فاشية ما بعد الحداثة: الأصولية وأحزاب اليمين المتطرف أُنموذجاُ

فاشية ما بعد الحداثة: الأصولية وأحزاب اليمين المتطرف أُنموذجاُ
الرابط المختصر

 

تشير التطورات الحديثة في فهم الفاشية إلى أن الفاشية شكلا ثوريا من القومية المتطرفة تهدف إلى تعبئة عامة لطاقات الأمة الجماعية لأجل إعادة التأهيل والتجديد والبعث الوطني.

 

وتشكل الفاشية ردا على هشاشة الروح الوطنية في بيئة دولية تنافسية غير عادلة في جوهرها، وعلى فشل النخبة الوطنية في تعزيز قاعدة السلطة المحلية. ومن هنا فإن الفاشية تدعو كما يراها روجر غريفين، في كتابه (طبيعة الفاشية) إلى مناهضة الديمقراطية الليبرالية، وإيديولوجية جمعية واقتصاد تعاوني، ومعاداة التعددية الثقافية والتقسيم الاجتماعي.

 

ويمثل اليمين المتطرف اليوم شعبوية سلطوية داخل هياكل ديمقراطية تمثيلية، تدعو إلى شكل من (الأفضلية الوطنية) مقترنا باعتناق اقتصاد السوق الحرة فضلا عن دعمه لنظرية التعددية الإثنية Ethnopluralism)) على أساس التجانس الثقافي واستحالة تمازج الكتل الحضارية.

 

والتعددية الإثنية هي مصطلح نحته اليمين المتطرف للدعوة إلى احترام الاختلافات الثقافية والعرقية مع التأكيد على أن أفضل إستراتيجية لحمايتها هي تجنب الاختلاط والتمازج بينها. ويوظف اليمين المتطرف الجديد المصطلح ليشير إلى تخليه عن الإشارة إلى التفوق العنصري أو العرقي ويفترض وجود خطاب ما بعد عنصري جديد يرتكز على أساس الحفاظ على الهوية والثقافة الوطنية. وبذلك فإن اليمين المتطرف يكون قد خصخص وحول تعريف (الاختلاف) الذي وظف تقليدياً من قبل اليسار لتعزيز التعددية الثقافية واحترام التنوع.

 

يقول بيار أندريه تاغيياف في كتابة (العنصرية الثقافية في فرنسا): "يدعي اليمين الجديد أن العنصرية الحقيقية هي محاولة لفرض نموذجا عاما وفريدا بوصفه الأفضل، مما يعني القضاء على الاختلافات... وبناء عليه، فإن المناهضة الحقيقة للعنصرية تقوم على الاحترام المطلق للاختلافات بين المجموعات المتجانسة عرقيا وثقافيا".

 

يرصد جيف باوتشر الفروقات بين الفاشية التقليدية التي سادت بين الحربين العالميتين (1918-1939) والفاشية الجديدة المعاصرة ويقول "تميزت فاشية الثلاثينيات بتجذر القومية الإثنية في العنصرية البيولوجية والهيمنة الاقتصادية والنزعة العسكرية المناهضة للديمقراطية، في حين تميزت فاشية الألفية الثانية بالتعددية العرقية ضمن وحدة ناظمة، وبالليبرالية الجديدة، والأفضلية الوطنية، والشعبوية الديمقراطية، وسياسات الاستفتاء"، يتابع باوتشر ملاحظاته ليلفت النظر إلى طبيعة مؤيدي الفاشية الثلاثينية والفاشية المعاصرة "تضم أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا منظمات الطبقات العاملة، بل إن عدد العمال المؤيدين للأحزاب اليمينية يفوق أعداد المؤيدين للأحزاب الشيوعية".

 

يرى بيرو أغنازي في كتابه (الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا الغربية)" أن تصويت أعداد هائلة من أبناء الطبقة العاملة لصالح أحزاب اليمين المتطرف هو أكثر جوانب الرواية إثارة للدهشة مقارنة مع العام 1980"، وهذا يشير إلى أن أحزاب الفاشية الجديدة لم تعد تعتمد على أصوات المحتجين من الطبقة الوسطى، بل أن ناخبي اليمين المتطرف اليوم - ولازال الكلام لأغنازي- يمثلون جمهورا انتخابيا محددا معبأ بمشاعر العزلة عن النظام السياسي وعدم الرضا تجاه الديناميات الاجتماعية والاقتصادية لعملية ما بعد الحداثة والعولمة.

 

وفي الوقت نفسه، فإن الطرح القائل بأن الفاشية الجديدة هي شكل من أشكال فاشية ما بعد الحداثة ـ وليست بدعة، مثل اليمين المتطرف ـ يحتاج إلى بعض التفسير.

 

ربما يتفق كثير من منظري ما بعد الحداثة، أن ما بعد الحداثة هي سليلة مباشرة للفاشية وأنها لا زالت تحتفظ بمعظم عناصرها الرئيسة وأن الفاشية بوصفها أيديولوجية أو نظرة عالمية هي أحد أجداد ما بعد الحداثة التي لا يمكن تجاهلها. هناك تشابه كبير ولكن قليلون في الماضي كانت لديهم جسارة الكشف عن هذه العلاقة. يقول ريتشارد فولن في كتابه (غواية اللامعقول):"تزودت ما بعد الحداثة بمذاهب فريدريك نيتشه ومارتن هايدغر وموريس بلانشو وبول دي مان، وجميعهم أما أنه أوشك أن يذعن أو أنه أذعن تماما لـ" الافتتان الفكري والثقافي بالفاشية".

 

إن أفضل تعريف للفاشية التاريخية والفلسفية يقوم على إدراك ثلاثة من أهم أفكارها المتداخلة وهي: العضوانية أو العضوية (organicism)، واللاعقلانية (irrationalism)، ومبدأ الكمون والحلول (Immanence) الذي يقول بأن الإله والكون كيان (جوهر) واحد. وهذه الأفكار الثلاثة بالتحديد هي أعمدة الفكر ما بعد الحداثي.

 

أبقت ما بعد الحداثة على كثير من الطروحات الفاشية مثل رفض وجود مصدر متعال للحقيقة، وأن الحقائق ليست سوى بُنى اجتماعية. وفي حين صادرت الفاشية حرية التعبير صراحة بحجة تأثيرها الهادم على التضامن العضوي، فإن ما بعد الحداثة صاغت هذا التقيد بلطافة الكياسة السياسية والشفرات الكلامية. فالكلمات تبعا لما بعد الحداثة ليست سوى وسائل قمع وتهديد. يؤكد الفاشيون وما بعد الحداثيين على سيادة الحكومة، ويعارضون الهوية الفردية وكرامة الإنسان المتأصلة في التراث الإنساني، وبدلا من ذلك، فإنهم يشددون على هوية المجموعة والتعددية الثقافية.

 

إن بناء الهوية في مفاهيم ما بعد الحداثة يعادل الاستهلاك الثقافي، يقول بودريلار"أصبحت هويتنا هي ما نستهلكه".

 

أسقطت ما بعد الحداثة من طروحاتها أمرين خالفت بهما الفاشية التقليدية وهما: القومية والعنصرية البيولوجية، ولكن ما حدث هو أن الفاشية الجديدة قد تبنت خطابات انعكاسية صممت لتموضع التناقضات الثقافية محل العنصرية البيولوجية، وفي الوقت نفسه تحتضن الفاشية الجديدة "التشكيل الذاتي للفرد" المميز لسياسات ما بعد الحداثة والثقافة المرتكزة على أسلوب الحياة، لكنها تؤطر هذه النزعة الفردية الجديدة في إطار من العنصرية الثقافية. وعلى الرغم من أن البيئة الديمقراطية في السياسة المعاصرة تستبعد التمرد المسلح، و(هيمنة الفاشية) والدكتاتورية العسكرية والحرب الأهلية التي ترعاها الدولة، والمرتبطة بحالات الإبادة الجماعية ومعسكرات الاعتقال في أوروبا أو أميركا، إلا أن الأمر لا يبعث على كثير من الطمأنينة؛ إذ يجب أن نتنبه إلى خطر حقيقي يستند إلى حقيقة أن الدور المساند للفاشية الجديدة يجري تنفيذه اليوم من قبل حكومات ما بعد الحداثة المحافظة، وأن الأحزاب الفاشية الجديدة في السلطة قد انجذبت نحو البراغماتية المحافظة ما بعد الحداثية بدلا من التوجه نحو الديكتاتورية العسكرية، يحذرنا أمبرتو ايكو من صور خداع الفاشية الجديدة حين يقول:" يجب علينا توخي الحذر، كي لا ننسى معنى هذه الكلمات، الفاشية البدائية لازالت بيننا، وأحيانا في صور فاضحة. سيكون من السهل علينا لو أن أحدهم ظهر على الساحة مطالبا بإعادة فتح أوشفيتز أو قال لنا: أريد أن تتمختر القمصان السوداء في ساحات ايطاليا من جديد، ولكن الحياة ليست بهذه البساطة. الفاشية البدائية يمكن أن تعود وقد أجادت التنكر واصطناع البراءة".

 

قبل سنوات الثمانينيات كان اليمين المتطرف الأوروبي مهمشا سياسيا لأنه حافظ على خط فاشية ما بين الحربين. ومع نهاية التسعينيات ارتفع التصويت لصالح أحزاب اليمين المتطرف. يرى أغنازي أن سبب هذا التحول هو أن حقبة الثمانينيات مثلت انفصالا جذريا بين أسلوب الفاشية الثلاثينية والفاشية الجديدة المعاصرة، وبسبب هذه القطيعة حصلت الفاشية الجديدة على مصداقية انتخابية عالية ساعدها في ذلك عاملان أساسيان يوضحهما باوتشر:

  · إنكار الصلة بالفاشية القديمة الذي تمثل في رفض الإطاحة بالدولة الديمقراطية، ورفض سلطة الدولة على التجديد القومي، والتخلي عن البنى التعاونية الاستبدادية الاقتصادية والاجتماعية، ونبذ العنف السياسي.

  · والاحتفاظ، مع ذلك، بمفاهيم اللامساواة، ومكافحة التعددية، ومناهضة الليبرالية، حين تنادي بمجتمعات عضوية ترتكز جذريا على مفهوم الأمة والسياسات السلطوية والتحيز ضد الليبرالية.

 

أطلق أغنازي على الفاشية الجديدة مصطلح (فاشية ما بعد الصناعة post-industrial fascism)  وهو النموذج الذي ينكر صلته بالفاشية القديمة ولكنه يتبنى قيمها المعارضة للتعددية والليبرالية والديمقراطية. خضعت الأحزاب الفاشية التقليدية خلال الثمانينيات من القرن الماضي لعمليات هبوط وانقسام وإعادة تشكيل وتحول، وبفضل هذه العمليات تخلت عن العناصر الرئيسية الإيديولوجية والسياسية لفاشية ما بين الحربين: الاقتصاد التعاوني، والديكتاتوريات العسكرية، والعنصرية البيولوجية، والذاتية الجمعية. وفي الوقت نفسه شهدت الحقبة ذاتها صعودا هائلا لتشكيلات جديدة اتسمت منذ البداية بالشعبوية العنصرية. واليوم فإن اغلب المنتمين إلى اليمين يؤيدون التعددية الإثنية ما بعد العنصرية post-racist ethno-pluralism)) التي تهدف إلى حماية والحفاظ على الثقافة والمجتمع الخاص بكل مجموعة بدلا من الانتقاص من الثقافات الأخرى. تعد الوطنية أو الأهلية (nativism) الراديكالية اليوم وطنية ثقافية معنية بالهوية الأمريكية والأوروبية والاختلافات الإقليمية وتبعا لذلك يصبح بإمكان الفاشية الجديدة أن تقدم نفسها مدافعة عن الحرية الديمقراطية والعدالة القانونية في وجه الغرباء المختلفين ثقافياً. لا تستند كراهية الأجانب التي نراها في أوروبا اليوم إذا على الدم، ولكن على الدين والثقافة. يقول بورغ هايدر زعيم حزب الحريات النمساوي:

"يتعارض النظام الاجتماعي الإسلامي مع قيمنا الغربية. كما تتعارض حقوق الإنسان وحقوق النساء والديمقراطية مع العقيدة الدينية الإسلامية. لا يقيم الإسلام وزنا للفرد أو للإرادة الحرة بينما يمثل الإيمان والجهاد المقدس كل شيء".

 

ترتكز كل مجالات عمل الأحزاب اليمينية المتطرفة على مشروع ثقافي غير ظاهر ـ ولكنه حاسم ـ يربط بين الأفضلية الوطنية والسياسات الشعبوية من جهة، و(التجديد الوطني) من جهة أخرى. إنها المقاومة البيضاء التي كان منشؤها التقاليد الأمريكية التي تزعم تفوق البيض والقومية العنصرية، وفكرة أن بقاء الجنس الأبيض والحضارة الغربية مهدد بـ(الإبادة المنظمة للعرق الأوروبي). وهذا يحدث عن طريق الإجهاض والهجرة والتزاوج. يشعر أنصار اليمين المتطرف بمزيد من الاغتراب نحو أداء النظام والمؤسسات الديمقراطية. وهذه هي (فرضية عدم الرضا السياسي) التي تجعل من نقد المؤسسات الديمقراطية القائمة يعادل الدعوة إلى الأفضلية الوطنية. وتتعزز المشاعر المعادية للنخب بالتشكيك في الأحزاب وبرامجها، ويستفيد اليمين المتطرف من تناغم أنصاره ومجتمعاته المحلية، ويتميز ببغضه للانقسامات الاجتماعية والتعددية السياسية.

 

يهاجم الفاشيون الجدد التعددية والمساواة بين البشر والمنافسة السياسية وتسوية الصراعات. يقول أغنازي" أن الثقافة السياسية الكلية والواحدية لليمين المتطرف معادية للنظام". ويرى أيضا أن"خيارات معادة النظام الراديكالية تمثلت في الاستبدادية المعادية لليبرالية وفي الواحدية المعادية للتعددية وفي كراهية الأجانب المعادية للمساواة بين البشر". وكانت نتيجتها المتوقعة دعم أحزاب اليمين المتطرف الذي يتمتع اليوم بجاذبية خاصة لأنه يسمح بأقصى تعبير ممكن عن مشاعر الإحباط وعدم الارتباط والاغتراب عن النظام, ويمنح أنصاره عالما خاصا بعيداً عن السياسة السائدة. والأكثر جاذبية هو منظور التكامل الجديد في مجتمع متجانس دينيا واثنيا، وفي مجتمع كلي أحادي على المستوى الوطني وما دون الوطني يرتبط بعلاقة اجتماعية قوية وهرمية داخل حدود مجتمع قومي ويحلو للفاشيين الجدد توظيف مصطلح (Volkische community) لوصف المجتمع الذي يحلمون به.

 

وكلمة Volkische التي تعد التفسير الألماني للشعبوية مع تركيز رومانتيكي على الفولكلور والعضوانية وتعني تحديدا العرق، وتحمل حسب المؤرخ جيمس ويب نغمة الأمة والعرق والقبيلة. وعلى نطاق ضيق يمكن توظيف الكلمة لتعيين الجماعات التي تنظر إلى الصلات البشرية عن أساس الدم فحسب.

 

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني.

أضف تعليقك