علم النفس عبر الشخصي واختبار التحول إلى عالم ما بعد العلمانية

علم النفس عبر الشخصي واختبار التحول إلى عالم ما بعد العلمانية
الرابط المختصر

احتل علم النفس عبر الشخصي مكانة بارزة في فكر ومواقف ما بعد العلمانية. لقد تميز علم النفس منذ نشأته في عصر الحداثة بارتكازه العميق على مجموعة من الافتراضات العلمانية. ولكنه يبدو اليوم وقد عبر الرحلة الشاقة من العلمانية إلى الروحانية.

 

إن هذه الرحلة الطويلة لعلم النفس من المادية إلى الروحانية اختصرها عالمان كبيران في سُني حياتهما: ستانيسلاف غروف وأبراهام ماسلو. بدأ كلا العالمين من أسس إلحادية، ولكن في سياق التزامها المهني بعلم النفس العلمي المعاصر، تقبلا في النهاية الروحانية بوصفها عنصرا أساسيا من الحياة الداخلية.

 

في عام 1992وضعت جمعية علم النفس عبر الشخصي هذا الوصف: "تطورت اليوم نظرة أكثر شمولية عن الطبيعة البشرية, تعترف بتفردنا الشخصي فضلا عن البعد عبر الشخصي, ذلك الشيء الذي يتجاوز (أنانا) الفردية ولكنه لا يزال جزءاً منّا. يوفر هذا التوجه نظرة موسعة عن القدرات الإنسانية, ويجمع بين التقييم الدقيق للشخصية والرؤية المؤكدة لطيف واسع من التنمية البشرية النفسية والروحية. وباعتماده على الملاحظات والممارسات المستوحاة من ثقافات عدة, فإن علم النفس عبر الشخصي يستمد علومه من علم النفس الحديث، والعلوم الإنسانية والإنسانيات، فضلا عن فروع الروحانية المعاصرة وتقاليد الحكمة". ولكن التعريف وجد انتقادات عديدة مما حدا بلاجوي وشابيرو إلى استعراض وتحليل أربعين تعريفا قبل أن يتمكنا من اقتراح ما وصفاه بأنه تعريف دقيق ومعاصر لعلم النفس عبر الشخصي استنادا إلى المفاهيم المشتركة في أغلب التعريفات والمواضيع:

 

"يهتم علم النفس عبر الشخصي بدراسة أعلى جهد(قدرة) بشري, مع الاعتراف وتفهم وإدراك حالات الوعي الروحية المتعالية والمتوحدة". وفي عصر ما بعد العلمانية لن يكون بمقدورنا الحديث عن علم النفس عبر الشخصي دون الإشارة إلى المساهمة الهائلة للعالم والمفكر والرائد المعاصر في هذا المجال كن ويلبر.

 

وضع ويلبر كتابه الأول (طيف الوعي) عام 1973 ولم يكن حينها قد تجاوز الخامسة والعشرين من العمر. وأعيدت طباعته أكثر من عشرين مرة وجاء في مقدمة الطبعة الأولى والتي كتبها جون وايت" يعد كتاب ( طيف الوعي) مقاربة نادرة قي دراسة الذات البشرية. إنه يوفق بين علم النفس والعلاج النفسي والسحر وأديان العالم. موظفا مفاهيم فيزيائية, وتحديدا الطيف الكهرومغناطيسي, ليوضح لنا أن الشخصية الإنسانية هي مستويات متعددة تعبر عن وعي واحد تماما كما أن الطيف الكهرومغناطيسي تعبير متعدد الحزم عن موجة كهرومغناطيسية واحدة".

 

يرمز الطيف في عنوان ويلبر إلى العقل الكوني الذي هو طيف من الوعي الذي يتراوح بين لاوعي كامل في احد طرفيه ثم ينتشر عبر مستويات مختلفة من الأنـَويـّة (Egoism) والوجودية وعبر الشخصية حتى يستكمل وعيه في الطرف الآخر من الطيف أو يحقق التنوير الكامل.

 

بعبارة أخرى وبهذه الطريقة فإن ويلبر يوحد كل نظريات علم النفس واتجاهاته في حقل واحد متوحد. يقودنا ذلك إلى نظرية فيزيائية أخرى نقلها ويلبر من الفيزياء إلى علم النفس إنها نظرية الحقل الموحد (the Unified Field). وفي الفيزياء طال انتظار العلماء لهذه النظرية التي توحد الطيف الكهرومغناطيسي والجاذبية والقوى النووية القوية والضعيفة في صيغة رياضية واحدة. لقد قضى آينشتاين السنوات الأخيرة من عمرة ساعيا خلف هذه الصيغة دون جدوى. ولكن ويلبر الشاب يقدم لنا نظرية الحقل الموحد في علم النفس ليدشن عصرا جديدا تماما كما فعلت نظريات آينشتاين في الفيزياء. هنا يوضح ويلبر أن علم النفس الغربي الذي ركز على بناء (أنا) تتمتع بالصحة كان مخطئا ومصيبا في آن, تماما كما علم النفس الشرقي الذي ركز على تنوير وعلو وفناء الأنا. إلا أن الوعي الذي وضع ويلبر طيفه وحزمه وحالاته يتسع ليشتمل على كل ما سبق.

 

أما الحزمة الأكثر إثارة في طيف الوعي الويلبري فهي تلك التي أطلق عليها المنطقة عبر الشخصية (Transpersonal zone), تلك الظلال الواقعة بين الوجودية والتنويرية حيث تحدث كل الظواهر الخارقة: الإدراك الحسي الفائق أو فوق الحسي (Extrasensory perception ESP), وخروج الروح من الجسد(Out-Of-Body Experiences), وعالم الأحلام. لم يكتشف ويلبر أيّا من هذه النظريات وكل ما فعله هو أنه حشرها ضمن طيفه الواسع لأن العقل الكوني ـ يقول ويلبر ـ يتسع لكل هذا.

 

ليس من الغريب إذا ـ كما يقول مارك كينغ ـ أن يكون ويلبر معجبا بأرسطو أو أن تكون عبارة (كل شيء) ضمن عناوين كتبه الأخيرة: (تاريخ مختصر عن كل شيء, 1996) و(زواج العقل والروح, 1998) و(نظرية في كل شيء, 2000).

 

وعلى الرغم من أن لبّ نظريات وأفكار ويلبر هو التكامل الذي يتخطى مجال علم النفس عبر الشخصي إلا أننا يمكن أن نمنحه بسهولةـ والكلام مرة أخرى لكنغ ـ لقبا ثالثا هو ما بعد العلماني. بل أن كينغ يرى في أعماله معالم بارزة في حقبة ما بعد العلمانية وربما واحدة من القوى الرئيسية التي ساهمت في الانتقال من العلمانية إلى ما بعد العلمانية.

 

وما نريد أن نخلص إليه من حديثا عن ويلبر هو تلك العلاقات التي نسجها ويلبر بين المتفاضلات السابقة, بين الشرق والغرب وبين العقل والروح وبين ما قبل العلمانية والعلمانية, الأمر الذي أهله ليكون مرشدا لجيل من ما بعد العلمانيين الجدد موظفا علم النفس عبر الشخصي بوصفه مادة التلاقي وجسر التواصل بين المتفاضلات السابقة.

 

لم تحظ الروحانيات بأي شرعية فورية سواء في القطاع الأكاديمي أو في مجال الرعاية الصحية السائدة في عصور الحداثة ويعمل علم النفس عبر الشخصي على إقحامها تدريجيا في المجال الصحي والأكاديمي. وتعد فكرة ماسلو عن تحقيق الذات الرائجة في دراسات الإدارة الأكاديمية تراثا جيدا يمكن أن يبني عليه علم النفس عبر الشخصي, فضلا عن أنه يمكن أن يقترن بدراسات الوعي التي تحمل بدورها شرعية ضمنية عبر علوم الدماغ. وأخيرا وبوضوح شديد فإن علم النفس عبر الشخصي قد عاد إلى قواعده الأساسية في مجال علم النفس الذي اتسم بعلمانية حادة منذ نشوئه. ويمكن لنا القول بأن الروحانيات قد عثرت على ضالتها في أن تكون دراسة أكاديمية إن هي أثبت جدارتها في تدعيم النمو الشخصي والنجاح في مجالات الإدارة. إلا أن ذلك قد يتطلب تنازلها عن مزاعمها في أنها جزءاً من وظائف الدماغ لتقتصر على الوظائف النفسية وخصوصا في حقل علم النفس التقيمي. إن دمج الروحانيات في مجال علم النفس لازال في مراحل التجريب إلا أنه من المتوقع أن يحقق حضورا جيدا في السنوات القادمة. وبما أننا نحاول تحليل السياقات الثقافية الأوسع الذي قد يجسرها علم النفس عبر الشخصي, فسننتقل إلى نقطة أخرى وهي تجسيره الهوة بين الشرق والغرب. وهنا يحتل علم النفس عبر الشخصي مكانة فريدة نظرا إلى الإهمال المشين للشرق من قبل الفلاسفة الغربيين. ولكن الأمر لا يخلو من مخاطر وعوائق، ولا سيما إمكانية وصف نظم التفكير القديمة بمصطلحات نفسية حداثية.

 

أما السؤال الذي يطرح نفسه فهو كيف يمكن لعالم ما بعد العلمانية المعاصر أن يتكامل مع عالم ما قبل العلمانية وما هو دور علم النفس عبر الشخصي في هذا المجال تحديدا؟

 

تحتل الأديان في ما قبل العلمانية مكانة واضحة المعالم وإن كانت معرضة للخطر في الوقت الحاضر في المجتمع العلماني. إنها موجودة جزئيا بسبب التقاليد المتوارثة، ولكن السكوت عنها قائم على أساس أن حرية التعبير أكثر أهمية للعقل العلماني من رغبته في التخلص من الإقطاعية ومظاهرها الدينية والروحانية. وبتعبير كنج فإن الأديان ما قبل العلمانية هي بمثابة الذباب المنتشر تحت رادارات الثقافة الغربية، مُشَّكلة بذلك جيتوهات ثقافية يمكن النظر إليها من منظورات النظرية السوسيولوجية والأنثروبولوجية والنفسية والثقافية، ولكنها في نهاية المطاف إهانة للقيم العلمانية. أما الحقيقة التي لا مفر منها اليوم فهي أن علم النفس عبر الشخصي قد التحم مع الروحانيات الشرقية تحديدا ومع الروحانيات التي قمعت في الغرب مثل الأفلاطونية الحديثة والشامانية, فضلا عن روحانيات الديانات السائدة. ولهذا فإن السؤال عن كيفية تكامل أديان وروحانيات ما قبل العلمانية مع ما بعدها مبررا.

 

ولكن هذه ليست كل الحكاية إذ أن دور علم النفس عبر الشخصي ما زال بحاجة إلى تدعيم وإثبات قبل أن ينتصب جسرا على نهر العلمانية ليصل ما قبلها بما بعدها لا سيما أن ما بعد العلمانية لازالت تتخذ مواقف عدائية من العلمانية ومن روحانيات ما قبل العلمانية على حد سواء.

 

والطريقة الأخرى لتناول ما بعد العلمانية وعلم النفس عبر الشخصي هو مجال التدخل العلاجي إذ لا قيمة لكل النظريات النفسية إذا ما عجزت عن حل مشكلات الأفراد والوصول بهم إلى الصحة النفسية السليمة. وهنا تكمن أهمية الموضوع ذلك أن حلبة السباق الأبرز هي الممارسة والتطبيق والسؤال المطروح هل أن علم النفس عبر الشخصي يتعامل مع أزمات روحانية أم أزمات نفسية ؟ ربما كان هذا السؤال البسيط هو اختبار التحول إلى عالم ما بعد العلمانية.

 
* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1-   أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4-  فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني.

أضف تعليقك