عن فيلم التقرير
يبعث الفيلم الأميركي "التقرير" رسالةَ واضحةً لا تقف عند حدود الولايات المتحدة الأميركية، بل تتعداها إلى كل مناصري الحريات العامة وحقوق الإنسان وكرامته، وإلى كل الذين يقفون في مواجهة التعذيب والالتفاف على القيم الإنسانية.
يتناول الفيلم أحداث تشكيل لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي لجنة تحقيق في ممارسة جهاز المخابرات الأميركية أساليب التعذيب الوحشية في المعتقلات السرية، بعد أحداث "11 سبتمبر" في العام 2001، وفي ما سمّيت الحرب على الإرهاب، خلال حقبة الرئيس الأميركي، جورج دبليو بوش، وهي اللجنة التي قادها دانيل جونز، ليصل إلى نتائج مهمة ورئيسة، أنّ هذه الأساليب التي استخدمت مع معتقلي تنظيم القاعدة لم تكن، فقط، وحشية ومتناقضة مع القيم الأميركية المعلنة (الديمقراطية، وحقوق الإنسان)، بل عديمة الجدوى وغير فعالة، كما كانت تدّعي إدارة دبليو بوش.
ليست القضية في التقرير ونتائجه، وقد أُعلن ملخصه بعد معركة سياسية كبيرة في أروقة الإدارة الأميركية، خلال مرحلة الرئيس باراك أوباما، بين المخابرات الأميركية والكونغرس، فالنتيجة منشورة، لكنها (القضية) مرتبطة بالنقاش العميق والفلسفي والسياسي والقانوني، الذي تخلل عمل جونز ولجنته الصغيرة، قرابة خمسة أعوام، وما يطرحه ذلك من أسئلةٍ جوهريةٍ عن جدلية الأمن القومي والحريات العامة والشفافية والقيم، بين تيارٍ يرى في كل ما قامت به المخابرات من أفعال مبرّراً ومشروعاً وآخر يرى أنّ الشفافية وقول الحقيقة والاعتراف بالأخطاء هو القيمة الفضلى التي تحمي المجتمع، حقاً، من أعدائه الفعليين الذين ربما لا يكونون من يحاولون إيقاع الأذى أو الإرهاب به، بل أولئك الذين يستخدمون السلطة لتبرير أي شيءٍ بذريعة الأمن، وعبر استغلال تكتيكات إثارة الرعب والتخويف تجاه الرأي العام، وهو جدلٌ يتجاوز، بطبيعة الحال، قصة هذا الفيلم، إلى العالم بأسره.
بالضرورة، ليست الولايات المتحدة دولة فاضلة، وهنالك العديد مما تقوم به حمايةً لمصالحها
وأهدافها، يعد انتهاكاً لقيم المجتمعات الأخرى وحريتها وكرامتها، ويكفي حجم الضحايا الأبرياء الذين يسقطون في الحروب الأميركية، عبر استخدام الأسلحة الفتاكة. مع ذلك، من المهم هنا الانتباه إلى أهمية وجود محاسبة ومراقبة وتوازن سلطات داخل أي دولة، ما يمنع أي سلطةٍ أن تستفرد باستخدام الصلاحيات بلا حسيب أو رقيب، بذريعة الأمن أو الخشية من الأخطار الداخلية والخارجية، وفي ظني هذه هي الرسالة وذلك هو بيت القصيد!
هنا، تحديداً، القيمة الكبرى لهذا الفيلم لنا في العالم العربي الذي يواجه هذه الجدلية، أي الأمن والحرية، بدرجةٍ أكبر وأعمق وأخطر. وبتلك الحجج، أي الأمن القومي وحماية الدولة والمجتمع، تتغلغل الأجهزة الأمنية وتستبيح المحرّمات، وتنتهك حقوق الإنسان، وتتجاوز على الحريات العامة، من دون أن يكون في مؤسسات الدولة رقيبٌ أو حسيبٌ عليها، ما يضع المجتمعات والدول جميعاً تحت طائلة التخويف، وهو الاسم الحركي للسلطة الأمنية المطلقة، فكيف إذا تجاوزت قوة هذه السلطة الأمنية حدود الدولة نفسها، وعقدت تحالفاتٍ وشراكاتٍ مع الأجهزة الأمنية في الدول الأخرى، كما يقدّم برهان غليون في مقالته في "العربي الجديد" قبل أيام، فنصبح جميعاً تحت رحمة هذا العالم الأمني الذي يتحكّم ليس فقط بمصير معتقلين سياسيين، أو إرهابيين حقيقيين أو مزيفين، بل يمسك بتلابيب السياسات وازمة القوة.
ليس هذا الفيلم الأول الذي يعالج هذه الإشكالية، أو يفضح الممارسات الأميركية تحت غطاء الحرب على الإرهاب، فهنالك أفلام عديدة رصدت هذه السلوكيات، لكن السؤال الجوهري: كم هو عدد الأفلام العربية التي تناولت ما يحدث باسم مكافحة الإرهاب في العالم العربي، مثل السجون السرّية، أو ما يحدث من تعذيبٍ واستباحةٍ فيها، وهي (المعتقلات والسجون)، كما تخبرنا الوقائع، قد أصبحت أحد أهم مسارات تفريخ المتطرّفين والإرهابيين في العالم العربي، بل تحوّلت إلى بيزنس واستثمار من خلال ركوب هذه الموجة، وزجّ المعارضين السياسيين في السجون بذريعة محاربة الإرهاب والتطرّف.
تعيدنا الجدالات القيمة في الفيلم إلى جوهر المسألة، وأعني هنا معركة الديمقراطية في العالم العربي، فهي ليست مقتصرةً على انتخابات نيابية وحكومات برلمانية فقط، بل قيم وثقافة وتوازن حقيقي بين المؤسسات وفصل السلطات، وحريات عامة، وقدرة على المحاسبة والمساءلة ومنع السلطة المطلقة، فإذا كانت هنالك قضية حقيقية تستحق أن تكون رسالةً للفن فهي هذه، وإن كانت هنالك مجتمعات تسعى فعلاً إلى تحقيق الأمن، فإنّ أهم ركيزة له هو المساءلة والحرية وحقوق الإنسان وكرامته ومنع استبداد سلطةٍ ما برقاب العباد وبمصير البلاد.