ما بعد الحداثة: الطريقة التي يحلم بها العالم أن يكون أمريكيا

ما بعد الحداثة: الطريقة التي يحلم بها العالم أن يكون أمريكيا
الرابط المختصر

تعد الولايات المتحدة الأمريكية المركز الأكثر أهمية لظهور وتصاعد ما بعد الحداثة، التي باتت تعرف بوصفها نمط الحياة الأمريكية في النصف الثاني من القرن العشرين. ومن مظاهر ما بعد الحداثة في أمريكا هستيريا معاداة الشيوعية، وأجواء الحرب الباردة، والتكيّف مع الظروف البيروقراطية، والتيارات المراهقة المعادية لليبرالية، والحركات النسويّة، وحركة السود، والشواذ، والهبييّن، والاحتجاجات اليساريّة، وحرب فيتنام، وصعود التيار اليميني المحافظ، وغياب الإجماع الشعبي والتشتت. ويذهب ستيوارت هال إلى "أن ما بعد الحداثة هي الطريقة التي يحلم بها العالم أن يكون أمريكيا. فقد تحولت أمريكا الشمالية بالفعل إلى مكان أو مصير يؤول إليه لاوعي العالم حسدا لما تركز فيه وفرة في التحديث والتطور والحرية".
 

وفي تحليله لحالة ما بعد الحداثة يتخذ الفيلسوف الفرنسي المقيم في أمريكا جان بودريلار من والت ديزني ومدينة لوس أنجلوس أمثلة تتجسد فيها ثقافة الصورة والمحاكاة والإبهار بأكمل صورها. لقد أصبحت القيم الأمريكية السائدة في الحياة اليومية وعلى المستوى الشعبي هي القيم التي تسعى المجتمعات إلى تبنيها وتطبيقها مهما كلف الثمن. فمن مطاعم الوجبات السريعة والعنف المفرط والصخب إلى مراكز التسوق الضخمة والاستهلاك الفائق والحركة المستمرة التي صارت جميعها مظاهر تنتشر عبر الثقافات والدول والشعوب بدون أدنى اعتبار للخصوصية الثقافية والقومية. لقد أصبحت غاية ما بعد الحداثة هي إضفاء قيمة جمالية على الاستهلاك وعلى أي نوع أنواع التفكك الثقافي.

 
و رغم محاولات النقاد الثقافيين والمؤرخين الربط بين مجموعات من الأحداث أو التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وبين التحوّل الثقافي الشامل نحو ما بعد الحداثة، إلّا أن الاتفاق على تاريخ محدد لظهور ما بعد الحداثة يبقى قضية خلافية. يتحدث بعض النقاد الثقافيين بنبرة واثقة عن تحديد وقت معين بدقة بالغة لبداية ما بعد الحداثة: الساعة الثالثة والدقيقة الثانية والثلاثين من بعد ظهر يوم الخامس عشر من يوليو عام 1972، وهي اللحظة التي تم فيها إزالة مجموعة المباني السكنية المعروفة بروت إيغو (Pruitt Igoe).  وهذه المباني هي مشروع إسكاني ضخم من تصميم المهندس مينورو ياماساكي تم افتتاحه في عام 1955 في مدينة سينت لويس في ولاية ميسوري في أمريكا، وقد حاز على جائزة عالمية بوصفه نموذجاً متميزاً لفن العمارة الحديث. غير أن التدهور السريع لمستوى الحياة الاجتماعية لتلك المنطقة وانتشار الجريمة والعنف والعصابات أدى إلى اتخاذ القرار بإزالته بصورة نهائية.

 

 

كانت تلك اللحظة بمثابة إعلان لموت الحداثة ومظاهرها في مجال العمارة والفن والأدب والثقافة والفكر، وصعود ما بعد الحداثة بوصفها التعبير الثقافي والفني الوحيد عن الحضارة الغربية الرأسمالية المتأخرة. ولا يتفق جميع النقاد الثقافيين والمؤرخين على ذلك التحديد التاريخي الضيق لانبثاق ما بعد الحداثة الذي وضعه الناقد الفني تشارلز جينكس. ويشير بودريلار إلى نهاية الحرب العالمية الثانية كبداية لمرحلة ما بعد الحداثة، حيث تم الانتقال من الاقتصاد الماركسي التقليدي إلى اقتصاد الصورة، وصرح بأن الاقتصاد السياسي لم يعد صالحا لفهم وتحليل التحولات الكبيرة في المجتمعات ما بعد الحداثية. وكان بذلك يعلن انسحابه التدريجي من اليسار الماركسي لينضم إلى الجناح اليميني المحافظ مع بداية السبعينيات. بينما يصر فريدريك جيمسون على أن ما بعد الحداثة ظهرت في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات مع ظهور الاستعمار الجديد والثورة الخضراء وعصر التكنولوجيا. ويذهب ارنست ماندل إلى أن البدايات ارتبطت بالرأسمالية المتعددة الجنسيات التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وقد شكلت منتصف السبعينيات المفترق الحاسم لتطور ما بعد الحداثة، ويرى كالينيكوس هذه الفترة بوصفها مرحلة تكثيف للرأسمالية (و هو رأي جيمسون أيضاً) لا مرحلة طفرة جذرية إلى داخل ما بعد الحداثة (أو نمط "ما بعد الفوردية " الإنتاجي) ويتفق الأكاديمي والناقد الثقافي البارز جون ستوري (John Storey) مع تحديد فترة نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات لظهور ما بعد الحداثة، ويشير إلى إعلان الناقدة الثقافية الشهيرة سوزان سونتاغ (Susan Sontag) ـ في كتابها (ضد التفسير Against Interpretation) الذي صدر في عام 1966ـ عن ظهور حساسية جديدة في الثقافة والأدب مع بداية الستينيات.

 

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدرلها مجموعة أبحاث أبرزها:

1. أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع . دمشق 2014

2. الانسان في ما بعد الحداثة دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3. نهايات ما بعد الحداثة: ارهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013

4. فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني.

 

أضف تعليقك