يحار المتخصص في الموسيقى قبل عموم ذوّاقتها في انتقاء تحفةٍ من متحف أعمال الخالد محمد فوزي صاحب لحن النشيد الوطني العربي الأشهر لجمهورية الجزائر (قسما) الذي لا يزال يغنى ويتردد حتى يومنا هذا، محمد فوزي الذي قضى وهو ابن الثمانية وأربعين عاماً مقهوراً مظلوماً بعد أن تم تأميم شركته لإنتاج الاسطوانات ثم تعيينه فيها موظفاً بمرتب لا يتجاوز 100 جنيه.
أغنية "فهمتي حاجة" https://www.youtube.com/watch?v=eoGJhmhfx3A التي كتب كلماتها الراحل مصطفى السيد ولحنّها وغناها خالد الذكر سابق العصر محمد فوزي مع الفنانة نور الهدى في فيلم "غرام راقصة"، تعد من الأغاني التي تبرز عبقريةً موسيقيةً وإبداعاً تخطى عصره بمراحل.
أذيعت الأغنية لأول مرة عام 1950 في الفيلم المذكور، وهي عبارة عن حوار جمع بين العاطفة والخجل والتردد الممزوجين بخفة دم وشقاوة محب يراوغ حبيبته متمنياً أن يكشف لها عن حبه.
تبدأ الأغنية على مقام نهوند ري، والمقام كما هو معروف من أكثر المقامات الشرقية استخداماً قديماً وحديثاً لما فيه من مساحات تتيح التنقل من حالة مزاجية لأخرى. فصحيح أن أول ما يتعلمه طلبة الموسيقى الكلاسيكية للتمييز بين الماجور (العجم) والمِينور (النهوند) أن الأخير لربما ينطوي على مسحة شجن ناتجة عن تقارب مسافاته على تنوع ذلك بحسب نوع النهوند (ملوديك أو هارمونيك أو ناتوريل..)، إلا أن هذه القاعدة لا يمكن أخذها على إطلاقها، فثمة عدد كبير من الألحان والمقطوعات الموسيقية العربية والكلاسيكية على مقام العجم وتجدها مفعمةً بالحزن، بينما تجد غيرها على مقام النهوند تنطق بالمرح والفرح. الشاهد أن فوزي استهل تحفته "فهمتي حاجة" على نهوند الرِّي الذي يأخذ درجةً أعلى من نهوند الدو التقليدي الأكثر شيوعاً في الموسيقى العربية؛ ليعطي اللحن نشاطاً وحيويةً من بدايته.
يطلب فوزي في مطلع اللحن من نور الهدى أن يقول لها كلمة على انفراد قائلاً (تعالي أقلك كلمة هناك، عند الشباك)، مستخدماً أداءً كروماتيكياً جزئياً من غماز المقام أي خامسته (لا) ليرسم ببراعة تعبيرية منقطعة النظير سياق الهمس والوشوشة اللتين تحملان في طياتهما استثارة فضول الآخر والإيحاء له أن ثمة أمرا جلل عليه معرفته، لترد عليه نور الهدى برشاقة ومن طبقة أعلى تعكس شقاوةً وتمنعاً جميلاً وفهماً لمراد الشاب؛ حينما تشدّ على كلمة "الشباك" من خلال الاتكاء على غماز المقام (لا)، وكأنها فعلياً تغمزه وهي تقول بجملة موسيقية متصاعدة (كأنها تقول له أن): ليس بيننا ما نخفيه أو نهمس به: "وليه هناك عند الشِبَّاكْ"، ليكمل فوزي محاولاته بترديد عبارات "أصل الحيطان لها ودان، وخايف تسمعنا جيران .. تعالي تعالي"، هذه العبارات تجد أن الراحل فوزي لحنها وأداها بمدّ - بل ومَطٍّ ملحوظ يعكس إلحاح شاب متلهف استشعر بصيص أمل أن تستجيب حبيبته لاحتيالاته وتنزوي معه ليتحدثا بعيداً عن الأعين والآذان المترقبة المترصدة.
حالما استشعر فوزي أن حبيبته بدأت تستجيب لفضولها لمعرفة ما يريد البوح به لها بعد أن استمر بتحفيزها، فإذا بها تقول من مطلع جنس أصل المقام أي من الطبقة العميقة لإعطاء صورة التمتمة مع النفس وشعور الحيرة: "ده جد والا هزار"، ليجيب فوزي فوراً دون أي لازمة أو فاصل موسيقي ولو بسيط "ده سر من الأسرار" ثم يرتفع من رابعة المقام (صول) إلى ثامنته مستقراً على خامسته (لا) مستطردا: "وحكاية"، لتردد هي على أصل جنس المقام مرةً أخرى مستمرةً فيما يشبه التحدث مع النفس مع ارتفاع وتيرة الفضول: "حكاية؟"، فيتابع هو على الطبقة العليا ذاتها قائلا: "ورواية". والحقيقة أن عبارة "دي حكاية ورواية" في الدارجة المصرية بنبرة مرتفعة كما أداها فوزي يعرفها كل من عاش في مصر وخالط شعبها الودود، حيث درجت هناك عبارات للتعبير عن غرابة أو أهمية مسألة ما والبدء قبل الخوض فيها، إذ تجد صديقا لك مثلاً يأتيك بصوت مفعم بالإثارة وهو يهم بتسجيل ما يشبه السبق الصحفي إذ يروي لك حدثاً أو خبراً معينا: "يا ااه.. دي حكاية ورواية!".
يتحول فوزي بعبقرية السهل الممتنع إلى مقام البياتي بعاطفته وشجنه، إذ تفتتحه نور الهدى معلنةً استسلامها لفضولها المستثار فترجوه قائلةً: "شغلت بالي قولها لي، قولها لي قواااااام"، بهذا المد على كلمة "قوام" معبرةً عن الشعور بالضجر مع الرجاء. ثمة تحول مذهل من هذا الجو المشبع بالغموض والترقب إلى سياق ملؤه التفاجؤ المرح الذي نلمسه من فوزي وردة فعل نور الهدى وهو يقول: "دي حكاية وحكاية وحكاية عن واحد طبّ!"، وطبعاً لا تفوت عبقرية فوزي أن تأتي عبارة "عن واحد طبّ" على أصل جنس المقام متأرجحةً بين "ري" و"فا" مستقرةً على "مي"، وهذا تماماً ما يعطي شعوراً بالنزول والسقوط أو كما يقول فوزي "طبّ"، وهنا لا يملك المستمع المتذوّق إلا أن يُفتَن بأداء نور الهدى وهي تقول بنبرة تحمل كل تفاجؤ الدنيا واستغرابها "طبّ؟؟؟"، مشهد موسيقي تمثيلي يجسد عبقرية التعبير عند فوزي ونور الهدى على حد سواء، ثم استمع للازمة التي يرددها كلاهما في نهاية كل كوبليه، حيث تقول: "مش فاهمة حاجة"، ليرد هو بنبرة المغتاظ بهدوء الذي تكاد تسمع صرير أسنانه وهو يقول: "وأنا زيك مش فاهم حاجة".
ينتقل فوزي وهو يحكي قصته المزعومة مع حبيبته المُتَخيّلة، مستخدماً تحويلات لطيفة بين مقام الأغنية الأصلي (نهوند ري) وعجمها؛ مصوراً حديثا ليس له أول من آخر مع بطلة قصته، ثم بخفة دمه المعهودة يصل فوزي إلى مفاجأة وهو يروي لها كيف أنه أثناء الأخذ والرد مع حبيبته في حوار يصوره بجملة موسيقية أشبه بالـ "بينج بونج"، إذ يردد: "وأقله كلمة.. يقوللي كلمة.."، حتى يصل إلى حدث مفاجئ يعبر عنه بغنائه: "وفجأة طبّ غفير.. ووقع قلبي في بير"، وعبارة "وقع قلبي في بير" حين تسمعها وتلاحظ امتداد اللحن في كلمة "بييير" تشعر فعلياً وكأنما الرجل يهوي إلى أسفل.
ينتقل فوزي في تصويره للحوار الذي دار بينه وبين الغفير المزعوم إلى مقام الحجاز، والحقيقة أن استخدام الحجاز هنا يمكن تأويله - وفقاً لتفسير شخصي محض - بما يتسم به هذا المقام من هيبة ومسحة مشايخية لكثرة استخدامه من قبل المبتهلين، فقد يكون هذا ملائماً للتعبير عن حوار يدور مع أحد الغفر الذين كانوا معروفين بشدتهم وهيبتهم لكونهم لهم صفة أمنية وضابطة عدلية. كما هي عادته، ينقلنا محمد فوزي إلى مكان آخر غير متوقع وهو يسرد قصته المزعومة حيث يخبر حبيبته المستثار فضولها أنه أثناء محاولته إلهاء الغفير وصرف نظره عنه وعن محبوبته المختبئة، كان يغمز لها لكي تنسل هاربةً لكن دون جدوى. ولا أدري لماذا استحضرت على الفور الراحل عزيز عثمان وأنا أستمع لفوزي وهو يردد – بعد أن تحول لمقام رصد "صول" - عبارة: "يا سيدي زوغ.. يا روحي زوغ.. يا عقلي زوغ.."، والمدهش أنني حينما حاولت الإجابة عن سبب استحضاري عزيز عثمان عند هذه الجملة الموسيقية، تذكرت أنه غنّى فعلاً حول علاقة الشباك بالحبيبة ورؤيتها والتحدث إليها، وذلك في أغنيته الشهيرة: "تحت الشباك" https://www.youtube.com/watch?v=VQZ2od9OK58. والشباك هو ذاته الذي أراد فوزي من نور الهدى أن تأتي إلى جواره أو تحته ليسر لها بحديث كما سبق بيانه في مطلع هذه المقالة، يضاف إلى ذلك تماثل اللون الغنائي المؤدى في أغنية فوزي (فهمتي حاجة) - محل التحليل هنا - وما اشتهر به الراحل عزيز عثمان من اللون الغنائي الساخر المرح الذي يعبر عن شيء من الفهلوة في بعض الأحيان مثل رائعته الكوميديّة: "بطلو ده واسمعو ده" https://www.youtube.com/watch?v=G8325WC6mYU وأغنيته خفيفة الظل: "عيون حبيبي خضر وخَضَرضَر" https://www.youtube.com/watch?v=sLfCkJUSRMs. في الكوبليه التالي تتجلى أيضاً عبقرية فوزي في إعادة الحوار والسياق ذاته وهو يدعو حبيبته المزعومة المختبئة للهرب وعلى المقام نفسه رصد "صول"، لكن بثيمة مختلفة وتنويع مبهر في الأداء اللحني يجسد تزايد الخوف والاضطراب من أن يضبطهما من قبل الغفير، فتجد فوزي بدعم من آلات الكمان التي ترسم جوا من الخطورة وارتفاع الأدرنالين بمازورة بسيطة جداً عمادها الانتقال الكروماتيكي بين نغمتي "السيكاة" و"سي بيمول" وفوزي يصيح "رجعت أقله يا نور العين.. حنتزبط إحنا لتنين..". وفي معرض التكرار اللحني بثيمة مختلفة، يمكن المقارنة بين أداء العبارة اللحنية في الكوبليه الثاني والثالث لنجد أن هناك فارقاً ملحوظا ومقصودا ينسجم مع تسلسل الأحداث وتصاعدها، ففي المرة الأولى يقول فوزي بمدّ واضح: "يا سيدي زوغ.. يا روحي زوغ.."، بينما في المرة الثانية نجده يقول بتسارع: "يا سيدي زوغ زوغ.. يا روحي زوغ زوغ زوغ.."، وهكذا في تعبير عن نفاد الصبر وتزايد الضجر، إلى أن ينتهي الكوبليه بخروج المختبئة وهروبها برشاقة وخفة كبيرتين تلمسهما من أداء فوزي وهو يقفز ويتراقص على نغمات (صول و لا و سي بيمول) مردداً: "طيران.. زوغان.. زوغان زوغان طيران.."، مع استخدام رائع لتقويس آلات الكمان في الخلفية التي تعطي شعوراً حقيقياً برفرفة الجناح.
يختتم فوزي قصته المختلقة حول لقائه بمحبوبته ثم هروبها وتلاشيها كأنها غمامة صيف عابرة، بترديده على مقام الرصد ذاته: "وهُبّ فتح الباب.. وهُبّ قفل الباب"، ليرتكز بحزن على أصل جنس حجاز "ري" قائلا: "وفَصّ ملح وداب"، أي تلاشى، وهذا الارتكاز على عمق الحجاز معبر بشكل رائع عن الحزن والصدمة من انسلال واختفاء الحبيبة.
خاتمة الأغنية هي كشف محمد فوزي لنور الهدى عن اختلاق القصة برمتها، ويأتي هذا في سياق لحني فريد في الاتصال والتناسق من جهة، والتنويع والتلوين من جهة أخرى، فهو في نهاية الأغنية يعاود السؤال نفسه لكن بأسلوب لفظي ولحني مختلف، حيث يسألها: "فهمتي حاجة" لترد "مافهمتش" ثم ذات السؤال لكن بصيغة أخرى: "عرفتي حاجة"، لتجيب من المنطلق نفسه: "ماعرفتش"، وهذا كله على أصل جنس المقام للسؤال، بينما جواب نور الهدى وهي تقول: "ما فهمتش وما عرفتش" يأتي مقتضباً مترنحاً بين ثالثة المقام (فا) فخامسته (لا) فثالثته مرةً أخرى.. لإعطاء شعور التذمر مع الجدية. ليقفل فوزي حكايته بنغمة هادئة تبدأ من خامسة المقام فسابعته ثم هبوطاً وارتكازاً على ثانيته "مي" وهو يعترف بشيء من البرود: "أنا زيك متحيّر، ازاي الحلم ده يتفسر!". تندهش نور الهدى وتعبر عن إحباط تعكسه النغمة المتصاعدة من "ري" مرتكز المقام دون تجاوز رابعته، فلا حدة ولا صراخ، لكن خيبة أمل وفتور في المشاعر وهي تسأل مستنكرة: "بقا ده كله منام؟"، ليجيبها فوزي من الثيمة ذاتها لكن يرتفع عنها درجةً فيرتكز على "لا" ليكسر جو الفتور بشيء من التظارف، وهو يقول: "وحلم من الأحلاااام"، وهنا ثمة حركة غاية في الجمال قام بها فوزي، إذ ما أن ينتهي من نطق حرف الميم في كلمة "أحلام" حتى تدخل نور الهدى مباشرةً بعبارة تبدأ بحرف الميم: "مش فاهمة حاجة"، وكأنهما قاما بإضغام الكلمتين (الأحلام) من فوزي و "مش" من نور الهدى، ليرد فوزي بدوره منهياً هذا الحوار المرح خفيف الظل قائلا: "وأنا زيك مش فاهم حاجة".
هذا غيض من فيض من بحر إبداع الراحل الكبير محمد فوزي الذي قدر له أن يعيش قليلاً ويبدع كثيراً وينكره عصره، وتكرمه عصور أتت بعده، فهذا قدر كل من كانوا لعصورهم سابقين.