غزّة وبكائيات دافيد غروسمان

الرابط المختصر

حتى تاريخه، في حدود ما تعلم هذه السطور؛ أو حتى إشعار آخر كما سارت العادة واستقرّ المنطق الناظم؛ فإنّ ردّ الفعل الأقصى من دافيد غروسمان، الروائي والكاتب الإسرائيلي الشهير رفيع الجوائز وعالميّ الصيت، على حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ المدنيين العزل من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة، تمثّل في مقالة (مسهبة، كما يتوجب القول) نشرها بالعبرية في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية. ولأنها تُرجمت إلى لغات عديدة، فقد تنوّعت عناوينها طبقاً لـ»مزاج» التحرير في المنبر أو الموقع ناشر الترجمة: «إسرائيل في كابوس. مَن الذي سيكون بعد أن ننهض من الرماد»، حسب صحيفة «فايننشيال تايمز» البريطانية؛ أو «كابوس لا نظير له»، حسب أسبوعية «لوبز» الفرنسية.
وأياً كانت مقادير النقد الذي اعتاد غروسمان توجيهه إلى اليمين الإسرائيلي عموماً، وإلى ائتلاف بنيامين نتنياهو خصوصاً؛ فإنّ رثاء «روح إسرائيل»، حسب تعبيره المتكرر الذي لا يتقادم، يهيمن على نبرة المقالة، بما يسمح أيضاً بتسلل فزع الكابوس تارة أو خشية اهتزاز الوجود تارة أخرى. لا جديد، أيضاً، ولعلّه العنصر الأهمّ، أنّ ميزان غروسمان المعتمَد يضع «إرهاب حماس» في كفة، و»الاحتلال الإسرائيلي» في كفة مقابلة؛ متجاهلاً أنّ إرهاب الدولة الإسرائيلي لا يقتصر على مفردة «احتلال» غائمة، بل يشمل جرائم حرب موصوفة شتى، وسياسات عنصرية واستيطانية واستعمارية لا تكفّ عن التوحّش، ومنظومات أبارتيد أين منها الأصل الجنوب أفريقي.
ولا عجب أن تَجتذب المقالة إغراء الترجمة إلى لغات تشهد وسائل إعلامها، أسوة بساستها في الحكم والمعارضة، عجائب أنماط انحياز إلى دولة الاحتلال وسكوت عن جرائم الحرب والفظائع والمجازر؛ فالفقرة الأولى تجمع الندب بالدراما، بخصوص كيان اشتُهر بالشدّة والبطش والهيمنة والدلال والغطرسة معاً. يكتب غروسمان: «أنظر إلى وجوه الناس فأرى الصدمة، الوجوم، قلوبنا تتهدّل تحت ثقل دائم. مرّة بعد أخرى يقول بعضنا للبعض الآخر: إنه كابوس أبعد من المقارنة، لا كلمات تصفه، لا كلمات تحتويه».
ثمة أيضاً، في الفقرة التالية مباشرة، تلك الدغدغة (الأثيرة، بدورها، عند غروسمان) للصياغات المطلقة، الهلامية وشبه الميتافيزيقية والتلفيقية، لما اعتاد غروسمان أن يتغنى به من عناصر يعتبرها مثلى في «روح» الكيان؛ وما تتعرض له اليوم من «خيانة» لها على أيدي هذا أو ذاك من ساسة الاحتلال: «أرى أيضاً إحساساً عميقاً بالخيانة. خيانة المواطنين من جانب حكومتهم ــ من رئيس الوزراء وتحالفه التدميري. خيانة لكلّ ما نعتبره ثميناً عندنا كمواطنين، وخصوصاً كمواطنين في هذه الدولة. خيانة لفكرتها التكوينية، والمُلزمة. وللوديعة الأثمن على الإطلاق ــ بيت الشعب اليهودي الوطني ــ الذي سُلّم لزعمائه ليحفظوه، وتوجّب عليهم أن يعاملوه بتبجيل».
بكائيات غروسمان تتوالى على أنساق متماثلة، بل لعلّ الكثير منها ليس أكثر من رَجْع أصداء لبكائيات سابقة دبجها في مناسبات كانت عنده كابوسية، وإنْ تفاوتت شدّتها بين اغتيال إسحق رابين مثلاً، والاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان حين قُتل ولده أوري قائد دبابة الميركافا. ولقد عاتب ليا رابين، أرملة الجنرال القتيل، لأنها اعتزمت مغادرة «هذا البلد المجنون» صبيحة تقدّم نتنياهو على شمعون بيريس في انتخابات 1996؛ وجزم يومذاك: «ليس لنا من وطن آخر». كذلك لم يبدّل موقفه من الاجتياح ولم يطالب بإنهاء الحرب، واكتفى بهذا التصريح: «لن أقول الآن أيّ شيء عن هذه الحرب التي قتلت ولدي. نحن، في عائلتنا، خسرنا هذه الحرب لتوّنا».
غير أنّ المفارقة الكبرى تجلت في أنّ غروسمان لم ير في ابنه أوري صفة الغازي الذي يقود دبابة غازية، بل «الفتى الإسرائيلي تماماً، الذي كان إسرائيلياً جداً وعبرانياً جدّاً حتى في اسمه»! وفي كلمة الرثاء التي ألقاها على قبر ولده، أضاف: «لقد كان أوري يمثّل جوهر الصفة الإسرائيلية كما أودّ لها أن تكون. صفة إسرائيلية يكاد يطويها النسيان، حتى صارت أمراً مثيراً للفضول. وكان إسرائيلياً طافحاً بالقِيَم، وهي كلمة تآكلت فباتت مضحكة في السنوات الأخيرة. ففي عالمنا المجنون العابث القاسي، ليس رائجاً أن تكون حامل قِيَم، أو إنسانيّ النزعة».
وكي يمزج السخط الساخن بالإشفاق البارد، فلا يبدو أقلّ شراسة من مواطنيه الذين يتوجه إليهم، يعلن غروسمان أنه لا يعرف ما إذا كان مقاتلو «حماس» من صنف الحيوانات (ويعفّ عن ذكر القائل، مجرم الحرب وزير جيش الاحتلال)، ولكنه واثق أنهم «لا ريب فقدوا إنسانيتهم». مَنْ هم، إذن، بعد فقدان اللصاقة «الإنسانية» كما يبدو أنه يمتلكها أو يحتكرها؟ بل السؤال الآخر الجدير بالطرح هو هذا: مَن هم أولئك الذين ينوب عنه بضمير الجماعة: «نتحرّك خلال هذه الليالي والنهارات مثل سائرين في نومنا؟ مَن سنكون وأيّ نوع من الكائنات الإنسانية بعد أن رأينا ما رأينا؟».
الفضول، المشروع تماماً، يقتضي ردّ أسئلته هذه، وتسعة أعشار الفقرات في مقالته العصماء البكائية، إلى واقعة مقتل ثلاثة محتجزين إسرائيليين بنيران أخوتهم في سلاح هذه الـ «إسرائيل» ذاتها التي يتغنى بها غروسمان؛ فالمنطق السليم يرجّح أنّ القتلة هنا لم يكونوا سائرين في نومهم، بل كانوا على شاكلة أوري… جدّ إسرائيليين!