قراءة قصيرة في كتاب -مسرح الشعب
يقول الدكتور علي الراعي في كتابه المدهش أو ربما المجلد المكون من ثلاث كتب هم " الكوميديا المرتجلة" و " فنون الكوميديا" و " مسرح الدم والدموع" والذي تمت طبعاتهم تحت مسمى واحد باسم ( مسرح الشعب ) عن مكتبة الأسرة 2006م، وهو كتاب توثيقي بامتياز لحركة ووجدان الشارع المصري الشعبي سياسياً واجتماعياً وثقافياً وفنياً على مدار أكثر من سبعة قرون وإن كان تركيزه يصيب أكثر ما يصيب في صالح القرن التاسع عشر والعشرين، يقول:
قد كان هناك طوال القرن التاسع عشر - على الأقل - دراما محلية تماماً، خالية من المؤثرات الأجنبية التي أخذت تتعامل مع فن التمثيل في مصر منذ بداية القرن التاسع عشر، وما لبثت أن أثرت تأثيراً بارزاً على حرفية هذا التمثيل، مما بدا واضحاًمنذ قيام مسرح يعقوب صنوع حتى الآن.
ويعرض دكتور "علي الراعي" بعض من تلك النصوص المسرحية من نصوص مسرح المرتجلة أو ذلك المسرح الذي كان يقام في الشوارع والأفراح والموالد كما شاهده ودونه الرحالة "بلزوني" عام 1815 م وعلى لسان الرحالة "لين" عام 1830م، وهي نصوص كوميدية سياسية انتقادية تنتزع موضوعاتها من الواقع الحي المحيط بالممثلين والمتفرجين، وترضي جمهورها بالأمتاع والضحك والنصح معاً، عادة الفن الشعبي في مصر عامة.
وقد دونها دكتور علي الراعي كما جاءت على لسان الإيطالي "بلزوني" والدنماركي "لين" على النحو التالي:
يقول "بلزوني":
لعل أكبر مظاهر فن المسرح المتجول شأناً في مصر مانجده في فن جماعة " المحبظين"(1)، وقد شاهدت مسرحيتين قصيرتين قدمتا ضمن احتفال بالزواج أقيم في حي شبرا عام 1815م، حيث بدأ الإحتفال بالموسيقى والرقص التقليديين، ثم قام جمع من الفنانين بتمثيل المسرحية الأولى، وهي تدور حول رجل يريد أن يؤدي فريضة الحج ومن ثم يذهب إلى راعي إبل ويطلب منه أن يحصل على "جمل" مناسب يركبه إلى مكة وهنا يقرر الجمال أو راعي الإبل أن يغش الحاج الذي يريد الذهاب إلى مكة فيحول بينه وبين صاحب الجمل الحقيقي الذي يريد بيعه وعليه يطلب من الشاري في الجمل مبلغاً كبيراً أكبر مما طلبه صاحب الجمل الحقيقي، على أن يعطي صاحب الجمل الحقيقي مبلغاً أقل مما دفعه الشاري ليحصل لنفسه على فرق السعر الذي اختلسه في الوساطة بين البائع والمشتري، ثم يدخل لدائرة التمثيل جملاً مكوناً من رجلين تغطيا واكتسيا بكسوة تقليدية وبديا كما لو كانا جملاً حقيقياً على أهبة الرحيل إلى مكة، وهنا يركب الحاج الجمل ويكتشف أنه ضعيف وقليل الهمة فيرفض أن يقبله ويطلب أن تتم اعادة نقوده التي دفعها في شراء الجمل ويقوم بين الحاج ( المضحوك عليه ) وبين راعي الإبل نزاع يتصادف خلاله أن يدخل صاحب الجمل الحقيقي فييتبين هو والشار أن راعي الإبل لم كتف بخداع الإثنين فيما يخص المن بل احتفظ لنفسه أيضاً بالجمل الأصل وأعطى الشاري جملاً حقيراً وتنتهي المسرحية بهروب راعي الإبل بعد أن يلقنه كلاً من الشاري والبائع علقة ساخنة.
ثم يقدم لنا دكتور علي الراعي نصاً آخر شاهده الرحالة الدنماركي " لين " في مصر من فرق المحبظين بعد 15 عاماً مما شاهده "بلزوني" وكان ذلك في إحدى حفلات " محمد علي باشا" عام 1830م، بمناسبة ختان واحد من أنجاله وقد أشترك المحبظون في الحفلة بمسرحية أقرب للعروض السياسية على بساطتها حسب وصف "لين" من حيث خطوطها الرئيسية وشخصياتها، حيث يقدم المحبظين عروضهم تلك أمام ( سلطان مصر ) بجرأة شديدة كما لو كانوا يعرضونها في حفلات الزواج والختان داخل بيوت العظماء وحلقات المتفرجين حين يقدمون ( مسرحهم ) في الأماكن العامة من حيث اعتماد عروضهم على النكات والحركات الخارجة، كما أن الممثلون ( المحبظاتية ) كلهم من الذكور، مابين رجال وصبيان يقدمون جميع الأدوار الرجالية والنسائية.
يقول "لين":
تدور المسرحية حول فلاح فقير فقراً مدقعاً أسمه "عوض" وتقول سجلات " العمدة" أن عليه ديناً يساوي ألف قرش أي عشرة جنيهات لجباة الضرائب لم يدفع منهم سوى خمسة قروش فقط، فيذهب له شيخ البلد ليسأله لماذا لم يدفع ماعليه من مال لجباة الضرائب فيرد عليه "عوض" بأنه معدم ولا يملك مليماً واحداً ليدفعه، وحينئذ يأمر شيخ البلد الغفير النظامي أن يطرح "عوض" أرضاً ويتم جلد المسكين عشرين جلدة ثم يساق إلى السجن بأوامر من العمدة الذي يري أن العشرين جلدة ليست عقاباً وأن ذل السجن هو العقاب اللائق حتى يدفع ماعليه أو يموت بداخله ميتة الكلاب، ويذهب "عوض" للسجن وتزوره زوجته هناك فيطلب منها "عوض" أن تاخذ بيضاً وقليلاً من الكشك الصعيدي والشعرية وتذهب للمعلم "حنا جرجس القبطي" فتعطيه البيض والكشك والشعرية كأتعاب دفاعه وتوسطه لإخراج "عوض" من السجن، وبالفعل تأخذ الزوجة كل ماطلبه منها زوجها في ثلاث أسبته وتمضي تسأل عن بيت المعلم ( حنا جرجس ) فيقال لها أنه هذا الرجل الذي يرتدي العمامة السوداء والذي يضع في حزامه محبرة كبيرة، وإذ ذاك ترجو الزوجة المعلم "حنا" أن يبل منها هداياها كأتعاب لدفاعه عن زوجها المسكين والتوسط لإخراجه من السجن، فيقبل المعلم " حنا جرجس" ويطلب من الزوجة أن تتحصل بأي شكل على عشرين قرش وتذهب لتعطيها لشيخ البلد، وبالفعل تعمل الزوجة بنصيحة " المعلم حنا" وتذهب لشيخ البلد وتعطيه العشرين قرشاً وهي تقول له صراحة: إقبل مني هذه ( الرشوة ) وأخرج لي زوجي! .. المدهش أن شيخ البلد يقبل الرشوة وينصحها أن تتوجه لبيت الناظر وترجوه في إلحاح أن يطلق سراح زوجها وتبتسم له وهي تستعرض جمالها أمامه فيقبل الناظر عرضها ( الشهي ) وينحاز للزوج ويعمل على تحريره من السجن.
ويتضح هنا من الكوميديا - حسب الدكتور "على الراعي"- في الصورة الأولى والصورة الثانية أنها تقدم دراما ( شعبية ) محلية خالية من المؤثرات الأجنبية التي أخذت تتعامل مع فن التمثيل في مصر منذ بداية القرن التاسع عشر والتي ما لبثت أن أثرت تأثيراً بارزاً على حرفية هذا التمثيل، مما بدا واضحاً منذ قيام مسرح يعقوب صنوع وحتى الآن.
وفي تقديري أن يعقوب صنوع ومسرحه قد أثرا تأثيراً قوياً على الكوميديا في مصر، وذلك من خلال تأثره ( هو ) بالفن الشعبي المصري وبفن الأراجوز والمحبظاتية وخيال الظل، حتى صار تأثره هذا منهجاً اعتمدته معظم المشاهد الكوميدية والكتابات الكوميدية التي قدمتها فرق المسرح الكوميدي في مصر منذ نشأتها والسينما المصرية منذ بداية ظهورها وحتى عهد قريب وحيث استلهم الكثير من فناني الكوميديا كنجيب الريحاني وعلي الكسار وشرفنطح وإسماعيل يس وغيرهم حتى عبد المنعم مدبولي وعادل أمام الكثير من ذلك المنهج وساروا على دربه، مما يجعلنا بارتياح أن ننسب فن كتابة الكوميديا في مصر والمستوحى من الشارع والمحيط المصري ليعقوب صنوع نفسه وليس إلى "جورج دخول" بل وربما يمكننا دعم الرأي القائل بأن "يعقوب صنوع" هو الأب الروحي للكتابة الكوميدية في مصر وحيث احتذى بمنهج مدرسته الكثير من كتاب الكوميديا وعلى رأسهم المؤلف الكوميدي الراحل" بديع خيري" والكاتب "أبو السعود الإبياري"، لأن " يعقوب صنوع" حينما جلس ليكتب المسرحيات التي أعتزم أن يؤسس بها مسرحاً بشرياً عربياً، لم يكن يستند - كما ظن هو نفسه - إلى تراثاً أوروبياً غربياً "لموليير" و "شيردان" و "جولدوني" فحسب وإنما نراه تزود كذلك من نبع الكوميديا الشعبية المصرية كما عرفها خيال الظل والأراجوز وتمثيل الشوارع في مصر المحروسة، لتكون النتيجة ريادة "يعقوب صنوع" في قيام الشكل الأول من أشكال كوميديا النقد الاجتماعي يؤديها البشر لأول مرة، بعد أن كانت محصورة في تصاوير "أبن دانيال" وغيره من المخايلين ( في مسرح خيال الظل ) الذين تولوا عن البشر هذه المسئولية ومن ثم هذه النتيجة .
ويعود بنا " دكتور على الراعي " للتعليق على الصورتين الكوميديتين السابقتين اللتان قدمتهما فرق المحبظاتية - وهما جزء صغير من عشرات النصوص التي ساقها في كتابه - بالقول أن هاتين الصورتين عبارة عن كوميديا انتقاديه انتزعت موضوعاتها من الواقع الحي المحيط بالممثلين والمتفرجين ومن ثم فهي ترضي جمهورها بالإمتاع والنصح معاً، على عادة الفن الشعبي في مصر.
ويقول أيضاً: أن مثل تلك العروض كانت على درجة لا بأس بها من التقدم الفني فهي تبدأ بعرض موسيقي ( شعبي ) واقعي يقدمه بعض الفنانين مع راقصتين أو أكثر( يقوم بأدائها فنانين ذكور )، وهي لاشك عروض ناطقه بانتمائها إلى البيئة التي أنتجتها، كما أنها في تركيبها الفني وطريقة صنع شخصياتها لا تبين عن أي أثر فني آخر غير مسرح خيال الظل والأراجوز وكلاهما من فنون مصر المحلية، ومن هذه المحلية وبفضل التبسيط الظاهر تنطلق الشكوى الموجعة والسخرية الدفينة من الحكم والحكام كما ينطلق الصاروخ الموجه تجاه هدفه المعلوم، فمن وراء الضحك الظاهر تقول غالب هذه العروض في تلك الفترة بمصر أن المصري كان لا يحصل على حريته إلا إذا فقد كل شئ، ماله وشرفه معاً.
وينتهي بقوله عند هذه الزاوية:
لو تخيلنا دار كبرى للملاهي يعمل على أرضها ( القراداتي ) والحاوي ومسرح خيال الظل والأراجوز والمحبظين لاستطعنا أن نحيط إحاطة تامة بالطاقة التمثيلية الكبرى التي تمتع بها أهل مصر قروناً طويلة ( أحياناً ) وسنوات طويلة ( أحياناً أخرى ) قبل أن يفد المسرح البشري الغربي لبلادنا على أيدي فرق أجنبية عدة ثم في شكل فرق مصرية نبتت في بلادنا، وأخرى عربية أتت لتزورنا من لبنان وسوريا.
****************
دكتور علي الراعي:
وُلد في محافظة الإسماعيلية في عام 1920 في بيئة كانت تعيش فيها العديد من الجنسيات المختلفة التي تعايشت مع بعضها البعض، الأمر الذي ساعده في صنع صداقات مع أناس شتى مهما اختلفت أديانهم أو اتجاهاتهم السياسية.
انتقل دكتور على الراعى إلى القاهرة والتحق بكلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة الإنجليزية في عام 1939 ثم تخرج منها عام 1944، وحصل على منحة دراسية في جامعة برمنجهام حيث حصل على درجة الدكتوراه في موضوعه برنارد شو. وطالما أن الهدف الاسمي للمثقف الحقيقي كما جسّده دكتور على الراعى هو تثقيف الشعب وتعميق وعيه وإثراء ذائقته، فإن اختيار الأسلوب الذي يوجه به خطابه لا يقل أهمية عن الهدف ذاته، لهذا اختار علي الراعي في كتاباته طريق البساطة الأثرة والعمق الشديد بعيداً عن التقعر بالمصطلحات والمفاهيم الغامضة واللغة الأنانية المحتفية بنفسها.
في يوم 18 يناير 1999 توفى الدكتور على الراعي الشخصية المصرية العريقة في مجال المسرح، الذي أثري التراث الثقافي والأدبي المصري بكتاباته التي لا تقدر بمال في مجال السياسة والمسرح والنقد، فكان له فكرة بان للأدب دوراً اجتماعيا.
وقد عمل الراعي كمقدم برامج في الإذاعة المصرية وقام بتدريس الأدب المعاصر في كلية الآداب جامعة عين شمس. كما شغل رئاسة هيئة الموسيقى والمسرح التي كانت تتبع وزارة الثقافة والمسئولة عن المعاهد الفنية للوزارة، وكان من ضمن إسهاماته إنشاء أول فرقة شعبيه وعدداً من الفرق الموسيقية.
وفي مارس 1959 تولى الدكتور على الراعى رئاسة تحرير مجلة المجلة المصرية .. واستطاع الدكتور "الراعي" أن يطور من أدائها، وشخصيتها من خلال اهتمامه بفنون الشعوب، بالإضافة إلى إبداعات المفكرين والأدباء..فنشرت في عهده كتابات عن فنون الشارع، والفلكلور، والتراث الشفاهي في مصر والوطن العربي والعالم، وظهرت أسماء أحمد رشدى صالح ود. عبد الحميد يونس وسعد نافع على صفحاتها يكتبون عن إبداعات الشعوب، وفنونها كما شهدت هذه الفترة إسهامات نقدية هامة للدكتور محمد مندور و رمسيس يونان وزكى نجيب محمود.. فضلاً عن إسهامات لويس عوض ودكتور طه حسين وعثمان أمين وعلى أدهم والجبخانجى وأنور عبد الملك. وفي أبريل 1962 ترك "علي الراعي" "المجلة" لخروج ثروت عكاشة من الوزارة وتولى عبد القادر حاتم.
وفي عام 1968 قدم الراعي استقالته في العديد من المناصب الحكومية لكي يتمكن من متابعة مهنة الكتابة، حيث ألف اثني عشر كتاباً عن المسرح وترجم كتباً كثيرة لمشاهير الكتاب العالميين مثل تشيكوف وابسن. وفي عام 1973، سافر إلى الكويت لتدريس الدراما المعاصرة وعاد في عام 1982 ليلتحق مجلة روزاليوسف ثم بعد ذلك مجلة المصور ثم بدا يكتب في جريدة الأهرام.
كتب الراعي للمسرح حوالي 51 كتاباً واتخذ من النقد رسالة وطنية واجتماعية، وانحاز إلي الفن الجميل الذي يحمل الفكرة العميقة دون تجهم، ويحافظ علي الهوية الثقافية دون انغلاق علي الذات، ويفتح الباب للتجريب، والانفتاح علي ثقافات العالم. وفي مجال القصة والرواية ترك حصاداً كبيراً واستطاع أن يشد قارئ "الأهرام" إلي الأعمال الأدبية والمواهب الجديدة التي يكتب عنها، ففي مقالته الأسبوعية بالأهرام كان القارئ يستطيع أن يري النقد، ويري النص، ويضع أصابعه علي مواطن الفرح والجمال فيه، ويسعد بالأضواء الباهرة التي يسلطها الكاتب علي البراعم والزهور الأدبية التي تتفتح.
=======================
(1):
تشير الباحثة " أماني الجندي في كتابها "فنون الفرجة الشعبية وثقافة الطفل" الذي يعد إطلالة علمية على الفرجة الشعبية بوصفها موضوعاً مهماً من موضوعات المأثورات الشعبية المصرية، قائلة: أن كلمة "محبظين" هي جمع مذكر سالم للمفرد محبظ، ولم أجد هذا المعنى إلا في قاموس اللهجة العامية المصرية المنشور في القاهرة عام 1895، وفيه كلمة "حبظ" تعني "يمثل مسرحية هابطة" أو "يعمل شيئاً برقة وغرابة"، والمحبظ بالباء المفتوحة المشددة هو إذن "ممثل المسرحية الهابطة"!.