كمال بلاطه.. في بيت في سرّة الأرض

تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها في محاولة لإضاءة جوانب من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الثامن والعشرون من أيار/ مايو، ذكرى ميلاد الفنان والمؤرّخ الفني الفلسطيني كمال بُلّاطه (1942 - 2019).



في مثل هذا اليوم من عام 1942، وفي أحد بيوت القدس العتيقة، رزق يوسف بُلّاطه وزوجته بآخر وافد إلى الأُسرة. منحاه اسم كمال، لينشأ قريباً من معنى اسمه، وهو من سيصبح أحد أبرز الفنانين العرب في القرن العشرين وأكثرهم تميّزاً.

نشأ في القدس التي ستعرف عام 1948 احتلال قسمها الغربي، وبينما كان الفنان الشاب يقيم معرضاً في بيروت عام 1967، وقعت حرب حزيران/يونيو واحتلّت القدس ومُنع من العودة إليها. عاش كمال بُلّاطه بقية حياته في المنفى ولم يعد للقدس سوى كـ "زائر" بجواز سفر أجنبي عام 1984 حيث صور المخرج الدنماركي رودولف فان دِن بيرغ فيلماً وثائقياً بعنوان "غريب في بيته" عن عودة الفنان الناقصة إلى مدينته المحتلة.

لكنه تمكن من العودة بشكل نهائي إلى مسقط رأسه في آب/أغسطس الماضي إثر رحيله في برلين وتمكّن أسرته بعد أسابيع من المحاولات من نقل جثمانه إلى القدس التي رقد في ثراها.

نستعيد هنا بعض المقالات والنصوص التي كتبت في وداعه في "العربي الجديد":



إلى كمال بُلّاطه

نجوان درويش

أصحاب "المُصطفى"

في كتاب "النبيّ" جاؤوا بسفينتهم لكي يأخذوه بعيداً عن أورفليس

بِمَ جئنا نأخذك من برلين؟

"المصطفى" نظرَ صوب البحر وقال سبعين صفحة من الكلام

قبل أن يمضي

لكنّك مضيت بلا كلمةٍ واحدة.

هل كنّا نحتاج "ساعة الفراق" لنعرف عُمق المحبّة؟

كنّا نعرفُ أنها هُوّةٌ

ونُؤمّل أرضاً في آخر السقوط...

ما زلنا نهوي

وليس ثمّة من أرض

ليس ثمّة من أرض.



■ 



يا رب، إنها حكمتك

أكثرت من الوضيعين والأنذال لترحمنا

حتّى لا نقف محطَّمين وعراةً قرب نعوشهم

حين تردُّهم إليك

حتّى لا تبكي الشمس فوق مقابرَ مشرقةٍ

كالتي ينام فيها كمال.

يا رب إني أشكو إليك رحمتك.



■ 



مُذْ مُدَّ وِسادي في بيوتٍ قريبةٍ من قُدسك

وأنا أتحسّبُ الفراقَ

أهلي يشبهون زيتون حقولهم

ورحيلهم يشبه خَلْع زيتونةٍ وتعليقها في السماء

يا رب أعد زيتوننا إلى الأرض فإننا ألفناها.

يا رب إني أتحسّبُ الفراقَ

حتّى بعد أن يحدث.



■ 



يا رب في غرناطة أرضٌ

يقال لها عين الدمع

تأتيني في الحلم وتمنع عنّي النوم

يا رب

اصرِفْ عنّي عينَ الدمع.



■ 



يا رب غيومك مكفهرّةٌ

ونفسي أرضٌ يباب تشقّها فؤوسُ الدمع

يا رب

أين تذهب غيومك؟



■ ■ ■



عزيزتي لِلي

تيري بُلّاطه

حين وصلَنا خبر رحيل كمال بُلّاطه المؤسف، راجع كل فرد من أفراد العائلة وثائق سفره لمعرفة من لديه تأشيرة للسفر ليكون إلى جانب "لِلي" في هذه الفترة العصيبة. وأنتم تعرفون ما سيأتي بعد هذا. ولكن عليّ مع هذه التأشيرة أن أحمل بقلب مثقل كل حكايات أبي وعمّي وإخوتي وأصدقاء طفولة كمال وآلاف آخرين.

تذكَّرَ أبي اليوم الذي وُلد فيه كمال، أبي يكبره بعشر سنوات، ويتذكّر كيف أنَّ عمه يوسف قال إنه سمّى ابنه الجديد كمال، تمام، لكونه الرقم المكمّل لعائلة من ستة أفراد. واعتاد يوسف، الأب، الموظّف الرفيع في دائرة البريد في القدس، أن يفتخر بالكيفية التي نشأ فيها كمال ليصبح مكتمل الإنسانية عن طريق حبّه للفن. لقد شكّل الفن قيمه الإنسانية تشكيلاً مثالياً بالحب وبالحساسية المفرطة تجاه الظلم.

ويتذكّر عمّي عطا الله كيف أن كمال اكتشف موهبته منذ سن السابعة، وطلب منه أن يأتي إلى البيت ويجلس ليرسمه بقلم الرصاص. ومع أن مساره السياسي حرمه من العيش في مدينته المحبوبة، القدس، التي ارتبط بها عاطفياً، إلّا أن أخي حين كان يقدّم نفسه باسمه، حنا بُلاّطه، كان السؤال التالي ما هي صلتك بكمال بُلاّطه؟ وهذا يؤكد على أن وجود عائلتنا واسمها في القدس ماثلٌ أقوى من أي حدود سياسية ظالمة أو قوى استعمارية، وأن كمال ظلّ موجوداً في القدس على الرغم من أنه يعيش في المنفى.

ابنة أخي "سما" التي التقت بكمال لأوّل مرّة، وآخر مرّة لسوء الحظ، قبل أسبوع من رحيله المفاجئ، تتذكّر كيف أنها داعبته بقولها إنها تمتلك غمّازة على خدها مثله تماماً، وأنها تعتز بدم عائلة بُلاّطه الذي يجري في عروقها مثله أيضاً. في هذه السنة توثّقت العلاقات بين أفراد عائلة بُلاّطه على الرغم من تشتّتهم في مختلف أنحاء العالم بعد النكبة الفلسطينية في عام 1948، بسبب فقدان فردَين من أفرادها؛ عمّي الكبر "إلياس" في آذار/مارس، ثم عمّي "عيسى"، شقيق كمال الأكبر في كندا، في أيار/مايو.

كان كمال قد طلب منّا أن نلتقي. طلب مني الانضمام إليه أثناء زيارته لبيروت في يونيو/حزيران الماضي، الأمر الذي لم أتمكّن منه لمعرفتي بالصعوبات الهائلة التي تحول دون دخول فلسطيني مقدسي إلى هناك. وتعويضاً لهذا كان لقاءُ أخي هاني وعائلته في باريس. ومع أنه كان لقاءً قصيراً إلا أن كمال أرسل إلى كل فرد من أفراد العائلة بعض أعماله الفنية الثمينة وعليها توقيعه؛ إهداءٌ يعبّر عن الحب، وضمنها نسخة أصلية عن عمل فني إبداعي له مع "أدونيس" عنوانه "اثنا عشر قنديلاً لغرناطة".

وبالعودة بالذاكرة الآن إلى هذه الأحداث الأخيرة شعرنا كيف كان كمال يحنّ إلى القدس وإلى عائلته وذكريات طفولته. وشعرنا كما لو أنه كان يودّع العائلة، ويودّع القدس. هل يشعر القريبون من الموت به بطريقة ما، فيحاولون إرسال رغباتهم برسائل قصيرة، وموجزة أيضاً؟

هكذا نشعر ونؤمن حين عدنا إلى القدس. لذلك ثقي يا عزيزتي "للي" أنَّ كمال لم يغادرنا.

قلبك ووجهك وإخلاصك وسجيتك ونقدك الفني المهني، كل هذا يُبقي كمال حيّاً بيننا. أنت ذاكرة كمال الحية المضيئة ومساهمته في قضية فلسطين والإنسانية. نرجوك بوصفك فرداً عزيزاً من أفراد العائلة، أن تعتمدي علينا في أي أمر تحتاجينه في مقبل الأيام، متمنّين لك العافية والعمر الطويل. إن أبناء عائلة بُلاّطه يتشرّفون بأن يمضوا بتراثه قُدماً من جيل إلى جيل، وأن يدعموك ويدعموا أصدقاءه في الحفاظ على تراث كمال والمضي إلى الأمام بالأحلام التي لم تكتمل بعد، معتزّين بأن أعماله الفنية ستبقى أبداً.



* ناشطة مقدسية وابنة عم كمال بُلّاطه التي ألقت كلمة العائلة في الصلاة الوداعية في برلين الخميس الماضي

** ترجمة محمد الأسعد



■ ■ ■



كمال بُلّاطه: حياة في هوى القدس

ناصر الرباط

فنّانٌ مرهف الحس ومسكون بهوى القدس التي فقدها صغيراً ولم يتمكّن من العودة إليها. باحثٌ عن الجمال من خلال تجريد الحروف أو الألوان أو الأشكال الهندسية والتفتيش عن مدلولاتها في أعماق تمظهرها. متصوّفٌ زاهدٌ ومتأمّل في تقاطعات القدر القاسية والبتّارة مع حياة الإنسان ومآلاته، خاصة الإنسان المنفيّ أو المغترب طوعاً أو كراهية.

مفكرٌ وناقدٌ متمكّن من تاريخ الفن الحديث بحركاته ونظرياته ومدارسه الفكرية ومن الحركة الفنية في فلسطين والعالم العربي. مناضلٌ بقلمه وريشته من أجل حق فلسطين في الوجود وحق الفلسطينيّين في أن يكون لهم وطن على أرض أجدادهم كما كل شعوب العالم.

هذا هو كمال بُلّاطه الذي فقدناه فجأة، وقبل الأوان، يوم السادس من آب/ أغسطس الماضي، عندما كان يراجع محتوى كتابَين عن فنّه وكتاباته مقرّر لهما أن يُنشرا في كانون الثاني/ يناير المقبل.‬

وُلد بُلّاطه عام 1942، وعاش طفولته وجزءاً من صباه في القدس قبل وبعد النكبة. تشبّع من جماليات المدينة المقدّسة بالمعاينة وعن طريق الدراسة والتأمُّل. تعلّم رسم الأيقونات على يد الفنان خليل حلبي (1889 - 1964)، وجال في حواري المدينة وبين معابدها وأبنيتها الحجرية التي تَراكم التاريخ طبقات على واجهاتها وفي مفاصلها. أذهلته قبّة الصخرة، التي كان يمكنه أن يراها من منزل العائلة، بصفائها الهندسي الذي يأسر النظر ولا يسرّحه بعدها.

بقي هذا الانطباع معه لعقود طويلة ووجّه اهتمامه الفنّي اللاحق بالتشكيل الهندسي وبالقدرة الفائقة للبنية المضمرة على تفعيل الأشكال العضوية والانسيابية المبنية عليها كما هي قبّة الصخرة، ولكن أيضاً كما حال الخط العربي، وكذلك طبعاً كل الأشكال الحية.‬

غادر كمال مدينته مكرَهاً إثر الاحتلال الإسرائيلي الثاني عام 1967. درس في إيطاليا وفي واشنطن، العاصمة الأميركية، وقضى بقية عمره منفياً، بالمعنى العميق (الإدوارد سعيدي) للكلمة، بين الولايات المتحدة والمغرب وفرنسا وألمانيا التي قضى فيها. طَبَعت هذه التجربة شخصيته ومقاربته لفنّه بطابع إنساني عميق، رأى كمال من خلاله العالم بعيون تنفذ إلى لب الأشياء وتجول في أعماقها مفتّشةً عن المشترك والمتقارب والمؤنسن.

وكذلك أثّرت هذه التجربة على تموقع كمال في العالم الذي كان له بمثابة بيت للإنسانية كبير، يحتويه ويحتوي أيضاً كل إخوته وأخواته البشر. وإن كان كل ما فيه يُذكّره بمدينته التي فقد، والتي سكنت ليس فقط في ذاكرته وفي وجدانه وفي حياته اليومية، ولكن أيضاً في كل ما أنتج وأبدع.

فالقدس في كل أعمال بُلّاطه هي الحاضرة الغائبة أبداً، الملهمة الأولى والموئل الأخير، محرّكة ذاكرة الطفولة ونضال الشباب وحكمة الكهولة. هي في أعماله، ولكن في فؤاده أيضاً، بوصلته التي يتيه من خلال ترجرج إبرتها تحت وطأة المنفى في كافة أرجاء المعمورة، ولكنه لا يحيد عن الحنين إليها وعن التعبير عن هذا الحنين في كلّ ما كتب ورسم.

وهو في هذا يشبه إلى حد بعيد الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو، ابن البندقية، الذي كانت أعماله بمجملها ولكن بشكل خاص كتابه الصغير "المدن اللامرئية" أغنية حب لمدينته. ولكن حب كمال لمدينته أحدّ وأشد إيلاماً لأنه منفيّ عنها لا يستطيع زيارتها أنى شاء كما كالفينو.

بل إن القدس بالنسبة إلى كمال صليب غير مرئي حمله في أعماقه واستخلص منه قطرات حنين صافية صبغت عمله كلّه بعشق ووله. هذا هو أيضاً حال تفاعله مع غرناطة وقصر الحمراء فيها، جنّة عربية أخرى مفقودة، رأى كمال فيها مرآة فلسطين وسابقتها على درب جلجلة الخسارات العربية.

دراسات كمال بُلّاطه أفضت به إلى الانتماء للتجريد في تعبيره الفني. ربما لأن التجريد يسمح له بمقاربة ما يريد أن يعبّر عنه من دون أن يضطر للإفصاح المؤلم. وربما لأن التجريد يساعده على تجاوز سذاجة الواقع أو قساوته والسبر في أغوار غير الممكن ولكن المأمول والمشتهى.

وربما أيضاً، وهذه الـ ربما شبه مؤكّدة، لأنه رأى في التجريد حقيقة الأشياء أو بنيتها الباطنة التي قضى عمره يستلهمها فنّاً أراده أكثر جمالاً وتعبيراً وتأمّلاً من القشور الظاهرة وأعمق تأثيراً. النفاذ إلى حقيقة الأشياء كان المحرّك الأول لفن كمال، ليس فقط لأنه كان باحثاً مثابراً، كما تبيّن كتاباته العديدة عن تاريخ الفن الفلسطيني وعن حركات الفن الحديث والمعاصر، بل لأنه كان أيضاً صوفياً حقيقياً لا يكتفي بمظاهر الأشياء وإنما يروم منها أن تدلّه على لب كنهها الذي هو في المحصلة واحد يجمع في بوتقته كل الناس وكل المخلوقات وربما كل الأشياء.

أي أن فن بُلّاطه كان مدخلَه إلى إنسانيته الشاملة التي صهرت تفكيره وشكّلت شخصيته وصاغت فنّه على الرغم من أن ظروف حياته ومنفاه وفقده لوطنه على يد "إسرائيل" كان يمكن لها أن تجعل منه حاقداً ومنغلقاً على هويته الوطنية الجريحة والمسلوبة. ولكنه ترفّع عن تلك الضغائن وأبدع فنّاً متسامحاً، رؤوفاً، محبّاً، والأهم من ذلك كلّه، جميلاً بعذوبة رائقة كالشعر الذي أحبه وقرأه وشكّله تجريداً في أعمال مشتركة مع شعراء كبار كمحمود درويش وأدونيس.‬

ومع ذلك فهناك في فن كمال بُلّاطه، بل وفي سيرورته في العالم، وعي كبير وواضح بالهامشية المضاعفة التي ألقاها الدهر على عاتقه: هامشية "الآخر" وهامشية ‬الفن‫ كـ"آخر". فهو خبير قديم بالوطأة الوجودية‬ ‫لـ "الآخر"، وبشكل خاص الآخر المنفيّ عن بلده بقوّة غاشمة، الذي تاه في الأرض لا ليستقر في مرفأ آمن ولكن لكي يصوغ من كل المتناقضات والثغرات التي شكلت حياته في القدس وخارجها كلاً تعبيرياً متكاملاً يشهره في وجه العالم كجوابٍ معبرٍ عن مأساته الشخصية والوطنية، وطبعاً - بما أننا نتكلم عن كمال - الإنسانية.

أمّا هامشية الفن كآخر فهي نتاج الحالة التاريخية التي وجد كمال الفن فيها في الثقافة العربية، هامشياً بالنسبة إلى مجالات الإبداع الأخرى كالشعر والموسيٍقى، وكذلك الحالة التاريخية التي واجهها الفن الفلسطيني، والعربي بشكل عام، هامشياً في مواجهة الثقافة الفنية العالمية.

وهو قد تعامل مع كلا التحديين بحكمة وحنكة ونفس طويل، متسلّحاً بفهم عميق للتنظير المعاصر الذي ساعده على فهم نفسه وعلى قولبة موقع كينوني لفنّه على هامش الهامش ظاهراً (فهو يغرّد خارج السرب منذ سنوات إن فلسطينياً أو عربياً أو عالمياً) ولكن في قلب انزياح فرضه على المركز، هوياتياً وتجريدياً. وأصبح جَرّاءه في الآن نفسه نسيج وحده، وواحداً من أولئك القلائل الذين يخلقون للفن المعاصر حقله المعرفي وأدواته التعبيرية... وياله من إنجاز.



* مؤرّخ معماري سوري وأستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا



■ ■ ■



كمال بُلّاطه: الطفولة في سرّة الأرض

إليزابث كي فاودن

"لم يكن يغيّرُ تقانةً، بل كينونةً"/ جون بيرغر في مقالة "شاكر أحمد والغابة"

لاحظت الناقدة جين فيشر في مراجعتها لكتاب كمال بُلاّطه "الفن الفلسطيني: من 1850 إلى الحاضر" أنَّ مِن بين "أكثر رؤى بُلاّطه إدهاشاً رؤيته أن بوتقة الحداثة الفلسطينية يجب العثور عليها في تعريب وتجنيس فن الأيقونات البيزنطي". ولكن بُلُاّطه نفسه لم يتبع هذا المسار.

بدلاً من ذلك، حرّضته الأيقونة الأرثوذكسية على الرحيل على طريق يؤدي إلى منوعات التجريد بعيداً عن تزايد تجنيس الفن التشخيصي، إلى تقطير المنظور غير الخطي الماثل في صميم وجود فن الأيقونات الأرثوذكسي، لخلق تعبير فنّي حديث مختلف اختلافاً راديكالياً عن تعبير الفنانين الفلسطينيين الذين يحلل أعمالهم في كتابه. فلماذا سلك طريقاً مختلفاً مثل هذا؟

لاحظ بلُاّطه عدة مرات أن غريزته الفنية شكلتها ثلاثة أساليب إبداع فنّي تعايشت في القدس حيث ولد ونشأ: الأيقونة البيزنطية وفن الخط العربي والزخرفة العربية. ولم يتحدث بالتفصيل عن دور الأيقونة الأرثوذكسية إلا حين أشار إلى أن أول دروس تلقاها في الرسم كانت على يد رسام الأيقونات خليل الحلبي، الرسام الذي علّمه كيف ينظّم المسطحات المتعددة لأيقونة باستخدام شبكة خطوط متعامدة.

ويشير بُلاّطه، في فصل "التنقل بين الأيقونة الدينية والأيقونة الدنيوية"، إلى "المنظور المقلوب" (منظور بصري يتّسم بتشعب خطوط متوازية وتصاغر الأشياء إزاء المشاهد) أيضاً الذي التقطه من مؤرخ الفن البيزنطي، أندريه جريبر، الذي سكّ هذا التعبير أستاذه ديمتري آينلوف في بطرسبرغ أوائل القرن العشرين. وتتردد أصداء قرابة بُلاّطة الحدسية والمفاهيمية، بالمنظرين والفنانين الروس في أوائل القرن العشرين في أعماله الفنية.

هنا أود أن أستكشف المزيد من صلات التجريد الحديث والأيقونة الأرثوذكسية في أعماله الفنية على هدي مناقشة بُلاّطه للصلات بين الرسم الأوروبي المعاصر والفن الغربي. وللقيام بهذا، سأركز على القدس، المدينة التي منحته طريقة في رؤية وتجربة العالم جمعت بين القديم والحديث، وطرحت على الحاضر القائم تحدياً.



■ 



كانت المدينة القديمة في القدس بمجملها مختبر أعمال هندسية. فمن فوق سطح بيت العائلة يمكنك رؤية قبة كنيسة القيامة العالية، والقبة الأدنى منها المسطحة فوق القبر المقدس، المبنى المقبب المعروف باسم "نصف الدنيا" (سرّة العالم أو الأرض) المحجوب جزئياً ببرج جرس كنيسة صليبي عمودي. وإلى اليمين على مبعدة، يقع مسجد عمر الذي بني احتفاءً بالبقعة التي من المعتقد أن الخليفة عمر ركع وصلى فيها مبتعداً بعداً مقصوداً عن القبر المقدّس حين تسلّم قرار استسلام المدينة من بطريقها صوفرونيوس في عام 637 ميلادية. وتنقط المساجد والكنائس مدينة القدس القديمة، وتضفي معرفة أسمائها شيئاً من النظام على التراكمات والانتهاكات التي تحل بكيان المدينة العضوي.

في هذا الجو، أدخل والد بُلاّطه ابنه منذ مستهلّ حياته في عالم كلماتٍ آخر ذي صلة أيضاً بإحساس شعائري ديني بالمكان والجماعة. فقد اعتاد يوسف بُلاّطه منذ أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، وكمال ما زال يعيش في بيت العائلة، التخطيط لتتوافق صَلاته ظهراً في منتصف النهار مع متعة جمالية مصدرها الإصغاء إلى تلاوة القرآن في المذياع. وآنذاك كان يسود الصمتُ البيتَ المبني من الحجر، ولا يجرؤ أحد على مقاطعة الصوت الملحَّن وهو يتغلغل في الفضاء الهادئ. كان هذا ما يزال عالم مذياع، ولم يصبح عالمَ مكبّر صوتٍ بعد.

كان صوتُ المؤذن الصافي يرفع الأذان الداعي إلى الصلاة، وتقرع الأيدي أجراس الكنائس ولا تذاع من تسجيلات. وكانت ذكريات كمال السماعية المبكرة ذكرياتٌ مكانية أيضاً، لأن مؤذن كل مسجد في الحي كان يكرر خمس مرات في اليوم التأكيد على جوار وعلاقة وهو يعزّز بصوته المميَّز شكل المدينة. ويتردد من حي إلى حي صدى "الله أكبر" ناشراً صوتاً يزخرف أنحاء المدينة.

كان المسيحيون جزءاً من هذا الفضاء، فهم يشاركون جيرانهم المسلمين تقدير جماليات اللغة العربية. واعتاد والد كمال على رواية قصة حدثت حين اشتكى فيها مسيحي يعيش في الحي الإسلامي لدى إدارة الأوقاف مؤذناً جرى تعيينه حديثاً بسبب عدم جمال صوته، فاقتنعت الإدارة ونقلت المؤذن بعيداً عن الأسماع، وأحلت محله مؤذناً أكثر حساسية تجاه جماليات الأذان. وبفضل هذا التشكل المبكر فهم كمال معنى المكان والجماعة عن طريق جمال اللغة العربية، ولغة القرآن بخاصة.



■ 



تتيح لنا رؤية أعمال كمال بُلاّطة الفنية من زاوية أرثوذكسية التبصر في لغته الفنية، ليس في سياق الفن الفلسطيني والعربي فقط، كما هي الحالة المعتادة، بل كمساهمة في التجارب الراهنة على مستوى العالم، ومبعثها الأزمات السياسية والصدامات الثقافية التي أطلقت شرارة الفن التجريدي في أوائل القرن العشرين، وفي موسكو قبل أي مكان آخر، حيث حفّز منظور الأيقونة غير الخطي، على إحداث تغيير إبداعي جذري.

وتكمن الصلة الأقوى بين بُلاّطه وفناني أوائل القرن العشرين في إصرارهم على تعدد المستويات في اللوحة، وتمسكهم بتعدد المراكز، ونبذهم للمنظور الأحادي والثبات، وكلاهما يُفرض فرضاً على المشاهد بصرياً وروحياً.



* Elizabeth Key Fowden ناقدة إنكليزية وأستاذة في جامعة كامبريدج، والمقاطع من دراسة لها ضمن كتاب "Uninterrupted Fugue" الذي يصدر قريباً عن دار هيرمر (Hirmer) المختصة بالكتب الفنية، ويضم دراسات حول تجربة كمال بُلّاطه لمجموعة من كبار الباحثين.

** ترجمة محمد الأسعد



■ ■ ■



سُكارى بضوءِ منفاك

هاني زعرب

ربما ليس لديك الوقت الآن وأنت في جوقة اكتشاف الغياب، خلف هذا الزمن، لترى ماذا فعل غيابك وكم أثّر فينا. ما هذا الذي فعلته بنا يا كمال؟ فأنت رجلٌ منظَّم في مواعيدك أكثر من الساعة نفسها، كيف تذهب هكذا بدون أن ترنو لنا حتى بإيماءة لذلك.

ولكن لا عليك يا صديقي، فأنا واثقٌ بأنك حتى في هذا كنت قد رتّبت ذلك مسبقاً، لأنك أنت من علَّمنا بأن لا خير في أي شيء قبل إتمامه. وأمّا عن استغراب الجميع دون استثناء لرحيلك السريع هذا، فهو نابعٌ من إيمانك الكبير بأن صورة الحياة هي الأقوى دائماً، وأنه لا يمكن للإنسان أن يختفي بلا أثر.

أنت تعرف يا كمال كم شعرت بالرعب حين تركتُ المنزل لأول مرة. لأنني لم أكن أعرف سوى "فلسطين"، هل تعرف كيف ثابرت؟ بمعرفتي فقط أين كان موطني، وأنني دائماً أجد الطريقة الخاصة بي لأعود إليه. هذا ما تعلّمتُه منك أيضاً، ولولا الشجاعة التي أمددتنا بها لكنا ربما قد استسلمنا.

لا أنسى ذلك اليوم من العام 2006 في باريس عند تصوير فيلم "Meet me out of the Seige" حين قلت لي بلهحتك المقدسية العذبة: "ما تزعل.. هون في المنفى حترجع لوطنك أكثر من قبل... "، بالتأكيد كان عليَّ استيعاب تلك الصورة لاحقاً، لأدرك أن هناك سُبلاً عديدةً لفهم ما هو عادل.

تتملكنا أحياناً الرغبة بالاعتراف، وتزداد هذه الرغبة في حالات الغياب، لهذا سأحتفظ بصوتك الأخير في آخر مكالمة بيننا عندما قلت لي: "ابقَ كما أنت واستمر، وافعل في لوحتك ما تُحب وليس ما ينتظره منك الآخرون"، نعم يا كمال، سأرسم ما دام يمكنني أن أفعل ذلك. وهذا كل ما يمكنني أن أفعله. أريد دائماً أن أُصغي إلى قلبي فقط.

كم سأفتقدك وكم سأتوق لسماع صوتك، وخاصة حين كنت تبدأ المكالمة بكلمتك المعتادة: "مرحباً، أنا كمال... "، كم كانت رقيقة تلك الطبقة الأولى لحديثك وكأنك تفرش بها لوناً في غاية الشفافية ليستوعب ما يليه من طبقات… وكانت هذه النغمة كفيلة لأعرف من تلك الدرجة في لون البداية لصوتك مدى القتامة أو النور الذي يحمله حديثك معي.

فعلاً يا كمال، دائماً الذكريات هي أفضل عادةً ممّا كانت وقت حدوثها، وكل سُكرٍ بلا مُسكِر لا يعوّل عليه. لذلك أعتقد بأننا أصبحنا سُكارى بنورِ منفانا ـ بضوءِ منفاك ـ ذلك الممر الذهبي الذي سيحملنا يوماً نحو الفردوس.



* تشكيلي فلسطيني مقيم في باريس



■ ■ ■



معلّم يفتح نوافذ المنفى

ستيف سابيلا

ذات يوم أرشدني معلّم إلى طريق مختلف، صعب وطويل، ولكنه يستحق أن يُسلَك. التقيتُ بكمال بُلّاطه خلال مقابلة لي مع لجنة محكّمي مسابقة فنية في فلسطين قبل عشرين سنة. عنوان عملي الذي دخلت به المسابقة كان "هُوية". وحين استغربَت لجنة المحكّمين من أشكال صوري الفوتوغرافية التي قدّمتها، قلتُ: "هذه هي الطريقة التي أرى بها القدس".

واستفزّني كمال حين قال: "أنت تتكلّم عن القدس طيلة الوقت، ولكنني لا أراها في أي مكان من أمكنة عملك، أين هي؟". فأجبت محتدّاً: "هل أنا بحاجة لالتقاط صور فوتوغرافية للقدس لأعالج موضوعها؟ هل أحتاج حقاً إلى تصوير قبّة الصخرة أو بوّابات المدينة لأُظهر للمشاهد أنني أشير إلى القدس؟ القدس مجرّد موضوع إحساس وإدراك".

أحبّ كمال جوابي وهنّأني. في تلك المسابقة كسبتُ كمال، وشعرتُ أنَّ هذه هي الجائزة الأولى. وغالباً ما كان يُوجَه إليّ سؤالٌ خلال اللقاءات الصحافية: مَن مِن الفنّانين يلهمك؟ وكنت لسنوات عديدة أجيب بالقول: كمال بُلّاطه.

إنه يشعّ نوراً، حتى وإن أحسّ بعض الناس في إشراقه تهديداً. أنا أرى فيه بدلاً من ذلك دعوة. لم تلتمع بيننا الشرارة الأولى، فقط لأنني رأيتُ كتابه الفني "اثنا عشر قنديلاً لغرناطة"، بل لأنَّ كلماته شكّلت مصدر إلهام لي. في أذنيَّ ظلّت ترنّ لسنوات، ومع كل صدى كانت تضيء معنى جديداً في أعماقي. استجوبتني كلماته، دفعتني لأستكشف أقصى ما لديّ من قدرات. قارنني بالنسّاك الذين انتقلوا إلى الصحراء ليعيشوا في عزلة، بل وأهداني كتاباً عنهم يحمل هذه الجملة بتوقيعه: "إلى ستيف؛ ارحَل إلى المجهول".

حين التقيتُ بكمال، عرف حكايتي من دون أن أخبره. عشتُ في منفىً ذهني في القدس. أما هو فعاش في منفىً واقعيّ، وآلمه أن يراني أعاني، وأنا أعيش في مدينة ميلادنا، القدس، مدينة يُحرم من حقّه في العودة إليها. أصبحنا أصدقاء في منفى. في البداية كانت صلة بعضنا ببعض ميثاق تضامن، تطوّر إلى إرشاد، وشيئاً فشيئاً أصبح عائلياً، بلا قيد.

قمتُ مرّةً، أنا و"فرانشسكا"، بزيارة كمال وزوجته "للي" في بيتهما في الجنوب الفرنسي. وفي الطريق إليهما، وأنا أقود السيارة في طرقات "مونتو" المتعرّجة، قلتُ لفرانشسكا متنهّداً كم أنني حزين من أجلهما، أن يعيشا في بلدة نائية، بعيداً عن المدن الكبرى، وحدهما في منفى. وارتقينا بسيارتنا صاعدَين منتظرين أن نرى أيديهما تلوّح لنا.

دخلنا بيتهما، ووجدنا أنفسنا في حجرة الجلوس. حجرة بسيطة، ولكنها أكثر من هذا، كانت أقرب إلى صومعة نسّاكٍ، مكاناً للإلهام والتأمُّل والاستبطان. وحين فتحا النوافذ، وجدنا أنفسنا أمام مشهد بحر لا نهائي تتراءى فيه سماء زرقاء صافية، كما لو أن رساماً تخيّله.

كان بيت كمال في منتصف خاصرة الجبل، مطلاً على كل البيوت من حوله تقريباً. شرفته أشبه باستطالة لسطحنا في البلدة القديمة؛ منصّة، وسيلة نقل إلى عوالم غير مرئية. ربما بدا مشهد البحر، بالنسبة إلى كمال، شبيهاً بذاك الذي لبحر حيفا أو بيروت، والأشجار مثل تلك التي في فلسطين، صامدة قابلة للتكيف. ولا بد أن للهواء رائحة هواء يافا العابق بعطر البرتقال، والبيوت المبنية بحجارة ذهبية تذكّر بسهولة بتلك التي في القدس.

لم يكن كمال في منفى. لقد وجد وطناً، فضاءً فكرياً، منحه القدرة على العيش في كل فلسطين، بحدود تمتدّ إلى ما لا نهاية. وتولاني شعورٌ بالرثاء لحالي. وعادت كلماته تردّد صداها في أذنيّ مرّة أخرى. لقد دعاني لمباشرةِ سلوكِ طريق مثمرٍ في قلب المجهول، ولكنني لم أجد حتى الآن وسيلة للخروج. عشتُ في منفى دائم، بينما وجد كمال وسيلة ليعيش حراً على قمة العالم.

ونحن نهبط من الشرفة ونتّجه إلى ساحل البحر، إلى شاطئ الريفيرا، أشار كمال إلى نوافذ بيت وهمية تطلّ على البحر. وشرح لي كيف أن الإيطاليين أتقنوا هذا النوع من الرسم للإيهام بأن لبعض البيوت نوافذ أكثر ممّا لديها فعلاً. بهذه الطريقة أثّر كمال فيّ؛ رسم ولوّن نوافذ في ذهني تطلّ على أراضٍ حرة. وكان عليّ أن أكتشف كيف ومتى أفتح نوافذ منفاي وأبصر مساراً واقعياً نحو التحرّر.



* فنان فلسطيني من القدس يقيم في برلين

** ترجمة محمد الأسعد



■ ■ ■



كمال بُلّاطه: الحالم بالأقمار الهندسية

خالد النجار



ثمّةَ رسّامون يبدعون تلقائياً وغريزياً، كما الشعراء الشعبيين، وقلّة نادرة تجمع بين الكلمة/الخلق وفعل الخلق؛ فان غوغ ورؤاه المبثوثة في رسائله إلى أخيه ليو، وبول كلي وكتابه "نظرية الفن الحديث" ورسائله الإيطالية ودفاتر يومياته في تونس والقيروان، وبيكاسو ونصوصه التي بلغت 340 نصاً: تنظير فني، ورسائل، وشعر، ومسرح، وروثكو ومؤلّفه عن التجريدية التعبيرية. هؤلاء ورثة مايكل أنجلو وليوناردو دافينشي وما تركاه من كتابات تأسيسية؛ وهم ينتمون لما يُسمّى "L’art savant" ويمثلون الفنان العارف، رغم اختلاف عصورهم ومشاربهم ومدارسهم.

كمال بُلّاطه ينتمي إلى هذه الأرومة الفنية التي تعاني الإبداع والوعي بالإبداع؛ فالتنظير لديه ليس عملاً مدرسياً، بل إبداع مواز لمنجزه التشكيلي. كان أول نص قرأتُه له في مجلّة "مواقف" في تواز واصطحاب رسوم وتخطيطات تجمع بين دقة الهندسة وسيولة المشاعر، نص هو مزيج من شعر وفكر.

أتذكّر كانت هناك أيضاً تخطيطات لمنى السعودي. كانت أواخر السبعينيات وكان عصر انفجار فني عربي من رموزه حسن السوفي، وهو من أوائل من أدخل التعبيرية التجريدية إلى الرسم العربي، وإيتل عدنان وسيمون فتال وضياء العزاوي وفريد بلكاهية، والقائمة طويلة.

من يومها شدّتني أعمال بُلّاطه الذي يجمع بين الصرامة الهندسية والشاعرية العميقة وهو، كما تقول العرب، مَركب صعب. فنّان متجذّر في ميراثه الكنعاني والعربي المسيحي والإسلامي، فنان مأخوذ بالدقة الرياضية مع التأمُّل اللغوي... كل الناس التي لم يسعفها الحظ لمشاهدة معارضه لا بد أنها رأت بعضاً من أعماله الحروفية في كتب عبد الوهاب المسيري وفي المجلات وعلى أغلفة مجلات "مواقف" و"شؤون فلسطينية" و"الكرمل"، وعبر ملصقاته التي أنجزها لـ"المؤسسة الثقافية العربية الأميركية" في واشنطن التي كان أحد مؤسّسيها و"غاليري ألف" التابع لها، وغيرها من المؤسسات.

كان بُلّاطه يجمع بين الحدس الفني والحس الرياضي بالأشكال، كما لو كان يردّد مع بول كلي ترى بعين وبالأخرى تشعر بالأشياء... كان له اطّلاع موسوعي على عوالم اللغة والتاريخ العربيَّين.

وكانت سلسلة من الصدف خيطا سِرّيا قادني إليه؛ من سيدي بوسعيد إلى مونتريال إلى واشنطن... لقاء صدفة مع نورما سالم التي كانت وضعت بيوغرافيا عن حياة بورقيبة فجاؤوا بها إلى تونس كما لو أن إنجاز رسالة أكاديمية حدثٌ استثنائي، ولكنه عصر بناء أسطورة الزعيم. بقيت من نورما قصيدة كتبتها بالإنكليزية عن أقمار سيدي بوسعيد التي تطلع من البحر. ونورما هي التي حملتني لأستاذها عيسى بُلّاطه في مكتبه بجامعة ماك جيل في مونتريال... كنت قرأت كتابه الجميل عن بدر شاكر السياب، فأجريت معه حواراً لمجلة "المستقبل" الباريسية، وهو الذي أمدني بتليفون شقيقه كمال قبل سفري إلى واشنطن.

هكذا رمتني الصدف من سيدي بوسعيد إلى واشنطن إلى ساحة الديبن سركل بأشجارها الباسقة ولاعبي الشطرنج حول طاولاتها الحجرية في شعاع الغروب. شارع "أَم استريت" ولهب نيران أعمدة إضاءته المرتعشة تحت سماء أول الليل الفيروزية، فقد كان في الجوار آخر الشوارع التي ظلت تُضاء بالغاز، ومارتين التي لقيتها في مدخل بوكستور كريمر والتي جاءت بعد أشهر إلى تونس وذهبنا إلى الصحراء وسط قبائل البربر... وعلى لوحة نحاسية مثبّتة على بار كرايمر كُتبت أسماء الحرفاء ممن صمد وراء البار على طريقة همنغواي ولفت انتباهي اسم عبد الرحمان النجار. سألت فقيل لي مغربي مر من هنا.

غير بعيد عن ميدان ديبن سركل "Dupont cercle" كان يقيم كمال، والتقينا بعد مكالمة على التليفون، وجاء إلى الموعد وحملني إلى شقّته. أتذكر الصالون الكبير المضاء، ومكتبته التي تغطي الجدار. كان في عز شبابه، حديث العهد بالزواج، أتذكر تلك الابتسامة الوادعة وترحيبه الدافئ، وطريقته الأنيقة فالحذرة في التعامل مع الآخر، وكان حديث عن نصه في مواقف وتخريجه اللغوي لكلمة إنسان وأنها مثنّى إنس، ومن خلاله أدركت أن اللغة العربية أرقى أخلاقياً من اللغات الأوروبية التي مَنح فيها الذكر اسمه للجنس البشري؛ فكلمة "homme" الفرنسية تعني الذكر، كما تعني في الآن نفسه الجنس البشري، في حين أن كلمة إنسان العربية حيادية؛ فهي تعني في الآن المرأة والرجل على السواء.

أهداني ذاك العدد من "مواقف"، والذي ما أزال أحتفظ به في مكتبتي في تونس.. ظللت أتردّد عليه طيلة إقامتي الأولى القصيرة في واشنطن، ومرّت سنون وجاء إلى تونس والتقينا، ووجدت كمال مستمراً في مشروعه: التشكيل والكتابة عن التشكيل... واستحضرت الآبدة التي تقول: نحن نكتب دائماً نفس الكتاب... ورأيت أعمالاً لم أعهدها من قبل، أعمالا يمتزج فيها القصد بالتلقائية، لوحات تقوم على نظرة واعية بما أنها بناء رياضي، خطوط أفقية وعمودية ومكعّبات مع تلوينات متجاورة تمنح سطح اللوحة عمقاً روحياً من دون اللجوء إلى المنظورية، ألوان شفافة تمضي بالشفافية إلى أقاصيها، هندسة استشفّ كمال روحها من تراثنا المعماري في حواضر الشرق في القدس وشيراز وقرطبة وفاس، ولكن من دون السقوط في تكرار الماضي.

أعمال كمال الضاربة في الحداثة تستند إلى تراثنا الرياضي، إلى ابن الهيثم الذي يعتبره معلّمه الأول. ولسان حال كمال بُلّاطه يقول للغربيين: لدينا نحن فن يقوم على الهندسة ورموزها الكونية قبل فيكتور فازاريللي، وقبل الرسام الفرنسي من أصل روسي سيرج بولياكوف الذي يعتمد هو أيضا البناء الرياضي، وقبل الهولندي موندريان وتأليفه بين الخط المستقيم الذي يرمز للذكورة والزاوية المستقيمة التي ترمز لمبدأ الأنوثة، في وحدة كونية تجمع مبدأي الأنوثة والذكورة، الروحي والمادي، التجسيم والتجريد... في حين أن الدائرة لدى بُلّاطه هي التي ترمز للسماء والأنوثة، وهو في هذا قريب من الرموز الفرويدية.

ها هو كمال بُلّاطه يغيب وأحسّ أن لقاءً لم يكتمل، أشعر بأن شيئاً في داخلي انفصل إلى الأبد ... فقد تذكّرته في الآونة الأخيرة في مكتبة الشعر الضائع "POEZIE PERDU" في أمستردام. لمحت اسمه في كتاب ذي إخراج فني جميل هو مختارات من شعر نجوان درويش بالإنكليزية، تصفّحت الكتاب سريعاً، فوقعت عيني على قصيدة عنوانها "أوبرا إلى كمال بُلّاطه"، كان كما لو أن الأمر وداع، ووجدت نفسي أردّد في داخلي قول الشاعر: "فارقتُه زمناً ولما التقينا كان تسليمه عليّ وداعا".



* شاعر ومترجم وناشر تونسي



■ ■ ■



أيُّها الراحل بين الثقافات

محمد الأسعد



لا أدري لماذا خطرت ببالي حين وصلني نبأ رحيل الفنّان والمفكّر المقدسي كمال بُلّاطه، لأول وهلة، هذه السطور من قصيدة لوركا في رثاء صديقه إغناسيو سانشيز:

"لن أراه

قولوا للقمر أن يأتي

لأنني لا أريد أن أرى دم إغناثيو

على الرمال".

وعُدتُ إلى القصيدة وظلالها، وتراءت في ذهني صورة أخرى؛ هاملت الدنماركي الذي ارتحل في نهاية المسرحية الشكسبيرية مثلما يرتحل أبطال المعارك لأنه - حسب ما قيل - كان مقاتلاً على صعيد الجهاد الروحي فاستحق هذا التكريم. قد أكون متأثّراً في كل هذا بعوالم الفنون البصرية والكلامية، ولكن لا..

سيرة كمال كما عرفتها عن قرب هي سيرة مقاتل على صعيد الوعي، وصورته التي مثّلت في ذهني هي الصورة التي اختارها في سنواته الأخيرة "التركيز على موضوع الشفافية" بعد رحيل بين عدد من الثقافات، ذاك الرحيل الذي أنشأ لديه الوعي بأبعاد متزامنة، فكان "وعياً طباقياً" بتعبيره.

ليأت القمر إذاً، ولتكن تحية الوداع الأخيرة لكمال بُلّاطه هي ذاتها التي تودّع فيها الثقافات الحية أبطالها، لأن دمهم بالفعل هو الذي سُفح في المنافي، ولم يكونوا مجرّد محترفي وصناع فنون أو كلمات. سأتحدث إذا عن منجزات فنان مفكّر في وقت واحد معاً، وأضعها في مكانها الصحيح كمنجزات تصنع لنا تاريخاً أو تصحح لنا التاريخ.

كان لقائي الأول به منذ سنوات منفاه الأولى في الولايات المتّحدة على صفحات مجلات عربية مثل "مواقف" بشكل خاص، إلا أن منجزه الفكري المتمثّل في كتابه "الفن الفلسطيني من 1850 إلى الزمن الراهن" (2009)، ومن قبله "استحضار المكان" (2000) هو ما قدّم تجديداً فكرياً كنّا بحاجة إليه على صعيد الثقافة العربية، والفلسطينية منها بخاصة، حين أنجز إحاطة بتاريخ الفن الفلسطيني غير مسبوقة، وطرح نهجاً في الكتابة واعداً، أعني ضرورة التنقّل بين الأزمنة والأمكنة جيئة وذهاباً ليس لكتابة سيرة الفن الفلسطيني، بل وسيرة الشعر والرواية والنقد والحراك السياسي والفكري، تأسيساً على أن الشتات الفلسطيني رافقه شتات على كل صعيد، ولم يعد ممكناً كتابة أي نشاط أو فعل فلسطيني إلّا بهذا التردّد بين الماضي والحاضر، وبين هذا المكان وذلك، وفاءً لحقيقة الواقع الفلسطيني وتأسيساً للهوية التي لا تُمحى مهما كان نصيب حياة الفلسطيني من تشظٍ ونفي طوال ما يقارب القرن.

كمال إذاً بهذا المعنى أستاذٌ لا نكاد نجد له نظيراً. وكان من حسن حظّي أنني اطلعت على آخر محاضرة له تحت عنوان "سفر بين الشفافيات"، ألقاها في المغرب خلال ندوة أصرّ فيها على تقديم محاضرته باللغة العربية. ولفتت نظري في هذه المحاضرة نوافذ فتحها على صعيد الفن العربي ووعي أبعاده. أكثرها أهمية تركيزه على العلاقة المثمرة بين تراث الفن البيزنطي وتراث الفن العربي الإسلامي. وجاء هذا التركيز نتيجة جهد دراسي بالطبع، بالإضافة إلى أنه نتيجة نشأته في القدس حيث تعايشت فنون جاءت إلى فلسطين من أزمنة وأمكنة أخرى، كفن الأيقونة والفن الهندسي الإسلامي.

يقول في المحاضرة عن هذه الصلة: "في أول لقاء لهم بتراث الحضارة البيزنطية، قام الصنّاع والحرفيون خلال العصر الأموي بصهر العناصر الفنية البيزنطية وإعادة ابتكار أبجديتها بصفتها لغة قابلة للتكيف في تعبيرهم الفني.. وهكذا برز ما استجدّ في الفن المبتكر منذ إطلالة فجره في القدس وفي دمشق، حتى ازدهاره في الأندلس. ومن بغداد العباسية انتقلت لغة التجريد الهندسي إلى فارس، ومنها إلى الشرق الأقصى، حيث تابع ميراث الفن الإسلامي تفتّحه وتطوّره استجابة لموروثات فنون من مختلف الحضارات".

وبهذا النهج، نهج التقصّي في ضوء الشواهد الفنية الحاضرة في حافظته الثقافية، نجده يكشف عن "عمق المدى الذي بلغه التجريد في الفن الغربي إثر لقائه بالفن العربي الإسلامي" كما قال، في إشارة إلى معرض الفن الإسلامي الكبير في العام 1910 في ميونخ.

في سنواته الأخيرة، وفي سفره الفني، رسماً وتفكيراً، بين الشفافيات، يتوصّل إلى شرح معنى الخاصية المميزة لفنّه؛ التجريد الهندسي الذي يعتز أنه استمده من التراثَين "الشقيقين" كما كتب حرفياً، وبتعبيره "الإمعان في ما وراء المرئي"، على اعتبار أن الفنانين يبحثون عن رسائل آتية من وراء المرئي.

صحيح أنه فسّر فنّه بهذا الوعي، إلّا أنه من الممكن استخدام هذا الكشف لتفسير ما هو عصي على التفسير في أذهان الجمهور العام في نظرته إلى الفن التجريدي.

ما الذي يبقى من المحارب الذي يسقط في المعركة، هو ذاته ما يبقى من الفنّان والمفكّر الذي يرتفع في معركة الوعي، أي معركة التحرير التي تتفوّق على غيرها من المعارك؛ إنجازه بالطبع. وإنجاز هذا الإنسان المنفي والمبعد عن وطنه منذ أكثر من خمسين سنة يستحق أن يوضع في مصاف منجزات الكبار الذي لا يرحلون حتى وإن رحلوا.



* شاعر وروائي وناقد فلسطيني

أضف تعليقك