قراءة في المجموعة القصصية «عائد من الموت» للبتيري

الرابط المختصر

معروف أن الشعر مختلف اختلافا كبيرا عن النثر، وبصفة خاصة عن القصة، والرواية، على الرغم من أن الخطاب الشعري لا يخلو – أحيانا – من بعض النظم الذي يقترب فيه الشاعر من السرد النثري. وفي ذلك ما يسوّغ كلام بعض النقَدَة عن القصة الشعرية، والحكاية في الشعر، والسرد المنظوم. إلا أن الاختلاف لا يأتي من حيث الأسلوب، والنظم، فحسب، بل يأتي من حيث أن الشعر في معظمه، إن لم يكن فيه كله، بوحٌ ذاتيٌ، والمتكلم فيه هو الشاعر ذاته، حتى وإن اتخذ في بعض الأحايين قناعًا يدّرع به ليقول ما يشاء وكأن الذي يقوله شخصٌ آخر لا هو. وهذا ما تعرض له إليوت Eliot ذات مقال بعنوان أصوات الشعر الثلاثة Three Voices of Poetry.

فالقصة، والرواية، نوعان أدبيان يقومان على إنكار المؤلف- الكاتب – ذاته، فلا تبدو ثمة علاقة بين موضوع القصة، أو الرواية، والمتكلم، أو المتكلمين، في كلٍ منهما. فالمتكلم راوٍ، أو أكثر، لا صلة له أو لهم مباشرة بالمؤلف.

وقصورُ بعض الشعراء الذي نجده فيما يكتبونه من قصص، أو روايات، سببه أنهم لا يستطيعون التجرُّد من ذواتهم حين يقومون بكتابة هذين الفنَّيْن الأدبيَّين، مع الاعتراف بوجود استثناءاتٍ نادرة. وقد ساورنا هذا الخاطر في أثناء قراءتنا لمجموعة « عائدٌ من الموت « للشاعر المعروف علي البتيري، وهي المجموعة القصصية الوحيدة له فيما نظنُّ، ونحسب. وقد حمدنا له تجرُّده من الشاعر الذي عرفناهُ في دواوينه، وأشعاره، وهو يواصل كتابة القصة القصيرة.

عائد من الموت:

فالقارئ تدهشهُ قصة «عائدٌ من الموْت» بما فيها من شخوص تعاني من ظروف الحياة المختلفة التي تتعرض لها. أطفالٌ يلهون بكرةٍ صنعوها من الأقمشة البالية (شرايط) والجوارب الممزقة، ويركلونها بأقدامهم الحافية، ومع ذلك يشعرون بالسعادة الغامرة؛ لأنّ هذه هي ظروفهم، ولا يعرفون وسائط أخرى للعب، واللهو، غير هذه. وعلى حين غِرّة يحدثُ ما لم يكن متوقعًا، إذ يسمع الطفل مسعود أخاه وهو يصيح عن عودة أبيهما (ابو حامد) من غيبته الطويلة. ذلك الأبُ الذي شاع عنه أنَّ أفعى لدغته فتوفي في البلقاء التي كان قد غادر إليها ليعمل في موسم الحصاد. وهذه الإشارةُ، بطبيعة الحال، تمثل حافزًا يستثيرُ ذاكرة الراوي الذي يعود بالمتلقي إلى الماضي القريب. فقاسم أبو عطوة، وهو أحد الرجال الذين غادروا للعمل في (الحصيدة) مع (أبو حامد) وآخرين، عندما عاد من البلقاء، حمل لأبنائه، ولزوجته، خبرًا مفجعًا عن وفاة أبي حامد. وسيكتشف القارئ لاحقا أنَّ الخبر كاذبٌ، وأن لقاسمٍ هذا غايةً من هاتيك الأكاذيب.

وحرصًا من الكاتب على تبديد شكوك القارئ، أورد في الوقائع ما يؤكد أن أبا عطوة هذا تعمَّد ذلك طمعًا في الزواج من أمّ حامد. فقد وجَّه إليها أمَّ عوض، التي وصفها الراوي» بالعجوز الشمطاء «، لتقنع أم حامد بالزواج بعد أنتهاء العدة، وبأنّ أبا قاسم يصلح عريسًا لها أكثر من غيره. فما كان من أمّ حامد إلا أن شتمتها، وطالبتها بنسيان الموضوع.

ويبدو أنَّ الكاتبَ يرى في شخصية أبي عطوة شخصية ساذجة، فالمكـرُ الذي مكره لن يطول أثره. والانتظارُ الصعب قد يحيل القصة القصيرة إلى مشروع غير ناجح. وتجنبًا لذلك اخترع حافزًا يحدثُ تغييرا بسيطا في مَسار الحكاية، وانقلابا أو شبه انقلاب في الوقائع، وذلك أنه أشار لمكتوبٍ وصل لأم حامد من زوجها الذي قيل إنه مات. لكن بعضهم أحالَ موضوع المكتوب إلى مكيدَةً، فبدلا من أنْ يكون له أثره في تهدئة الخواطر، والكشف عن أكاذيب قاسم أبو عطوة، ادّعوا أن الخط ليس خط أبي حامد، وغرَضُهم من هذا تثبيت الاعتقاد بأن أبا حامد قد توفي، وبأن عظامه أصبحت مكاحل. وها هو يعودُ على نحوٍ مفاجئ قادمًا بالكثير من القمح، والتمر، وما شابه ذلك لأسرته، ولبيته، ولضيوفه، الذين هُرعوا لتهنئته، وتهنئة أم حامد، بسلامته . وعلى هذا النحو يتمخَّض السرد بعفويته عن مغزىً تردّدُه أم العبد- الجارة المطَّلعة على الأحداث- « هنيئا يا أم حامد بعودة أبو حامد سالم وغانم. والله ما ناب أبو عطوة غير الكذب، وسواد الوجه. يا فضيحتُه وسط الساحة لما أبو حامد يسلّم على المختار». وما إن سمع أبو عطوة بهذا حتى تأوَّه متوجّعا كمن تناول تمرًا مسمومًا قُدّم له في الاستقبال.

رجلٌ من بيت المقدس:

وهكذا تبدو لنا هذه الحكاية حكايةً بسيطةً، رُويت من غير افتعالٍ في السرد، ودون تأنق في اللغة، ودون إعلان عن شخصيّة الكاتب، وآرائه، وأفكاره. فأم العبد، وهي شخصية عابرة ظهرت في نهاية القصة، هي التي تُبلْورُ بأقوالها مغزى القصّة، والانطباع العام الذي توخّاه الكاتب، وتوخى إظهارهُ، وتجْليَتِهِ في الخاتمة. بيد أن البتيري، بحكم انتسابه لفلسطين، تلح عليه الفكرة غالبًا، وتبدو أكثر حضورًا في البناء القصصي من سواها، لذا نجد في عنوان قصته «رجلٌ من بيت المقدس» عنوانا يبشر القارئ بنموذج عنيد يواجه الاحتلال بصرامة، وقوَّة، على الرغم من أنَّ الاحتلال المتمثل بالميجر الإسرائيلي (هرون) لا يفتقر هو الآخر للعناد والتصميم اللذين يتصف بهما الشيخ المقدسي عبد القادر. فالحوارُ المتوتّر الذي يجري بينهما حوارٌ يعرض لإشكالية المقدسيّ مع الاحتلال الذي لا يعترف بعروبة القدس، ويعدُّ كل ما فيها من المباني، والأراضي، ممتلكاتٍ إسرائيلية، وأن الفلسطينيين فيها لا يحظون بغير الإقامة المؤقتة. وعبد القادر يصمّم على بناء البيت، والميجر، ورجاله، يمنعونه بقوة السلاح. وهو لا يفتأ يردّ على الميجر، مؤكدًا أن عصابة (غوش إيمونيم) المتطرفة تحاول منذ زمن غير قصير الاستيلاءَ على قطعة الأرض التي ورثها عن أجداده. لذا استدان الكثير ليبني هذا البيتَ حمايةً للأرض.

وهذا السجالُ، والجدالُ، بين الفريقين يمتد حتى نهاية القصة، فيضفي عليها قيمة إيديولوجية أكبر من تلك التي يحظى بها الشكل القصصي الذي وجدناه في قصة « عائد من الموت «.

ومعَ ذلك يجد القارئ في القصة تصويرًا عفويًا للبوْن الشاسع بين المعتدي والمعتدى عليه. فهرون – الميجر- يستخفّ بالتاريخ إذا كان يذكــّـره بتحرير فلسطين من الصليبيين، فهو في رأيه ارتباط فارغ بالماضي الغابر، الميت. وعندما يُذكــّـره عبد القادر بادعاءات الإسرائيليين عن أمجاد صهيون، و ملوك أورشليم، وما شابه ذلك من مَزاعم، يغدو التاريخ في نظره شيئا حيًا لا ميتا، ولا غابرًا. فالأساطير التوراتية، وهي تاريخ، أو شيء يشبه التاريخ، لا يُزعج (هرون) التحدث عنه، فالماضي الفارغ الميت لا ينسحب إلا على ما له علاقة بتحرير فلسطين من الغزاة.

ضمير المخاطب:

وحتى الحديث عن التصاريح، وعن تيدي كوليك، رئيس بلدية أورشليم المتصَهْين، هو أحد مظاهر الانحياز للبُعد الإيديولوجي في القصة على حساب البُعْد الأدبي، والفني. وكان من الممكن أن يعالج الكاتبُ الموضوع بطريقة أخرى يتجنَّب فيها البتيري الوقوع في (مَطبّ) المباشرة.

مسرح الطباشير:

ومن بين القصص، وعددُها خمس عشرة قصة، واحدةٌ (مسْرحُ الطباشير) لجأ فيها الكاتب لتقنية سردية تشذُّ عن سائر القصص، معتمدًا فيها على السارد الذي يروي ما يرويه مستخدمًا ضمير المخاطَب لا المتكلم، ولا الغائب. فكأنه يتحدث إلى بطل القصة، مذكـرًا بما جرى له، ووقع، من حوادث. منها اتهامه في صغره باختلاس بيضة دجاجة أم حامد، مع أن الذي سرقها هو أدهم، الذي توارى مبتعدًا، ملصقا التهمة به. ويُذكــّره بموقف أبيه الذي لم يصدق التهمة، ولا ما نُسب إليه، مؤكدًا، مفتخرًا بما لابنه من مستقبل جيد في التعلُّم، وهذا ما يتوقَّعه:» لم يعد سعيد جاهلا. ما شاء الله! سيكون له مستقبل باهر «. وعلى هذا الأساس استمر في الدراسة ليذكــّره الرواي بتلك الوثيقة التي تلقاها من مديرية التربية حين عُيّن معلما في قرية من القرى، وهي خطابُ التعيين: « أتذكرُ حين طرتَ من فرحتكَ بكتاب التعيين؟ كان التكليف أشبه بوثيقة نفي، أو إبعاد. تقرر تعيينك في مدرسة كفر شاكية.. للبنين . نهنئك ونتمنى لك دوام التوفيق.» يُذكــّره أيضا بما أثاره من تساؤلات عن موقع تلك القرية التي لم يسمع بها من قبل، وعن تمثيله دور المعلم لأول مرة، وحكاية العُصفور الجريح. وهذه الوقائع يرويها السارد فيما يشبه التذكير بالواقعة تلو الأخرى دون توقف، أو عدول لأسلوب السرد التقليدي المعروف في الكثير من الروايات والقصص، وهو أسلوب من الندرة بمكان.

ولهذا يجدُ القارئُ في «مسرح الطباشير» قصة فريدة من هذه الناحية في المجموعة «عائد من الموت». قصة تنمّ عن خبرة، ومراس، بتقنيات السرد القصصي. وكم يتمنى القارئ لو أنَّ الكاتب استخدم هذا(التكنيك) في غير هذه القصة، مبتعدًا ما أمكن عن السرد التقليدي، ولا سيما ذلك الذي يتناول فيه الموضوع تناولا مباشرًا على النحو الذي نجده في قصة « الشهيد «. فهي لا تعدو كونها مشهدًا سرديا كالذي يتكرر في وسائل الإعلام المقروءة، وغير المقروءة. ففي زمن الانتفاضة يسقط الطفل (كفاح) شهيدًا برصاص الإسرائيليين. ويُستدعى والدهُ، وتقدَّم له جثة الشهيد، ويُطلب منه ألا يُشيّع، ولا يُدفن، إلا بعد منتصف الليل، وألا يزيد عدد المشيعين عن الأربعة. لكن شبان الانتفاضة يُعدّون كمينا يهاجم الجنود الإسرائيليين في أثناء الدفن. وهذا، بطبيعة الحال، سببٌ كافٍ ليصبَّ الاحتلال غضبه على والد الشهيد كفاح. وتنتهي القصة بالإغارة على القبر. فهي نموذج يمثلُ شكلا مغايرًا لقصة عائد من الموت، وقصة مسرح الطباشير ، وغيرهما.. لما فيها من تكرار مشهدي متداول في الإعلاميات.

ويُذكر أنّ للبتيري دواوينَ عدة، منها: لوحاتٌ تحت المطر 1973 والمتوسط يحضُنُ أولاده 1981 ولماذا رميتَ وروردَ دمي 2002 وشبابيكُ أتعبها الانتظار 2004 وأغنياتُ عاشق المطر 2007 و للنخيلِ قمرٌ واحدٌ 2007 و « نهْرٌ لشجر العاشق(1)» 2021 ورواية واحدة بعنوان « أيام ليست كالأيام «. وعدد من الدواوين الشعرية للأطفال. ونظم الكثير من الأناشيد، والأغاني الإذاعية التي فازت بجوائز من هيئات إعلامية متعددة. وكان ديوانه « لماذا رميتَ ورودَ دمي « قد فاز بجائزة عمان عاصمة الثقافة العربية 2002.

***

1.انظر الدستور الثقافي ع الجمعة 4 فبراير – شباط 2022 وللمزيد انظر: الفصل التاسع من كتابنا حاضر الشعر وتحولات القصيدة، ط1، عمان: دار الآن، 2016 ص ص 141- 154

الدستور

أضف تعليقك