كرة القدم العربية في الرواية.. من المستطيل الأخضر إلى ثيمة سردية
انتهت بنجاح بطولة كأس العرب لكرة القدم في قطر، وما تزال اللعبة نفسها تبحث عن نجاحٍ أكبر بوصفها موضوعاً روائياً، في المدونة العربية. ربما تأخّر كثيراً حضور كرة القدم ثيمةً سرديةً عربية، بمقدار ما تأخّرت اللعبة نفسها عربياً، لسنوات طويلة، عن التأثير الحقيقي في متن المشهد العالمي بعيداً عن "التمثيل المشرّف".
المتابع للروايات "الكروية"، إن جاز التعبير، سيكتشف أنّها دشّنت حضورها في أعقاب لحظة تحوُّل زلزالية هي ثورات الربيع العربي، لتظهر أخيراً، وبعد عقود من استقرار الرواية فناً عربياً، نصوصٌ روائية تشتبك مباشرةً مع المستطيل الأخضر بوصفه ساحةً رمزيةً لصراعات الفرد والسلطة، تعكس مرآتُها العديد من إشكاليات المجتمع العربي، وليظهر "لاعب كرة القدم" أخيراً شخصيةً روائيةً مركزية، بعد أن ظلّت مستبعدة بسبب تعالي الروائي العربي أو تجاهله لنمط كهذا، لصالح بطولات الموظفين أو الكادحين أو حتّى المثقفين والفنانين.
أشَّر العام 2012، لانطلاق ظهورات روائية ستتوالى، من بقاعٍ عربية عدّة، تمسك بأدبيات اللعبة لتنتقل إلى كواليس التاريخ والسياسة التي جعلت من كرة القدم مراراً وجهاً جلياً لتقلبات السلطة وأداةً ناجعة لتمرير خطابها.
جُلّ هذه الروايات ذهب لاشتباك مباشر مع شخصية اللاعب (وأحياناً المدرب) بوصفه فرداً عاكساً لتوترات مجتمعات محتقنة، ومُهدداً فور خروجه من مدرج الجماهير الثابت إلى كراسي السلطة الموسيقية. في رواية "صانع الألعاب" للروائي اللبناني أحمد محسن (هاشيت أنطوان، 2012) البطل لاعب كرة، وهو نفسه السارد، في تقليص كبير للمسافة بين الشخصية وراويها. يُترجم اللاعب بطرافة وذكاء ارتباك الفرد العربي من خلال تنقلات البطل الحائر في مراكز اللعب، التي تبذر انعكاسات سياسية واضحة، دون صراخ أو مباشرة. يعيش ابن الضاحية الجنوبية لبيروت حيرته الوجودية عبر محاولة تحديد مكانه المثالي في الملعب، فلا يرضيه الاكتفاء بدور المدافع لصدّ الهجمات، ولا يُلائم إمكاناته دور "المهاجم" محرز الأهداف: "لم أنفع مهاجماً فأنا متهوّر ولا أتقن اللمسة الأخيرة. أرتبك أمام الهدف على رغم أنني بارع في المراوغة. ربما كان الشعور بالحسم يخيفني لأنه يقتل اللحظات السابقة. أريد أن آخذ وقتاً طويلاً في اللعب، والتسجيل يعني العودة إلى البداية".
تأخّرت كرة القدم ثيمةً سرديةً عربية بقدر ما تأخّرت اللعبة نفسها
هكذا ينتهي الوضع بالسارد في مركز "صانع الألعاب"، متوسطاً خطَي الهجوم والدفاع، وموزعاً الأدوار على بقية اللاعبين، في عكسٍ عميق لوضعية مجتمع بكامله، لن يلبث أن يحضر فيه بالاسم السيّد حسن نصر الله، لاعباً رئيسياً في لحظةٍ تاريخية مفصلية.
من جانبها، ذهبت رواية "بُردقانة" للروائي الفلسطيني إياد برغوثي، مباشرةً إلى التاريخ الفلسطيني في لحظةٍ حرجة، إذ تستعيد الرواية مناخات اللعبة الأشهر في فلسطين الرازحة تحت الانتداب البريطاني سنة 1945، وقبل ثلاث سنوات فحسب من النكبة. الرواية التي صدرت طبعتها الأولى عن دار الآداب في بيروت سنة 2014، صدرت لاحقاً في طبعةٍ منقحة عن دار ليلى (عكا) يؤكد غلافها ريادَتَها بوصفها "أوّل رواية عربية في أدب كرة القدم". بقدر ما تقارب الرواية تراجيديا المسألة الفلسطينية في تلك السنوات الحاسمة، تقترب من الفرد الذي يتحوّل في لحظة من مخلِّصٍ منتظر إلى بطل تراجيدي.
تبتسم الدنيا لـ فايز، مدرب فريق كرة القدم في عكا، باختياره مدرباً للمنتخب، لكنها ما تلبث أن تكشّر حين تنشر جريدة صورة جثة أبيه مخفورةً بلافتة كُتب عليها "عميل". وبقدر ما تؤرخ الرواية لتلك الحقبة كروياً بحسٍ توثيقي واضح وبدقةٍ أرشيفية، بقدر ما تخلق نسقها التخييلي راسمة صورةً للفرد المغرم بالكرة قبل أن يفقد، ومن بعده وطنه، ملعبَه.
من جانبه، اختار الروائي والأكاديمي التونسي شكري مبخوت أن يذهب مباشرةً لعلاقة كرة القدم بكواليس السياسة في واقعٍ بوليسي قمعي في تونس. في روايته "باغندا" (دار التنوير، 2016) ينهض الصحافي الاستقصائي عبد الناصر العسلي، برحلة تحرٍ خطرة مفتشاً عن ملابسات اختفاء لاعب كرة شهير، هو فتحي بركة الملقب بـ"باغندا". الرواية تمثل امتداداً لرواية المبخوت الأولى "الطلياني" التي حازت البوكر العربية، إذ البطل نفسه يتحول من طالبٍ إلى صحافي. ما تلبث رحلة البحث أن تفتح الحبكة على جحيم واقعٍ سياسي مريع، إذ تحتجّ رموز من السلطة الكروية/ السياسية على فتح الملف، حتى نعرف أن اللاعب الذي بات مطلوباً للاحتراف الخارجي هدّد، برغبته في المغادرة. منظومة كاملة تعتاش على وجوده، من مؤطري اللعبة إلى الجماهير، ليودع مشفى أمراض عقلية نشب فيه حريق ليلة انقلاب زين العابدين بن علي على الحبيب بورقيبة (1987)، إذ عُثر على جثمان اللاعب متفحماً.
رواية المبخوت التي تمزج النسق الروائي بأنساق غير تخييلية كالتحقيق الصحافي، تذهب لتحليل الفترة الحرجة نهايات حكم بورقيبة وأوائل حلول بن علي، ليصبح لاعب الكرة هذه المرة، وليس المناضل أو المفكر المقلق للسلطات كما جرت العادة، هو هدف السلطة في معاقبة الفرد إذا ما تجاوز تأثيره ما هو مقدر له؛ دميةً تربط صانع القرار بمستهلكه.
عكست شخصية اللاعب أو المدرب في الروايات توترات المجتمعات
على مستوى المشهد الروائي المصري، ظهرت عناوين عدّة بين الواقع والديستوبيا، من عبودة بطل رواية فريد عبد العظيم "يوميات رجل يركض" (منشورات إيبيدي، 2019)، والمهزوم بدوره في واقع خانق يُقصيه، إلى "الحي العربي" رواية أسامة علام التي صدرت في السنة نفسها عن دار الشروق بالقاهرة، وتنهض روايةً مستقبليةً، تفترض فوز منتخب عربي غير مسمى بكأس العالم لكرة القدم، ليحتفل سكان الحي العربي في مونتريال قبل أن يستيقظوا محاطين بسور ثم يتحول الحي إلى دولة محاصرة. رواية علام، المهاجر، تعكس السؤال المرّ عن إمكانات الانعتاق الجمعية، هذه المرة لفريق وليس لفرد فحسب، ومن الطريف أنها تختار كندا، التي ستستضيف بالفعل كأس العالم في الصيف القادم بالشراكة مع أميركا والمكسيك، بل وسيلعب المنتخب المصري على ملعبها في مجموعته الأولى!
تعد "هجمة واعدة" للروائي السعودي علوان السهيمي، أحدث رواية عربية تقارب عالم كرة القدم إذ صدرت العام الماضي عن دار رشم السعودية. تقارب رواية السهيمي، بالضمير الأول، قصة صعود وسقوط لاعب كرة قدم سعودي هو نفسه السارد، يتنقل مكانياً من تبوك صاعداً سلم الشهرة، ومعه سلم الثراء، قبل أن ينزله من جديد فاقداً كل شيء، وبالذات أمه (جذوره) لأنه لم يستطع مجاراة واقعٍ قاسٍ. الرواية تتوتر بين عالمين ينعكس كلاهما على الآخر كمرآة، عالم صراعات اللعبة ومكائدها بالتقاطع مع رصد تحولات مجتمع يجعل لاعب الكرة مجرد رقمٍ في مقامرة قد تنتهي به إلى الحضيض، مستلَباً، ليكتشف أنه محض ترس في آلة عملاقة، حيث حتى الكرة التي يجيد اللعب بها، ليست بين قدميه.











































