فضاء ما بعد العلمانية

فضاء ما بعد العلمانية
الرابط المختصر

برزت فكرة ما بعد العلمانية بوصفها التعريف الممايز المحتمل للمجتمعات المتقدمة في الألفية الثالثة. ولقد أكدت الدراسات والفلسفات الروحانية على تعددية النوازع الروحية الفردية وكيف أن التوتر بين هذه النوازع قد لعب دورا بارزا في هيمنة الدين على مناحي الحياة الغربية ثم انحسار هذه الهيمنة من قبل المجتمع العلماني.

 

ومنذ ذلك الحين ساهمت الحرية والديمقراطية بإعادة دمج الروحانيات في سياقات علمانية متعددة تبشر بإعادة الحياة إلى الروحانيات ممثلة في بزوغ مجتمعات ما بعد علمانية. ويعد مصطلح ما بعد العلمانية مصطلحا جديدا نسبيا ولذلك فإن تحديده يتميز بالمرونة. إذ ظهر المصطلح في سياقات عديدة تلمح إلى عالم يتهيأ بعد غياب طويل إلى الاندماج مع الروحانيات، وبالرغم من ذلك فإن العناصر التالية قد تساهم في تحديد المصطلح:

·        الاعتراف بأن الدوافع الروحية فطرية، حقيقية، مميزة، متعددة الأوجه وتستحق التشجيع بحد ذاتها

·        تجدد الاهتمام بالحياة الروحية بوصفها صيغة"وجود" في العالم.

·        الاعتراف المتزايد بشرعية القضايا الروحية

·        الاعتراف بأن الحقوق العلمانية وحرية التعبير هي شرط مسبق لتحقيق التجديد الروحي

·        التعددية الفكرية والروحية في الشرق والغرب

·        العمل على تعزيز جميع التقاليد الروحية في الشرق والغرب، مع الاعتراف بالقمع الذي يقع أحيانا على بعض الأفراد والمجتمعات باسم الدين.

 

وبناء عليه يمكننا القول أن ما بعد العلمانية تحتفي بكل الانجازات المادية التي تحققت في عصر العلمانية، وفي الوقت ذاته تعزز النوازع الروحية بوصفها فطرية تستحق التناول والتشجيع.

 

وبكلمات أخرى، رحبت ما بعد العلمانية بمحاربة العلمانية للاستبداد والأنظمة الإقطاعية والشمولية ولكنها نددت بنبذها الروحانيات التي امتزجت بتلك الهياكل والأنظمة الاجتماعية والسياسية. ومن الضروري عند هذه النقطة تحديد ما نعنيه بالروحانيات قبل الإسهاب في الحديث عن ما بعد العلمانية المعاصرة وعلاقتها بالروحانيات.

 

تميزت القرون الخمسة الأخيرة بعد الثورة العلمية التي ارتبطت بالحداثة بتنامي العلمانية. كانت تلك الحقبة حقبة النهوض العلمي والتي تميزت بالتحديد والفصل. فصل العقل عن المادة والعلم عن التقانة والدين عن العالم والطبيعة عن الطبيعة الخارقة والعلوم المادية عن العلوم الإنسانية والعلمي عن غير العلمي... الخ. وبذلك تعززت الثنائية في الثقافة الغربية. لقد سرى المنطق ونبرة العقلانية التي جاء بها ديكارت ومزامنتها لفصل العقل عن المادة سريان النار في الهشيم.

 

ساهم صعود الديكارتية في تقويض أسس المجتمع الإقطاعي وعزز التصنيع والتمدن العلمانية حين أسس لثقافة الفردية الحداثية وتبعا لذلك تركز الحديث عن الروحانيات الفردية التي لا تتجاوز الفرد في منافعها والتي لا يجب أن تؤثر في المجموع.

 

يشير مصطلح العلمنة (secularization) في الأصل إلى حالة نزع الصفة الكنسية. وفي السياق الديني فإنه يعني الخروج عن التقاليد الدينية والطرد من الكنيسة. ويمكن أن يدل أيضا على التطورات اللاهوتية المعارضة للأرثوذكسية أو التي تسعى لتقليص السلطة المطلقة للكنيسة. وأيا كان التحديد فإن القاسم المشترك بين كل التعريفات هو الإقصاء أو الإبعاد. في كتابه (الدين من منظور اجتماعي,1982) يعرف برايا ويلسون العلمنة"بأنها العملية التي تفقد من خلالها أعمال ونشاطات المؤسسات الدينية أهميتها الاجتماعية. ولا يعني ذلك أن الأفراد يفقدون اهتماماتهم الدينية ولكن الأمر ببساطة هو أن تأثير الدين على المجتمع يتقلص تماما".

 

لقد تغلبت العلمنة على كل محاولات التقريب بين الثنائيات وكان الشعور العام والمهيمن هو الإقصاء والتنفير. أما العقلانية الديكارتية التي رافقت الحداثة وشكلت ثقلا مهما في تحديدها فقد بلغت أوجها في أواخر القرن التاسع عشر حتى كبحت ما بعد الحداثة تقدمها إلى حد كبير حين روجت لمفاهيم جديدة تجاوزت ثنائية العقل/ الجسم الديكارتية وزعمت أننا أعدنا اكتشاف جذورنا الجسدية دون تجزئة أو تمييز.

 

كانت العودة الجديدة إلى الروحانيات سمة طاغية في أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين ويرى باتريك جلينفي كتابه (الرب: الأدلة, التوفيق بين العقل والإيمان في عالم ما بعد العلمانية ,1997):" أن المفاجأة الكبرى التي صاحبت الانعطاف نحو القرن الواحد والعشرين هي سعي الإنسان الدائب نحو إعادة اكتشاف عالم الله والروح ولكننا يجب أن نشير إلى أن العودة إلى الروحانيات والدين في مرحلة ما بعد العلمانية لا تعني العودة إلى سيادة الدين المطلقة قدر ما أنها تعني أن الدين والعلم قد وسعا نفوذهما لاحتواء المتغيرات الثقافية والسياقات الاجتماعية ليندمجا في ظاهرة ثقافية ما بعد حداثية أطلق عليها مصطلح الروحانية العلمانية (Secular spirituality). وقد عرف توني ويلكنسون هذه الظاهرة في كتابه (الفن المفقود في حياة سعيدة: القيم الروحية للمتشككين, 2007)"بأنها ظاهرة ثقافية تشير إلى الانضمام إلى إيديولوجية روحانية من دون الترويج لإطارها الديني".

 

ومن حيث المبدأ فإن الروحانية العلمانية يمكن أن تحتفي بكثير من الشعائر والممارسات تماما كالروحانية الدينية, إلا إن الدوافع في كلتا الحالتين مختلفة. وبسبب الاختلاف الجذري في المعتقدات عن تلك الموجودة في معظم التقاليد الروحية الدينية فإن التركيز يكون على الممارسات بدلا من الاعتقاد وعلى السلام الداخلي للفرد بدلا من العلاقة مع المقدس الإلهي. وبذلك أصبح الدافع عند أنصار الروحانية العلمانية هو العيش بسعادة ومساعدة الآخرين الأمر الذي يوضح كيف أن هذا الحافز قد يؤدي إلى حياة روحانية مرتكزة على الثواب والجزاء بطريقة مشابهة لتلك التي تعد بها معظم الأديان.

 

 

غير أن نطاق ما بعد العلمانية أو الروحانية العلمانية بات يتجاوز أمنيات أولئك الذين وجدوا في العلمانية صحراء جرداء. يبحث مايك كينج عن أدلة تميز الروحانية العلمانية من ناحية ثم اتساع مداها لتشمل مناح كانت قصرا على العلمانية المادية فيما مضى. ويرصد كنج"السياقات ما بعد العلمانية التالية في الثقافة الغربية المعاصرة:

1.  في علوم الميكانيكا الكوانتية الجديدة, حيث نظرية النسبية والفوضى (التعقيد) التي تتحدى الحتمية والنظرة الميكانيكية الاختزالية.

2.     في مجال دراسات الوعي الكوني الناشئة.

3.  أجزاء من فكر ما بعد الحداثة متضمنة فكر هايدغر ويفناس واللاهوتية المسيحية خصوصا الأرثوذكسية الراديكالية التي مهدت لها ما بعد الحداثة ومن أبرز رموزها دون كوبيت

4.  في مجال الأعمال الفنية الإبداعية فمثلا أعمال الروماني كونستانتين برانكوسي والأمريكي السينمائي بيل فيولا التي عبرت عن طيف واسع من الروحانيات التقليدية وغير التقليدية.

5.    المقاربة الايكولوجية والفلسفية الايكولوجية العميقة من ثوريو إلى ديلارد و والشامانية الجديدة.

6.    حركة العصر الجديد والوثنية التجديدية.

7.  في مجال علم النفس العبر شخصي أو علم القابليات الروحيةtranspersonal)(psychology ابتدءا من نشأته على يد يونغ وجيمس ومرورا بماسلو وواندرو غروف وحتى كن ويلبر والآخرون".
باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1-        أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2-        الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3-        نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4-       فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني.

أضف تعليقك