في ضرورة الإصلاح الديني

في ضرورة الإصلاح الديني
الرابط المختصر

خلص فلاسفة ما بعد الحداثة في انكبابهم على تفسير السرديات الكبرى والنصوص التاريخية والدينية وفي فحصهم لبنية الخطاب والنص، إلى مجموعة من القواعد أصبحت مقبولة لدى كل طلاب وأساتذة العلوم الإنسانية، بل أصبحت قواعداً للإنطلاق إلى تحقيق المزيد من الفتوحات العلمية.

 

وتمثلت هذه القواعد في أن كل خطاب أو نص أو معرفة هو خطاب أو معرفة أو نص: تاريخاني بالضرورة أي ابن تاريخه، وجغرافية بيئية بالضرورة أيضاً؛ لأنه كتب في بيئة أو جغرافية معينة، فالسمات البيئية ظاهرة فيه. وتراكمي؛ فقد استعمل المعارف التي سبقته ووصلت إليه، وابن بنية لغوية معروفة وخاضع لشروط تلك اللغة من ترميز وقواعد نحو وصرف وأساليب القول، و "محدودٌ" ببنيته وبالمواضيع التي خاض فيها وبالمخاطبين الذين عناهم أو توجه إليهم.

 

في مقابل ذاك النص التاريخي البيئوي التراكمي واللغوي والمحدود، هناك عقل أو عقول تؤوله أو تستنطقه أو تفهمه أو تشرحه وهي خاضعة بدورها لظروف الواقع التي تعيش فيه، وكلما كان العقل معاصراً واسعاً وشاملاً ومدركاً لظروف النص، لبنية اللغة ورمزيتها وحدودها، استطاع ذاك العقل إدراك النص أو الخطاب بطريقة معاصرة واسعة وشاملة ومفككاً لغته ومتفهما رمزيته وحدوده، وكلما ضاق العقل وضعف أو تعصب، ضيّق النص وتعصب له وأغلق منافذه ولم يدرك مقاصده.

 

نلاحظ أن النص جامد، وأن العقل متحرك، فشروط استنطاق وفهم وشرح النص، تقع في خارجه أي في العقل المؤول له، فأي صلاح أو تحديث أو إدراك يقع على العقل، وبما أن العقل في حركة وتحديث دائميين فعليه أن يواكب حركة العصر وعليه أن يبقى باب الاجتهاد والتأويل مفتوحاً كي لا يسقط ويتعثر في حركته.

 

هنا يأتي الشرط الضروري للإصلاح، فلن نستطيع تغيير أو تحريف أو زيادة نقطة إلى النص الأصلي "المقدس"، إلا أننا نستطيع أن نوسع ونثقف ونحدّث العقول أو العقل المؤول للنص، بحيث يستطيع ذاك العقل أن يفسر ويؤول النص بطريقة ذكية وإنسانية قابلة للفهم، ومعاصرة، تخاطب حاجات الإنسان المعاصر.

 

لا نريد التحايل على النص، ففي نهاية الموضوع للنص مقاصد ثابتة، ولنفترض أن النصوص الدينية وضُعت لتخاطب الإنسان وتدعوه إلى الصلاح والخير والتقوى في زمانها وفي منطقة جغرافية معينة، بينما الإنسان المعاصر "إنسان اليوم" خرج عن الظروف وعن مكانه الأول والظروف المحيطة من تاريخية وجغرافية وبيئية ولغوية التي كتب أو أوصي أو أنزل النص فيها، فما هو ذنبه أو ما هو الحل أمامه؟ هنا على من يعرف ومن يفهم ومن هو مؤهل وصاحب عقل للتعامل مع النصوص عليه أن يغير أو يصلح الشروط والظروف ويمهدها ليستطيع العقل المعاصر أن يغوص في أعماق التاريخ وأعماق النص ليستنطقه من أجل إدراكه.

 

فإذا كان الظرف أو النص "ماضوياً"، فعليه أن يستنطقه ليكون حاضراً (حاضرياً ومستقبلياً) أي أن يستنطقه لمخاطبة إنسان الحاضر أو الإنسان المعاصر، فباب الاجتهاد والتأويل كفيل بسد الثغرات الموجودة، وإذا كان النص أو الخطاب بيئياً، والجغرافية حدوداً للنص، إنما على المستنطق للنص، أن بوسعه مخاطبة الناس في العالم أجمع (عالمياً وإنسانياً)، أمّا إذا أدركنا أن المعارف والنصوص التي سبقت النص أدت إلى تلك المعرفته التراكمية، علينا أن لا ننكرها أو ندعي عدم وجودها، بل نحاول تخليص النص مما تراكم عليه فيما بعد، لنعيده إلى أصله وفصله ومقاصده الأولى ونتبين كيف بني النص على مدى الأجيال، وفي حال فهمنا بنية اللغة التي كتب فيها النص، فسنفهم العقل الذي صاغها وخضوعه لتلك البنية اللغوية، واستعماله للرموز والإشارات الدالة في اللغة، وسيفهم العقل المؤول أن عليه أن ينتقل من اللغة البيانية إلى اللغة البرهانية كما أشار "محمد عابد الجابري"؛ فالإنسان المعاصر لا يكتفي بالبيان واللغة، إنما يريد أن يعرف الأفكار التي يحتويها النص.

 

وفيما إذا فهمنها أن أي نص أو خطاب هو محدد بالمواضيع التي خاض فيها، وبالمخاطبين الذين توجه إليهم، فلن تحّمل النص فوق طاقته، وندعي أنه نص شامل ومانع لكل المعارف الإنسانية، وندّعي أن النص الديني هو نص علمي وسياسي وطبي واجتماعي ونفسي في الوقت عينه ينفع ويتكلم في كل هذه المواضيع سوية.

 

عندما أراد الفيلسوف الألماني "أمانوييل كانط"، إصلاح الفلسفة في القرن الثامن عشر، أستفاد من الثورة العلمية الكبرى التي سبقته، وفهم أن لا مستقبل للفلسفة أو الميتافزيفيا الجديدة إلا بربطها بالعلم، وعندما سألوه أين الميتافزيقيا الجديدة التي بشرتنا بها؟ إجاب ستجدوها في "نقد أسس العلم الذي قمت به" وإذا أردنا الإصلاح الديني وهو ضرورة حتمية للعبور إلى المستقبل، فلن يكون هناك إصلاح ديني إلا بشرطين: الأول يتمثل في إعادة ربط الدين بالإنسان، أي "أنسنة الدين" فإذا كان النص الديني هو خطاب الله الموجه إلى الإنسان وإلى خيره وصلاحه فعلنا أن نضع الإنسان في مركز اهتمامنا ولا نعلى شيء فوقه.

 

وقد اكتسب الإنسان على مدى تاريخه مجموعة حقوق صاغها في وثيقة حقوق الإنسان، فأي مخالفة لمجموعة هذه الحقوق المكتسبة، لن تكون لها مستقبل في عالم يسعى لتطبيقها. لذا على الخطاب الديني، نبذ كل عنف وكل قمع وكل تهميشويمارس على الإنسان ويدعو الإنسان إلى قتل أخيه الإنسان.

 

أما الشرط الثاني فيتعلق بربط الخطاب المعاصر الديني بالخطاب العلمي أو على الأقل عدم قبول التعارض ما بين الخطاب الديني والخاطب العلمي؛ فالعلم هو الذي سيسوغ وسيقرر ما نوع الإنسان الذي سيكون عليه إنسان اليوم،وإذا أراد الدين أن يبقى دعوة للصلاح والخير والتقوى فما عليه إلا أن يهتم لهذه الحقيقة، ويسّهل ويساعد العلم في مهمته بحيث لا يعارضه، إنما يتجه إلى حقل الأخلاق وإلى الحقل الروحي للرد على أسئلة الإنسان وإلى حاجاته الروحية لإشباعها.

 

فإذا كان هذان الشرطان أساسيان في أي خطاب ديني مستقبلي، ففي ضوئهما سنفهم ضرورة الإصلاح الديني الحقيقي لنطهر الخطاب الديني السابق والحالي من كل عداوة أو اضطهاد أو قمع للإنسان ولحريته. ولنزيل كل معارضة وصعوبات وعراقيل وضعها الخطاب الديني في طريق العلم والمعرفة والتقدم أو يضعها رجال الدين في محاولة منهم لإعاقة التطور العلمي الذي أثبت في معظم توجهاته أنه يخدم الإنسان ويسعى إلى إسعاده ويفسر له مظاهر الكون وأسراره.

 

خلاصة

 

قمت بجولة نظرية سريعة على الأسس الحديثة التي وصلت إليها العلوم الإنسانية في مقاربتها للسرديات الكبرى وللنصوص التاريخية والدينية، ثم بينت أن هذه الأسس تساعدنا في فهم وإدراك معاصرين للنص الديني ووضعت المسؤولية على عاتق العقل المستنطق والمؤول للنص الديني في تحول النص المقدس من نص جامد وماضوي إلى نص مستنطق لشؤون الحاضر والمستقبل على أن يلبي شرطيين أساسيين هما إنسته وتحديث الخطاب الديني بطريقة لا تخالف الخطاب العلمي وما بين يدينا يخالف الشرطين، لذا علينا القيام بإصلاح حقيقي وعميق للخطاب الديني.

 

أضف تعليقك