عن العلاقة بين ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية

عن العلاقة بين ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية
الرابط المختصر

مع حلول منتصف الستينيات من القرن الماضي دخلت ما بعد الحداثة، وبشكل متزايد، إلى الأوساط الأكاديمية وأصبحت محورا مهما من محاور المؤتمرات والندوات والحلقات الدراسية في الجامعات الأوروبية والأمريكية البارزة. ظهرت ما بعد الحداثة داخل أروقة الجامعات تحت مصطلح ما بعد البنيوية. هذا المصطلح، تماما مثل مصطلح ما بعد الحداثة، لم يكن بعيدا عن الجدال والنقاش وإثارة إشكاليات عديدة غير قابلة للحسم والغلق النهائي. فقد طرحت الكثير من التساؤلات حول طبيعة وحدود وأبعاد ما بعد البنيوية. وفي حين اعتبرها البعض استمرارا طبيعيا للبنيوية وليس انقطاعا وتحولا في الإطار العقلي للبحث العلمي في العلوم الإنسانية، عدها البعض الآخر قطيعة معرفية شاملة مع الفكر البنيوي ورفضا لكل الأسس النظرية التي جاء بها هذا الفكر. وتحدث آخرون عن ما بعد بنيويات وليس ما بعد بنيوية واحدة، فملامح الحركة الفكرية ما بعد البنيوية في فرنسا تختلف عن النسخة الأمريكية من ما بعد البنيوية، وفي بريطانيا أخذت طابعا مختلفا عن فرنسا وأمريكا. غير أن المتفق عليه أن ما بعد البنيوية أنتجت نمطا من التفكير وطرق البحث لم تكن معروفة من قبل، وساهمت بشكل كبير في إثراء مختلف التخصصات في مجالات العلوم الإنسانية. وكان من أبرز مظاهرها انهيار الحدود والفواصل بين التخصصات المختلفة والتداخل الكبير في مجالات البحث العلمي بين علم اللغة وعلم النفس وعلم الاجتماع ونظرية المعرفة ودراسة التاريخ والأنثروبولوجيا والدراسات الحضارية.

تمثلت النقطة الحاسمة في تطور ما بعد البنيوية وانتشارها خارج فرنسا في المؤتمر الذي أقامته جامعة جون هوبكنز ببلتيمور في أمريكا عام 1966 تحت عنوان (لغات النقد وعلوم الإنسان) وحضره كل من لوسيان غولدمان وتزفتان تودوروف وجاك لاكان وجاك دريدا . قدم دريدا في هذا المؤتمر ورقته الشهيرة (البنية والدلالة واللعب في العلوم الإنسانية Structure, Sign, and Play in the Discourse of Human sciences)، ثم أتبعها بعد سنتين بمحاضرة في الجامعة الأمريكية نفسها، جون هوبكنز، حملت عنوان (نهاية الإنسانThe End of Man)، وفي عام 1971 قدم بحثه (التوقيع والحدث والسياق Signature, Event, Context) في جامعة مونتريال في كندا. قدمت هذه البحوث الهامة دريدا التفكيكي في أمريكا وحققت قطيعة معرفية مع بداياته الفينومينولوجية وجلبت معها الراديكالية الفكرية ونهاية الميتافيزيقيا مع تحرير للنزعة اللاـ إنسانية والانعطافة الكبيرة في الدراسات اللغوية. وضع مؤتمر جامعة جون هوبكنز الإطارالعام لما بعد البنيوية، رغم أن المصطلح لم يكن قد وُظف بعد، والتي جاءت على الصعيد الفلسفي رفضا لفينومينولوجيا سارتر وميرلوبونتي وتجاوزا للبنيوية واستمرارا لها، من خلال تحطيم مفهوم الذات والفاعل والأصل، في الوقت ذاته. ويرى بيتر بروكر أن ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة شريكان في نمط واحد، فهما "تطبيق نقدي مشترك لأفكار النظام والوحدة في اللغة والفن والذاتية. ويعتبر أنهما يضعان حدا للقواعد الثابتة القديمة ويزلزلان أسس الثوابت السياسية الراسخة. ويفترض أنهما تشتركان في أحساس عميق بالشك الوجودي". كما تلتقي ما بعد البنيوية مع ما بعد الحداثة في الاتجاه نحو التعدد والانفتاح واللامركزية وهي نزعات تقع على النقيض من الوحدة والتمركز في الحركة الحداثية.

تشير الباحثة تيلوتاما راجان (Tilottama Rajan)، الأستاذة في جامعة أونتاريو في كندا، إلى أن تفكيكية دريدا ظهرت منذ بداية الستينيات، بينما لم تعرف ما بعد البنيوية حتى نهايتها. وقد وُظف المصطلح في أمريكا للإشارة إلى النظرية الفرنسية بالتحديد، ولكن في فرنسا ذاتها كان يسود الاعتقاد بأن نشاط ما بعد البنيوية النظري يقع ضمن حقل البنيوية ولا يعد خروجا عليها. وترى راجان أن ما بعد البنيوية، بوصفها منهجا للتفكير والبحث العلمي، لم تظهر بعد عام 1968، ذلك أن جذورها كانت موجودة بالفعل في دراسات وأبحاث نشرت مع بداية الخمسينيات. وقد ظهرت نزعة ما بعد البنيوية عند جاك لاكان منذ عام 1953 وهو في أقصى مراحله البنيوية وذلك على الرغم أن معرفة الحدود الفاصلة بين البنيوية وما بعد البنيوية لم تتحدد حتى نهاية الستينيات، الفترة التي ابتعد فيها لاكان عن فينومينولوجيا سارتر واقترب من بنيوية شتراوس، وبدأ نقدا بنيويا للفينومينولوجيا. وظهرت بوادر ما بعد البنيوية في كتاب رولان بارت (الكتابة في درجة الصفر Writing Degree Zero) الصادر عام1953، والذي تناول فيه اللغة الشعرية بوصفها نشاطا منقطعا عن النزعة الإنسانية وقام بتفكيك القيم البرجوازية على أساس أنها عقبة أمام الأنثروبولوجيا البراغماتية، رغم أن التحول نحو ما بعد البنيوية لم يظهر جليا في دراسات بارت إلا مع نشر دراسته الشهيرة (موت المؤلف) في عام 1968. وظهرت اتجاهات فكرية مماثلة في كتابات آلن روب غرييه (Alain Robbe-Grille)، مثل كتابه (الطبيعة، والنزعة الإنسانية، والمأساة Nature, Humanism, Tragedy) الصادر عام 1958. في كتابه (النظرية الأدبية المعاصرة Reader’s Guide to Contemporary Literary Theory) يبحث رامان سلدن (Raman Selden) في العلاقة بين البنيوية وما بعد البنيوية. يقول سيلدن "تمخضت البنيوية عن "ما بعد البنيوية" في أواخر الستينيات على وجه التقريب. ويرى بعض المعلقين أن "ما بعد البنيوية" كانت بمثابة تطور لجوانب متضمنة في البنيوية نفسها، على نحو يمكن معه القول أن "ما بعد البنيوية " ليست سوى ثمرة لهذه الجوانب المتضمنة. غير أن هذا الرأي ليس مقنعا كل الإقناع، فمن الواضح أن "ما بعد البنيوية" تنقص من قدر الدعاوى العلمية للبنيوية. وإذا كانت البنيوية ذات نزعة بطولية في رغبتها في السيطرة على عالم العلامات التي يصنعها الإنسان، فإن "ما بعد البنيوية" تسخر من هذه النزعة وتهزأ من ادعاءاتها. ولكن سخرية "ما بعد البنيوية" من البنيوية هي نوع من التهكم الذاتي، فممثلوا "ما بعد البنيوية" هم بنيويون اكتشفوا خطأ طرائقهم على نحو مفاجئ". ويشير كل بروكر وجوليا كريستيفا إلى أن ما بعد البنيوية الفرنسية هي استمرار للاتجاهات النظرية البنيوية وللحداثة الأوربية من حيث أنها تنحى نفس المنحى الجمالي، ولم تحدث قطيعة معها. ويذهب هايسن إلى أن التداخل والتقاطع بين ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة يعد ظاهرة أشد وضوحا في الولايات المتحدة منها في فرنسا. وبذلك تكون ما بعد البنيوية في أمريكا قد أخذت طابعا أكثر راديكالية من نظيرتها الفرنسية. وبينما برزت البحوث والدراسات الأكاديمية ما بعد البنيوية في مجال علم الاجتماع والفلسفة وعلم النفس ونظرية المعرفة في فرنسا، تميزت الدراسات ما بعد البنيوية والتفكيكية في أمريكا باتجاهاتها الأدبية والنقدية الجمالية.

و يمكننا القول أن ما بعد البنيوية رفضت جميع الافتراضات الفكرية التي تقف عليها البنيوية، ومن أهمها وجود نظام داخلي في العالم، تعطينا البنيوية المفتاح للوصول إليه وإدراكه. وقد تأسست تلك الفكرة على نتائج أبحاث فرديناند دي سوسير في علم اللغة وليفي شتراوس في مجال الأنثربولوجيا. لقد كشف الاثنان عن نوع من النظام الداخلي يعمل خارج التاريخ ويحافظ على ثباته.

يقول دي سوسير بوجود نظام داخلي في كل لغة ينظم عملية التفاعل بين عناصر وأجزاء تلك اللغة. يمكن فهم آليات التواصل البشري اللغوي من خلال الثنائية المتقابلة اللغة/الكلام. ويقوم نظام اللغة على مفهوم العلامة، حيث تتكون العلامة من الدال/الكلمة والمدلول/المفهوم أو التصور الذهني، والذي يشير بدوره إلى الشيء في الخارج. ويعد ارتباط الدال بالمدلول في النظام اللغوي ارتباطا عشوائيا يتم التواطؤ والاتفاق عليه داخل المجتمع اللغوي. ويعمل هذا الاتفاق الضمني الاجتماعي على وضع مجموعة من القواعد والمعايير لتوظيف اللغة لضمان تحقق عملية الفهم والتواصل وعدم الوقوع في العشوائية المطلقة والفردية. وبذلك يتحقق نوع من الاستقرار النسبي للغة ولعمليات إنتاج وتداول المعنى. وتنظر البنيوية إلى اللغة بوصفها نظاما من العلامات يعمل على توفير ردود أفعال يمكن التبوء بها داخل المجتمع اللغوي الواحد.

أصبح مفهوم النظام هذا أساس الفكر البنيوي الذي بدأ يبحث عن أنظمة مشابهة داخل جميع الظواهر الثقافية والاجتماعية. فلكل ظاهرة مهما كان حقلها المعرفي نظام ينطوي على مجموعة من القواعد الداخلية المنظمة. ومهمة الباحث البنيوي هي الكشف عن ذلك النظام الداخلي، سواء كان موضوع البحث الأساطير القبلية أو الأنثربولوجيا أو عالم الأدب أو صناعة الإعلانات أو عالم الموضة والأزياء.

ما رفضته ما بعد البنيوية هو الانغلاق والصرامة النظرية للبنيوية، حيث أن لكل ظاهرة نظاماً، ولكل نظام قواعد محددة وصارمة لا تتغير بتغير الزمن أو السياق التاريخي والحضاري للظاهرة. فبالنسبة لليفي شتراوس وفلاديمير بروب ورولان بارت، في مرحلته البنيوية، لا يوجد عنصر اعتباطي داخل النظام. وهكذا يبدو أن الباحث يعرف مسبقا ما يبحث عنه في دراسته للظاهرة. وتنتقد ما بعد البنيوية نزعة البنيوية الوثوقية وعدم أخذها بعين الاعتبار إمكانية الصدفة والإبداع وغير المتوقع. وبالنسبة لما بعد البنيوية فإن الاختلاف واللامتوقع يحتل مكانة أكثر أهمية من التطابق والمتوقع.

أضف تعليقك