طبول الأدب العِبْري وناياته
لا نحتاج الى مناسبة بعينها كي نعود بين وقت وآخر وبمعنى أدق بين عدوان وآخر الى الأدب العبري، وملفاته المعقدة سواء تلك التي تحاول الاغتسال من الاثم وما يقابلها من التحريض ومحاولة حشو التاريخ في الاسطورة، فالاحتلال بحدّ ذاته مناسبة مستمرة، وكذلك مقاومته.
وقد اخترت في هذا السياق كاتبين يهوديين، احدهما عُرِف على نطاق واسع بسبب شهرة احدى قصصه وهي خربة خزعة التي اثار تحويلها الى عمل درامي في التلفزيون الاسرائيلي سجالا واسعا، والآخر عبّر عن موقفه المضادّ للصهيونية بتأملات مكثّفة، تقطّرت منها عبارات بينها ما يحتاج الى تفكيك متمهل خصوصا وان قراءته لاسبينوزا وتأثره بما تعرض له شحنه بما يمكن تسميته مضادات يهودية للصهيونية، التي ادى استمرار نفوذها وادبياتها الى توقف اسرائيل عند طور العذراء ان صحّ لنا ان نستعير من علم الاحياء هذا المصطلح، فهي تجمّدت عند مرحلة الحركة ولم تتحول الى دولة بالمعنى الحديث او حتى وفق التعريف الكلاسيكي، وهناك مقالة مهمة في هذا السياق لعدنان ابو عودة كتبت عام 1980 بعنوان « المعضلة الاسرائيلية بين عقلانية الدولة وعاطفية الحركة « نشرت في كتابه اشكاليات الحرب والسلام في الشرق الاوسط، توصل فيها الى ان مفهوم الحركة هو الاكثر انطباقا ودلالة على اسرائيل.
يزهار سيملانسكي قدمه لأول مرة بالعربية الكاتب توفيق فياض وذلك من خلال ترجمة قصته خربة خزعة، في وقت كان لا بد فيه لمن يجازف بمثل هذه الترجمة ان يقدم لها بعدّة احترازات، خشية من التأويل السّلبي وسوء الفهم، لأن فلسفة النّعامة هي التي سادت في بواكير الصراع العربي الصهيوني، الى ان ظهر شعار اعرف عدوّك بعد حرب حزيران لكن من يريد ان يفهم عدوه عليه اولا ان يفهم ذاته، وتلك مسألة اخرى، لكن ما قدّمه بعد ذلك د. رشاد الشامي وهو من ابرز المشتغلين في الاسرائيليات لم يقتصر على اعادة ترجمة خربة خزعة بل اشتمل على دراسة مستفيضة عن يزهار سيملانسكي، وعن اعماله الاخرى وخصوصا القصص الثلاث التي صدرت مع خربة خزعة لكنها لم تنل شهرتها!
يروي يزهار سيملانسكي حكاية قد تكون تقليدية عن تدمير قرية فلسطينية وطرد اهلها، فذلك مشهد متكرر في عام ،1948 لكن ما ليس تقليديا هو الشعور بالذنب ازاء عملية تدمير القرية، والرموز التي وردت في القصة، رغم انها احداث واقعية لكنها تقبل التصعيد على مستوى الرمز، منها المهر الذي يعجز افراد الفرقة المكلفة بتدمير القرية عن اصابته، فهو يثير اعجابهم برشاقته، بينما تبارزوا في التصويب على حمار حتى تهرأ جسده من الرصاص، وما يرشح من هذه القصة على امتداد احداثها هو مركب مشوب بعدة التباسات، فثمة ادانة صامتة، لكن ما يقابلها استمرار في ممارسة الجريمة، وثمة مشاهد منها مشهد العجوز الأعزل الذي يتلهى برعبه جنود ساديون بحيث يطلقون الرصاص حوله، فتكون استجابة جسدية وعلى نحو مباشر كالتقيؤ، وعدم القدرة على ضبط انفعالات الجسد.
كائنات القرية تقدم كما لو انها بدائية وتحكمها الغرائز فقط، لكن أهم ما تقوله القصة على نحو غير مباشر هو ان ارض فلسطين لم تكن مهجورة او ارضا بلا سكان كما حاولت الاطروحة الصهيونية تصوير المسألة، لهذا فهي من الجانب الوثائقي تدحض هذه الاطروحة، وتضيف الى ذلك الطرد القسري، رغم ان ردود الافعال النقدية على قصة سيملانسكي كانت مُتفاوتة ومنها ما هو مُثير كالنقد الذي قدّمه عاموس عوز لها فقد قال ان القصة تخلو من شخصيات عربية وموضوعها ليس صراعا بين العرب والاسرائيليين، بقدر ما هو صراع اسرائيلي ـ اسرائيلي، انه صراع يدور بين شاب محارب من اسرائيل وبين نفسه الممزقة، ويقول ايضا ان هذا الشاب وهو مؤلف القصة ثمرة ممتازة للتعليم على القيم الصهيونية الانسانية، لكنه عانى من شرخ عميق بين مجموعة القيم التي تربى عليها وبين اله الحرب، وكان د. رشاد الشامي في كتابه المهمّ «الفلسطينيون والاحساس الزائف بالذنب في الادب الاسرائيلي» قد استعرض اراء العديد من النقاد الاسرائيليين حول هذه القصة، وقصص اخرى منها «قبل الخروج» و»الأسير» و»قافلة منتصف الليل».
* * * * * * * *
بعد اجتياح بيروت عام 1982 رصد كاتب عربي آخر متخصص في الأدب العبري هو د. سيد البحراوي ظاهرة جديدة في هذا الادب اطلق عليها ظاهرة الاحزان الوضعية، وكان بعض الجنود ممن شاركوا في الاجتياح قد كتبوا يوميات او محاولات ادبية تعبّر عن شكوك عميقة في جدوى الحرب، وتزامن ذلك مع اهتمام عربي ولأول مرة بقصائد عبرية خرجت من المدار التقليدي للشعر الصهيوني، ومنها قصائد يهودا أميحاي التي تبدو في ظاهرها انسانية، لكنها تمرر رؤى صهيونية بنعومة فائقة، وحين قدّم الراحل احمد بهاء الدين لأول مرة رواية «طوبى للخائفين» من تأليف يائيل ديان، فوجىء بعض القراء العرب بأن هناك نقدا داخليا يوشك ان يكون جذريا للتربويات الصهيونية التي تحذر من الخوف لكنها تنتهي الى عكس اهدافها، فهل كانت قصة يزهار سيملانسكي نقطة تحول في الأدب العبري مقابل اشعار اميحاي الذي حلم بوطن بسيط ولم يعزف على وتر حاييم بياليك وابناء جيله المسكونين والمهجوسين بالميثولوجيا!
ليس مهما ان يكون ذلك دقيقا، فالأمر متروك للمشتغلين في تحقيب الأدب ومراحله، لكن ما انتهى اليه د . رشاد الشامي هو ان ما يمكن تسميته الذاكرة الآثمة او الاحساس الزائف بالذنب يدفعنا الى استقصاء عشرات الكتب في الأدب وغيره من المجالات.
* * * * * * * * *
الكاتب شلومو رايخ في تأملاته يجهر برأي واضح حول شرور الصهيونية، وثمة عبارات له تقبل الكثير من التأويل بسبب غناها المعرفي وما يشحنها من احساس اخلاقي ومناخات اسبينوزية، ولأنه يستحق وقفة مطولة، فسأكتفي باختيار بعض تأملاته ومنها:
*نحن الشعب الوحيد الذي حاكوا على صدره نجمة، ولا يزال بعضهم يشك في اصله السماوي.
*لم تكن اسرائيل ذات يوم حالة دولية، انها حالة نفسية.
*ان افضل البهلوانات في اسرائيل يعرف ان الشبكة فلسطينية الصنع.
*داخل كل يهودي يغفو صهيوني لا يلبث طويلا حتى ينام.
*اليهودي يسجل اسمه على اية لائحة انتظار شرط ان يكون الانتظار اطول من اللائحة.
*ثقافة اليهود تعود الى زمن سحيق الى درجة ان انطباعا بعدم وصولها حتى الان يسود الاذهان.
*يقسّم اليهود الى فئتين، فئة لا تخاف من اي شيء وفئة تخاف من كل شيء، والسواد الاعظم يخاف من كل شيء ومن لا شيء.
*ترضى اسرائيل بحكومة فلسطينية في المنفى، شرط ان تبقى فيه.
*الطبول تُصنع من من الشجر المقطوع.
*من نصر الى نصر تركض اسرائيل نحو هزيمتها
عن القدس العربي