عن القراءة الثانية والكتاب المباع
بِيْع الكتاب ولم تردنا معلومات تؤكد قراءته، بهذا لن نستطيع الخروج بنتيجة القراءة الثانية، بل إن أحداً لن يستطيع أن يجزم بتحقق القراءة الأولى، فكيف سنصدق ادعاءات الرواج والمتابعة والتفرد في التماس مع القارىء، ثم القول بأن الإعجاب قد «نال» من منجز ما، إذ يمكن لأحد المحللين للظواهر أن يطلعنا على حقيقة إعجاب الناس بنشاطات الكاتب الترويجية لكتابه، دون أن يعني هذا النشاط والحراك التوزيعي رواجاً قرائياً.
بقدر ما تقل هذه الأيام اعترافات الكتّاب بما لم يتقنوا معماره، بقدر ما تنعدم المراجعات ويكثر التخبط في الإصدارات اللاحقة، إننا نكاد لا نعثر على صوت يقول برغبة الحذف والاختصار والتكثيف، لما تم إطلاقه في أسواق الكتب والمعاينة، كأن الكتابة لا يشوبها النقص والاستعجال، وهنا لابد أن نسأل عن انطفاء جذوة التداول المعرفي والشعوري، في أغلب ما يتم زجه في المكتبات، بمجرد انتهاء حفلات التوقيع والترويج للكتاب الجديد.
لقد تكلمنا عن لفظة الكتاب الجديد، لكننا نقصد الجديد من الالتقاطات والصور، الجديد من الاستدعاءات لمناطق حياتية، يمكن لوصفها والعرض لها بأدوات الشعر والكتابة عموما، أن يُخرج الخطوات عن ممشاها اليومي، أن يحرفها بمعنى الإخلال بمنظومة الاعتياد، وهنا يكمن الخوف من الكتابة وأثرها، هنا تصبح الكلمات أسلحة تستفز القارىء والرقيب معا.
كيف للحاضر أن يصبح محط أنظار المستقبل، المستقبل الذي هو حاضر الأجيال القادمة، إذ كيف سنضمن اندفاع الزمن إبداعيا إلى الامام، لا أن يظل القارىء حبيس منجزات ماضوية، مع الحفاظ على مكانة ما تم إنجازه والبناء فوقه، كمن يكمل درجات السلم الصاعدة أو الهابطة، في علّيات وأقبية عالم العقل والأحاسيس.
هناك تكاليف لاستهلاك البصر والمال والوقت، هناك من سوف يحاسبنا على رصد كل ذلك من أجل منح فرصة قرائية قد لا تتكرر، ثم علينا أن نتحمل هول الاتهامات للكتاب ولواقع الأدب عموما، هل يعني هذا منع ما يمكن أن نسميه بالمحاولة، بالطبع لا، لكن من يضمن لنا عودة هذا القارىء لما يمكن أن نسميه مسرح الكتابة.
إننا مطالبون بعلاج صدمة اللاجدوى المعرفية والشعورية، والتي يخرج بها القارىء من تجربة تمرير العين على كلمات مختلة التركيب، وفاقدة القدرة على الاستمالة والجذب. لنسأل عن مصادر الطمأنينة لكل من ينشر كتابا، أعني مصادر الخداع والمجاملات التي تدفع البعض للإعلان عن محاولات الكتابة، لم لا نسأل؟
اقتراح: جرّدوا كلماتكم في حدود الغرفة، مرروها على لسان تعرفون قدرته على تحديد الطعم وتقييمه، ثم لكم أن تخرجوا بها إلى الحديقة، وهكذا وهكذا، حتى تطمئنوا على قدرة الكلمات على الطيران، ولا بأس إن كان طيرانا منخفضا.
دعونا نختلف أو نتفق في الذي سنضيفه، وفي الذي ستحدثه تلك الإضافة من بناء وهدم، حينها لن نقول بضرورة مرور كتابة بعينها إلى حدود القراءة، سنكون متفقين على قدرة الكتابة في إعادة ترتيب طبقات الشعور والغرف الداخلية في عالم الأحلام واليقظة، حينها سوف لن نُصدم بأقوال القراءة الأولى، حتى القراءة الثانية ستصبح قصة متداولة دون أن يبرز لنا الشك والتكذيب، لأننا جميعاً سوف نتكلم عن لذة القراءة الثانية، وعن اكتشافاتها الحادة.
عن القدس العربي