في ذكرى العندليب الأسمر

صادف الأربعاء الماضي، الثلاثون من مارس/ آذار 2022، مرور 45 سنة على رحيل الفنان عبد الحليم شبانة، الذي غُيِّرَت كنيته إلى حافظ، تيمناً بحافظ عبد الوهاب الذي كان رئيس دائرة الموسيقى والغناء في الإذاعة المصرية.. عبد الحليم، أو حليمو، أو العندليب الأسمر؛ المطرب العجيب الذي ظهر في وسط فني حافل بالمغنين ذوي الأصوات الجميلة، القوية، والملحنين العباقرة، والصراعات السياسية والفنية القوية، وخلال زمن ليس طويلا، وعمر لم يتجاوز 48 سنة، وبمائتي أغنية فقط؛ أنجز تاريخاً فنياً مهما، واحتل بين القوم مكانة تشبه الصدارة، مستولياً على قلوب الجماهير، سيما جيل الشباب.

صوت شقيقه، إسماعيل شبانة، أقوى من صوته. هذا رأي الموسيقار عبد العظيم عبد الحق الذي يروي، في حوار متلفز، حكاية أغنية "قلبي حَبَّك"، التي لحنها وأعطاها لعبد الحليم، فاستمر يتدرّب عليها شهراً، ولكنه لم يقدر على أدائها، بسبب محدودية مساحات صوته، فاضطر لأن يسحبها منه، وبعد زمن قصير، أعطاها لشقيقه إسماعيل فغنّاها بجدارة. ويعزو عبد الحق نجاح عبد الحليم إلى الحظ، فقد صادف صعوده، كما قال، مع حركة الضباط الأحرار 23 يوليو/ تموز 1952، وأن الضباط كانوا يريدون الحصول على تأييد شعبي، فطلبوا من فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب أن يغنيا "للثورة"، فلم يستجيبا، فلكل منهما حساباته الخاصة، فانبرى حافظ عبد الوهاب، وقدّم لهم عبدَ الحليم، فدخل، منذئذ، دائرة الأضواء.

كانت أول مساهمة لعبد الحليم في "أغاني التعبئة الثورية"، بـ نشيد العهد الجديد، 1952، الذي أدّاه مع عصمت عبد العليم، من نظم محمود عبد الحي، وتلحين عبد الحميد توفيق زكي. وفي وقت لاحق، اشترك مع الشاعر صلاح جاهين والموسيقار كمال الطويل في تقديم أغنياتٍ يمكن تسميتها "المدعومة"، لأن فيها مديحاً لحركة الضباط، وللبكباشي جمال عبد الناصر الذي بدأ، منذ 1954، ينقلب على رفاقه، منها أغاني: إحنا الشعب، بالأحضان، المسؤولية، يا هلا بالمعارك، ناصر يا حرية.. ومع الشاعر عبد الرحمن الأبنودي وكمال الطويل في سلسلة أخرى، مثل أغاني: إنذار، راية العرب، أحلف بسماها، بالدم، اضرب، بركان الغضب، ابنَك بيقلك يا بطل.. وغنّى، كذلك، أغنية "وفاء" من كلمات محمد حلاوة وألحان محمد الموجي، وبدلتي الزرقا، من كلمات عبد الفتاح مصطفى وألحان عبد الحميد توفيق زكي، ويا جمال يا حبيب الملايين، من كلمات إسماعيل الحبروك.

ولكن رأي عبد العظيم عبد الحق ليس صحيحاً على إطلاقه، فعبد الحليم لم ينجح بسبب قربه من السلطة الناصرية فقط، بل لجملة من العوامل: أولها أن صوته ذو جاذبية خاصة، ويستطيع التحكّم به، حتى استطاع أن يؤدّي أغنية "جبار" التي صرح ملحنُها محمد الموجي أنه لم يقدّمها في حفلة على المسرح قط، بسبب الطبقة العالية. وثانيها؛ أنه أكاديمي، عارفٌ بأسرار الموسيقا والآلات. وثالثها؛ ذكاؤه الفني، ومقدرته على الاستئثار بأبرز ملحني عصره، وبالأخص كمال الطويل، ومحمد الموجي، وبليغ حمدي، ومحمد عبد الوهاب. وهؤلاء تعلقوا بشخصيته التي كانت تتصف بالنرجسية والعناد، بالإضافة إلى الطيبة، والتسامح، والميل إلى مساعدة الآخرين، بدليل أنه لم يصادف أن أجري حوار مع أحدهم إلا وأفرد فيه مساحة كبيرة للحديث عن علاقته بالعندليب، فعبد الوهاب يقول إنه اكتشف أهمية عبد الحليم من خلال سماعه أغنية "يا تبر سايل بين شطين"، والموجي يقول أنا الذي لحنتُها، وأنا الذي قدّمته بأغنية "صافيني مرّة"، وكمال الطويل يقول إنه أطلقه بأغنية "على قد الشوق"، بعدما أخفقت الأغنية التي لحنتُها له من شعر صلاح عبد الصبور.

ولعل من أطرف ما رواه كمال الطويل، أن عبد الحليم اعتذر، بعد هزيمة 1967، عن أداء أغنية "الباقي هو الشعب"، لأنه حسبها، أن الشعب باقي أُمَّال الجيش فين؟!

أضف تعليقك