد فقد التاريخ اتجاهه، ولم نعد قادرين على قراءته، ولم يتبق لنا إلا أن نواجه زماناً ومكاناً مشلولين حيث حطام الذكريات الممزقة في (متحف الأطلال) ـ هذا الوصف الذي أطلقه دوغلاس كريمب على مرحلة  ما بعد الحداثة في الثمانينيات".

 

لقد تميزت ما بعد الحداثة في بواكيرها الأولى بالإحباط الذي تجلى في اقتراض أشكال من التاريخ الفني وبروز مصطلح المحاكاة (simulacrum) الذي يعني استبدال الصورة الحقيقية بصورة زائفة تبدو أكثر حقيقية من الأصلية. إنه التفجع على الحقيقة الضائعة.

 

وفي ذات السياق يذكر بوريو فريدريك جيمسون الذي ذكر في إحدى مقالته أن السمة الأساسية لما بعد الحداثة هي الفصام، أو لنكن أكثر دقة فإنها النتيجة الأكثر تدميراً لما بعد الحداثة، حين يفقد العقل قدرته على إدراك الزمن مرتباً ومنظماً، وعلى استيعاب الخبرات بوصفها سلسلة متجانسة ومتماسكة ومترابطة، مما يؤدي إلى نبذ المحاولة لصالح الافتتان بحاضر براق ومتلون. أما الفيلسوف سلافوج جيجك فيقول بأن الاكتئاب هو موقف ما بعد حداثي بامتياز، لأنه يسمح لنا بالعيش في مجتمع العولمة، في الوقت الذي ندين فيه بالولاء لجذورنا الضائعة. وفي السياق ذاته لا بد أن يُعرِّج بوريو على فرويد الحداثي ومنظر الاكتئاب والفصام والحداد. ذلك أن أهم أعراض الاكتئاب الناتج عن الفقد والتفجع ـ تبعاً لفرويد ـ هو عملية حث المريض على تبني صفات معينة من صفات الفقيد إلى درجة التماهي معه كليا أو جزئيا، وهذا النوع من الاكتئاب والإحلال التوحدي شائع في ما بعد الحداثة، ويمكن التعرف عليه من أدوات الرواد المجددين التي طغت في أواخر التسعينيات: الاقتباس الرسمي من مفردات التجريد الهندسي، وتبني مفاهيم راديكالية سياسياً في النصوص النقدية.... الخ، وكانت النتيجة هي إفراغ الحداثة من معناها بتحويلها إلى شكل من القهر النوستالجي.

 

ولأنه لم يعد بإمكاننا أن نحدد اتجاه التاريخ  في ما بعد الحداثة، فقد اضطررنا لإعلان نهايته. وتبعاً لذلك كان نكوصنا الأبدي إلى الأشكال الحداثية في الثمانينيات، والتي تلاها الإيمان بنسبوية التاريخ نفسه، كما في الفكر ما بعد الكولونيالي الذي مثل المرحلة الثانية من ما بعد الحداثة، والذي تميز بدرجة أقل من النحيب والعويل والحداد، ولكنه كان متعدد الثقافات. بدأت هذه الفترة مع نهاية الحرب الباردة وتميزت بأسطرة الأصول. فقد اصطبحت معاني العمل الفني مرتبطة بالخلفية الثقافية التي أنتجته. وأصبحت الجوهرية أو الماهيوية (Essentialism) هي النموذج النقدي لتلك المرحلة. وأصبح التماهي مع النوع الأدبي والإثنية والتوجه الجنسي أو الأمة هي وقود عجلة التعددية الثقافية. وتحول المنهج النقدي إلى نظام يوزع المعاني، ويمنح الأفراد مكانتهم الاجتماعية، مختزلاً كامل كينونتهم في هوية، ومرجعاً أهميتهم وتأثيرهم إلى أصولهم. وتبعاً لذلك فقد انتقلت ما بعد الحداثة من كآبة الحرب الباردة إلى الاشتغالات العصابية بالأصول التي وصمت العولمة. هذا النموذج من التفكير هو الذي وجد نفسه الآن في مأزق وهذه النسخة المتعددة الثقافات من التنوع الثقافي لا بد أن تخضع للمساءلة والاستجواب، ولكن ليس لصالح عالمية المبادئ أو اسبيرانتو حداثي جديد، ولكن ضمن إطار حركة حديثة جديدة مرتكزة على طفرة زمنية، وتأويل مشترك، وحرية الإفصاح والاكتشاف.

 

عبر بعض فناني الحداثة عن عداوة مبطنة لفكرة الزمن الخطي المتجه نحو المستقبل، وكان مارسيل دوشامب من رواد هذا الاتجاه، وقد تضمنت مجموعاته الفنية كاتالوغا ضخماً لأشغال فنية تقليدية قديمة، أو متداخلة زمنياً تعتمد المفارقة التاريخية مثل عمله (Three Standard Stoppages, 1913-14)، حين ألقى بخيط طوله متر لثلاث مرات على الأرض ولسوف يسجل الهيئات الثلاث المختلفة للخيط عن طريق استنساخها ومن ثمة تخريم أشكالها على قطع من رقائق الخشب! ووضعها في صندوق أنيق، ولوحة (مصبح الغاز أو الشلال Étant donnés1964 -66). وعبّر تبعاً لذلك عن نظرة تزامنية تواقتية مختلفة تماماً عما كان سائداً في عصره. وبتوظيفه لأدوات من الماضي من أجل تشويش الحاضر، فإن دوشامب حلق بعيداً وهو يصف رائعته (العروس منزوعة الثياب من قبل فتيانها أو الزجاجة الكبيرة) بأنها (الإعاقة في الزجاج delay in glass). إن الإعاقة عند دوشامب ذات دلالة أبعد مما قد يبدو في الظاهر. وعليه فإنه يتجاوز التناقض بين التطلع إلى المستقبل، والنوستالجيا إلى الماضي, تلك النظرة التي هَيْكلت رؤيتنا لفن القرن العشرين. ومن المثير أن كثيراً من الفنانين اليوم يعملون في (فضاء-زمان) يعتمد على تلك الإعاقة، ويتلاعبون بالمفارقات التاريخية، والسلطات الزمنية المتعددة، أو الزمن المنفي. ـ فالإعاقة (هنا مرادفة لما هو مسجل مسبقاً) تتعايش مع الحالي (أو المباشر)، ومع ما هو متوقع تماما, كما أن التوثيق قد يتواجد مع الخيال، ولكن ليس على طريقة التكديس ما بعد الحداثي (البهرجة ما بعد الحداثية)، وإنما بهدف كشف الحاضر الذي تتداخل فيه الأزمنة ومستويات الواقع والحقيقة.

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

 

1-  أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2-  الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني

أضف تعليقك