ما بعد الحداثة: ثقافة الصورة وخلق الواقع البديل

ما بعد الحداثة: ثقافة الصورة وخلق الواقع البديل
الرابط المختصر

 

لم تقض ما بعد الحداثة على قضايا اجتماعية إشكالية مثل الاستغلال والقهر والبؤس التي ظهرت مع مجتمعات الحداثة. وكل ما فعلته هو تجاهل وجود هذه المشكلات تماما والتظاهر بأن كل شيء على ما يرام. لقد استعاضت عن الواقع وتعقيداته وقضاياه الإشكالية بفيض من الصور البراقة المبهرة والترويج لمفاهيم التشتت والسطحية والسرعة، وذلك لخلق تلك الواقعية المفرطة التي تحدث عنها بودريلار. وفي تأويله الثقافي الشهير للدلالات الإيديولوجية لملاهي والت ديزني في لوس أنجلوس الأمريكية، يشرح بودريلار الدور الذي تلعبه تلك الملاهي في الوعي الجمعي للمواطن الأمريكي حين يقول "وجود ملاهي ديزني يخفي حقيقة أن هذه الملاهي هي أمريكا "الحقيقية"، أمريكا كلها على حقيقتها. ويتم تصوير ديزني لاند بوصفها عالما خياليا يوحي لنا بأن بقية البلاد حقيقة لا خيال، في حين أن منطقة لوس أنجلوس كلها، وأمريكا كلها من حولها لم تعد حقيقة، بل ضرب من ضروب ما وراء الواقع والمحاكاة. فلم تعد مسألة عرض لصورة زائفة للواقع "إيديولوجية"، بل هي مسألة إخفاء لحقيقة أن الشيء الحقيقي لم يعد حقيقيا، وبالتالي، فهي مسألة إنقاذ لمبدأ الواقع".

 

إن حقيقة "أن الشيء الحقيقي لم يعد حقيقيا"، والتي يعتبرها بودريلار إنقاذا للواقع، هي بالتحديد عمليات التزييف والخداع والإيهام التي تمارسها الرأسمالية المتأخرة للترويج لفكرة أنه لا يوجد هناك هنالك واقعا من الأساس كي يتم نقده وتصحيح مساره أو إيجاد حل لمشكلاته.

 

إن عالم والت ديزني، الذي يمثل نسخة مصغرة ومكثفة من أمريكا، لا يقدم للزائرين من ضمن برامج التسلية والترفيه معاناة الأقليات والأمريكان السود والمهاجرين من المكسيكيين والعاطلين عن العمل والمشردين. لقد اكتشفت وسائل الإعلام ومراكز الترفيه حقيقة جديدة في ما بعد الحداثة، فعندما لا يتم تسليط الأضواء والعدسات على زاوية من زوايا الواقع، فهذا يعني أنها ببساطة لم تعد موجودة، ويتم تغييبها عن الوعي الجمعي، ومن ثم إسقاطها من الذاكرة الجمعية. لذلك يصر ممثلو التيار اليميني المحافظ في ما بعد الحداثة على أن المجتمعات المعاصرة هي مجتمعات بلا ذاكرة وبلا مستقبل، إنها مجتمعات تعيش في حواضر سرمدية، كما سبق القول على لسان فريدريك جيمسون.

 

و هكذا ينتهي الفرد، والذي عاني من الاغتراب في مرحلة الحداثة الرأسمالية الاحتكارية، فصاميا فاقدا للمصداقية والشعور بالصدق، تائها بلا هدف وممزق الشخصية في عالم سطحي يدور حوله متخما بالصور المعادة والجديدة، ومحروما من الوعي التاريخي والإدراك التفسيري الذي يؤدي إلى تفسير الحالة الاجتماعية والثقافية الجمعية، لديه حنين قوي للماضي، ولكن لا سبيل أمامه لاستعادته إلا بوصفه معارضة أدبية أو من خلال عبث عشوائي. ويتم تقليب النصوص والعلوم من خلال أسلوب ارتجاعي تتضح مظاهره في الموضة والأفلام الهوليودية.

 

لقد شكل الحنين إلى الماضي ومحاولات استعادته عبر الإحياء الانتقائي لمجموعة عشوائية من الرموز والصور والدلالات التي ترتبط به، أحد أهم مظاهر ما بعد الحداثة. أصبحت النوستالجيا، أو نزعة الحنين إلى الماضي، من وسائل ما بعد الحداثة لتجاوز الواقع وتحقيق أقصى قدر من الانفصال عنه (Detachment). اكتسبت المتاحف والمتنزهات (Theme Parks) وظيفة جديدة في مجتمع ما بعد الحداثة، وتحولت إلى أماكن لإعادة خلق صورة الماضي كواقع بديل (Substitute Reality). لقد تحولت مناجم الفحم الضخمة في بريطانيا إلى أماكن يقصدها السائحون والزوار للترفيه ولتجربة معايشة صور من الماضي تلاشت إلى الأبد. وتحول عمال مناجم الفحم تلك إلى أدلاء سياحيين يرشدون الزوار حول أماكن عملهم السابقة ويعرضون عليهم نمطا من الحياة اختفى من الواقع ولم يعد حاضرا إلا على شكل محاكاة للماضي. انتفت الحاجة إلى المناجم، ولكن الدافع هنا هو نوع من الحنين إلى الماضي. في مثل هذا المجتمع ما بعد الحداثي يدفع الناس النقود ويبحثون عن التسلية من خلال استهلاك تجارب حياتية لم تعد موجودة في المجتمعات المعاصرة بسب التحولات الاقتصادية والصناعية الكبيرة والمتسارعة. بينما في الماضي القريب كانت هذه التجارب جزء حي وفاعل من تجربة الحياة اليومية للفرد والمجتمع. أصبحت وتيرة التبدل والتغيير في نمط الحياة أكثر تسارعا، ومعها أصبحت الذاكرة الجمعية أكثر عطبا وأقل قدرة على الاسترجاع. لم يبقى من الواقع سوى فيض من الصور غير المترابطة.

 

 

باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

 

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني.

أضف تعليقك