فقر الدم… وفقر الحياة!

تتنوع أشكال التمرد في الفنون والآداب، وهو تمرد لو لم يتحقق ويواصل تحققه، سيفقد الأدب أو أي فن آخر قوة تأثيره. ففي زمن يتطوّر فيه كل ما حول الإنسان، لا تستطيع الفنون الوقوف مكانها، لا تستطيع الكتابة أن تقف متفرِّجة؛ عليها أن تكون فاعلة، ولا يمكن لها أن تكون كذلك إلا إذا كانت مُتفاعلة، ولذا فإن الكثافة المتحققة في عمل أدبي أو فني هي الكثافة الروحية المعرفية التي تفتحتْ في مبدع ما، فأعطانا شيئاً لم نكن ندركه، وإن كنا نحسّه أو كنا نحلم به، ولكننا لم نكن نجرؤ على تحقيقه، أو لا نجرؤ أحياناً على أن نحلم به.

الحلم في حاجة إلى الحرية أيضاً، ولذا لا يستطيع روّاد الكوابيس والحيوات المغلقة، الذين يحاصرون أنفسهم على الدوام بجدران عالية، أن يمنعوا الأحلام من القفز عن هذه الجدران، وعبور بوابات قلاعهم خلسة أو رغماً عنهم، هم من يمنحون كوابيسهم، وحدها، جوازات السفر وحرية التنقّل!

يتقدم الأدب حين يتمرد، حين يرفض الخضوع للذائقة المطمئنة والأفكار المطمئنة أيضاً، وبهذا التمرد يغيِّر الأدباء والسينمائيون والرسامون وسواهم التاريخ الإنساني والجمالي للفنون والآداب، فهل يفعل البشر ذلك على مستوى حياتهم؟!

ما يعنينا إنسانياً، هنا، هو التمرد الروحي لبشر يرفضون أن يصابوا (بفقر الحياة) كما يصاب آخرون بفقر الدم.

أكاد أقول، في كل إنسان كائن متمرد، وكائن مقموع! كائن يتمنّى أن يتغيَّر ويُغيِّر، كائن يتمنى أن يُحلِّق ويكتشف ويرحل بعيداً، ويرى ما لم يره سواه، ويُحِبّ ويُحَبّ. ولعل الدليل الأبسط والأوضح الذي يؤكد هذا هو الحلم.. أحلامنا، فكلنا نحلم ونعيد بناء كثير من عوالمنا، أو على الأقل نرممّها بالحلم.

إلى جانب الحلم، وخارج لحظة اللاوعي، أيضاً، هناك إقبالنا على كلّ ما يشبه الحلم، فالحلم أحياناً هو الواقع، وأحياناً هو الخيال الذي يتفوّق على الواقع ويغدو أكثر اتساعاً وجمالاً ورحابة، بل وصدقاً، منه!

بقدر ما تضمر الفنون وتعلن وعياً بالحياة وأسئلتها الكبرى، بقدر ما تنحاز للجمال ونماذجه التي ما إن نراها أمامنا في نص مرئي أم مسموع أو مقروء، حتى يسيل لعاب أرواحنا! ونتمنّى أن نكون هذه النماذج، أو أن تكون هذه النماذج مُلكنا، أو جزءاً من حياتنا على الأقل!

في الجمال كثافة مغرية، ندّاهة، تخطفنا من أنفسنا لأوقات تطول أو تقصر، تستولي علينا. وليس ذلك غريباً أن يتضاعف هذا الشغف بهذه النماذج كلما مالت حياتنا إلى الفقر الروحي والإنساني؛ لكننا يمكن أن نقول هنا: ما مِن نفس بشرية لا تتطلّع إلى نموذج أعلى، أجمل وأصفى، وأكثر جرأة ووعيا وقدرة على تذوق كل أشكال الحياة وعيْشها، وإن كان بعض البشر يتطلعون لهذا النموذج في حياتهم، فبعضهم يتطلعون إليه بعد مماتهم!

ذات يوم في حوار صحافي أشرتُ إلى أنني قد أكتب ألف صفحة عن طفل عاش عشر سنوات، ولا أستطيع كتابة مائة صفحة عن إنسان عاش مائة عام! لا لشيء إلا لأن منسوب الحياة في الأول يفوق عشرَ مرات منسوب الحياة في الثاني.

هكذا تأتي الفنون والآداب فتفاجئ كلّ من لم يعش، أو عاش! وتهمس له: أنت لم تعش تماماً. أنت لم تفهم الصراع كما فهمه سنتياغو في «العجوز والبحر»، ولم تتذوق الحياة وتعتصرها اندفاعاً ورقصاً كما فعل «زوربا»، أنت لم ترَ مثل ذلك الضرير في فيلم «الكيت كات» وفيلم «عطر امرأة»، والضرير المصَوِّر في الفيلم الأسترالي «الدليل» الذي قاد السيارة الرياضية كما حدث في «عطر امرأة» أيضاً، وحين سألته المحققة: «كيف تقود السيارة وأنت ضرير؟» أجابها: «لقد نسيت أنني ضرير فعلاً!»، ولكنك كإنسان، تتمنى أن تفعل هذا!

أنتِ لم تتمرّدي مثل كارمن في عمل بيزيه الساحر، ولم تحبّي الحب والكرامة كما حدث مع بطلة فيلم «الغجر يصعدون إلى السماء»، ولست جريئة مثل «آنا كارنينا»، ولكنك تتمنين هذا!

أنتَ تعترف أنك في حاجة إلى أن تكون أفضل، حين ترى تلك الطالبة الرائعة في فيلم «تثقيف ريتا» تعيد صياغة ثقافة أستاذها الجامعي وتجبره على أن يَلدَ نفسه بنفسه! أو كما فعل جوني ديب في فيلم دون جوان، وهو القادم مُجبراً للعلاج لدى طبيبه النفسي مارلون براندو، وإذا بالمريض يقلب عالم الطبيب ويحيله إلى نسمة إنسانية لا تتوقف عن الهبوب! ولكنك تتمنى أن تفعل هذا.

أنت لم تتمرّد، مثل ذلك المهندس، على بلادة الهندسة المعمارية وترفضها، وتتحمل النتائج كاملة لكي تحقق حلمك بأبنيّة مختلفة، كما في رواية «العدوّ» التي ترجمها صنع الله إبراهيم، ولم تُلقِ بقفازك في وجه الأطباء المتكلِّسين كما فعل روبن ويليامز في فيلم «باتش آدمز» ليقدم واحدة من أنجع سبل العلاج لمرضاه: الضحك!

لا يحدث هذا الخنوع البشري لأن الحياة فقيرة والفنون والآداب غنية، بل يحدث لأن أكثر الناس لا يجرؤون! يُرعبهم اضطرارهم أن يصلوا إلى بيوتهم عبر طرق أخرى، كما لو أنهم لا يستطيعون التخلي عن طريقهم المعتاد الذي عبروه آلاف المرات، ولكن إذا ما سألهم تائه عن سفارة بلد يحلمون بزيارته، أو مكتب طيران، أو قاعة عرض في الشارع الموازي لمكان سكنهم، أو «تعليبهم»، لا يعرفون.

وبعــد:

سمعتُ المغنِّي يُغنّي

ثلاثينَ ليلةً

والحاضرون..

كلّ يطلبُ الأغنيةَ التي يعرفها

أما من أحدٍ يطلبُ أغنيةً جديدة؟!

المصدر\القدس العربي

أضف تعليقك