صوت محمود درويش وذاكرته بالإسبانيّة

صوت محمود درويش وذاكرته بالإسبانيّة
الرابط المختصر

حوار مع لوث غوميث غارثيا ، الحائزة على الجائزة الوطنية في الترجمة عن ترجمتها " لكتاب محمود درويش في حضرة الغياب".

حاورتْها لاورا كاسييس 21/تشرين الثاني2012.

منذ أكثر من  عقد من الزّمن ولوث غوميث غراثيّا(مدريد1967) تنقل للقرّاء الإسبان عمل الشاعر الفلسطيني محمود درويش. وإلى جانب تدريسها الفكرَ الإسلامي  في جامعة مدريد المستقلّة، تحول شغفها بنقل الشّعر العربي إلى  الإسبانيّة إلى مهنتها الثانية . وقد حازت عن ترجمتها الأخيرة " في حضرة الغياب"( السيرة الذاتية الشعرية لمحمود درويش) الجائزة الوطنية في الترجمة).

 تحاورنا معها حول مهنة التّرجمة وصعوباتها، و الشعر العربي وبعض أسمائه البارزة، وحول التّلاقي والقطيعة بين ثقافات المتوسط..

·       نريد، في المقام الأول أن نتعرّف من خلالك على كتاب" في حضرة الغياب"، ماذا بوسعك أن تحكي لنا عمّا يمكن أن يعثىر عليه القارئ حين يغوص في هذا الكتاب؟

حسنا! إنّه سيجد فيه،  أوّل ما يجد، صعوبة بالغة. من الطبيعي في حالة الكتاب المُترجم، أن تُعزى الصعوبة إلى المُترجِم. ومن العدل أيضا أن يُنسب إلىه العجز لحظة إنجازه التّرجمة. ولكن في هذه الحالة، أقول على مسؤوليّتي- إذ ليس من المحبّذ قول ذلك-إنّ لهذا الكتاب صعوبةً خاصّة. إذ تُعالج فيه موضوعات متنوعّة: الهويّة، والمنفى، والذّاكرة، وفلسطين، والحب، والموت والتاريخ..كما أنّه يتنوع في أساليبه الكتابية،  حيث يجمع بين الشعر والنّثر، وفي الشعر ثمّة غنائية وملحميّة ورثائية... فضلا  عن تأثره بلغة القرآن وحفره العميق في اللغة. إنّه يتجاوز الأجناس الأدبيّة على اختلافها، ومن هنا صعوبته وكثافته، يصعب الغوص في هذا الكتاب. إنه صعب على القارئ العربي، وصعب على الترجمة بالقدر ذاته. ولكنّه، فيما وراء هذه الصعوبات، وبفضلها تحديدا، يبدو لي كتابا رائعا. فهو يجمع باقتدار كبير بين كثير من الأشياء. صحيح أنّه يمثّل السيرة الذاتية الشعرية لمحمود درويش لكنّه يحمل ما هو أكثر من ذلك، ففيه تتداخل حكايته الشخصيّة مع الحكاية الجمعيّة، التي هي حكاية النّكبة، الحكاية الفلسطينية، وحتى العربية، منذ العام 1948. لهذه الأسباب مجتمعةً أجده كتابا مهمّا جدا. كما أنّ الصعوبة التي أتحدّث عنها لا ينبغي أن تُدرك  بوصفها عقبة يستحيل تجاوزها: الفصول الأولى معقّدة وغريبة لكنّ القارئ المعتاد إلى حد ما على الحكاية الفلسطينية سيتعرف شيئا فشيئا إلى أحداثها الأساسيّة.

·       وكيف كانت عمليّة التّرجمة ، مع كلّ هذه الصعوبات، ؟

لقد ترجمتُ هذا الكتاب لأنّ محمود درويش أصرّ بنفسه على ذلك، لم يُكن قد تُرجم بعدُ إلى الفرنسيّة التي تُرجمت إليها معظم أعماله، والنّسخة الأمريكيّة صدرت بالتزامن مع ترجمتي. كان درويش معتادا، حين يصدر كتابا، على الإتصال ببعض الأشخاص ليطلب رأيهم ، وبعد أن أصدر في حضرة الغيابّ، ومن بعده أثر الفراشة، اتصل بي عدّة مرّات، وأتذكّر أنني قلت له:" إنه كتاب استثنائيّ لكنّه صعب حقّا، لا أعرف كيف أترجمه، لا أعرف كيف ستكون نتيجته بالإسبانية، وكيف سيفهمه القارئ"...وغيرها من الإسئلة التي تشغل المترجم. كان الأمر أسهل بكثير مع أثر الفراشة، فهو كتاب أطوع وأيسر منالا، يضمّ قصائد نثريّة أقرب إلى يوميّات شعريّة، أمّا ترجمة في "حضرة الغياب" فقد بدت لي جنوناً  لأنّه كتاب صعب أصلا بالعربية كما ذكرتُ سابقا. لكنني مع هذا شرعت في المهمّة، ولحسن الحظّ أنني، حتى قبيل وفاة درويش، كنت أعوّل في هذا الكتاب والكتب السابقة على تفهّمه ، كنت أروي له الصعوبات، الجمّةَ أحياناً، التي أواجهها في أثناء التّرجمة، ولكنّه كان يقول لي دوماً" استمرّي في الترجمة والمهم أن يكون وقعُها جيدا". وهكذا حاولت، وبتكرار المحاولة مرة بعد مرّة بدأ الكتاب يتّخذ شكلا ومعنى. وعليّ أن أقول إنه ما من قصيدة من قصائده التي ترجمتُها سابقا قد حظيت بما حظيت به من مراجعاتٍ كلُّ واحدة من صفحات "في حضرة الغياب".

·       منذ عقدين من الزمان تقريباً وأنت تقرّبين عمل درويش إلى القارئ بالإسبانيّة. كيف كانت مسيرتك كمترجمة لكتبه؟

كنت غارقة في عالم الجامعة والبحث مع طلابي، الذين يتخذون مسارا آخر(فهم يدرسون على وجه الخصوص  الإيديولوجيات العربية في القرن العشرين، والإسلامويّة) وبدأتُ الترجمة لأنني أردت أن أستعيد صلتي بما أحببته دوماً وأثار اهتمامي كثيرا: الشعر العربي كما الإسباني. كنت شغوفة بالشعر مع أنني لست شاعرة، وقد كان عبر الوساطة بين اللّغات أن عثرتُ على طريقة لاستعادة هذا الميل نحو الشعر، في تلك اللحظة، كان درويش واحدا من أكثر من قرأت وأحببت من الكتّاب. كنت قد قرأته ، كما ذهبت إلى حفل لمارسيل خليفة في تونس وقد أدهشني كثيرا...وهكذا بدأت بترجمة أشعاره.

كان أول ما ترجمتُ له كتاب" لماذا تركت الحصان وحيدا"  الذي بدأتُ العمل به عام1996. شرعتُ أترجمه وأتعارك مع الناشرين كي أخرجه إلى النور. كانت المسألة معقدّة لكنّ الكتاب نُشر أخيرا في دار  كاتيدرا  في العام2000، بعنوان آخر اخترته هو "مصرع العنقاء" وهو لأحدى قصائد الكتاب. وبعد صدوره، كان أول سؤال وُجّهه إليّ العارفون بالعربية يتعلّق بالعنوان.

لم أكن أعرف درويش معرفة شخصيّة في تلك الفترة. اتصلت به للمرّة الأولى (حيث نجحت بعد سلسلة من الأحداث في أن يكون الاتصال به مباشرا وليس عن طريق المجلّة التي كان يديرها( الكرمل) وكان اختيار العنوان تحديدا من بين الأسئلة الأولى التي طُرحت في مكالماتنا الهاتفية. قلت له إن عنوان "لماذا تركت الحصان وحيدا" لا يُفهم المراد منه باللغة القشتالية،  وإنه يحيل إلى فيلم من أفلام الغرب الأمريكيّة ولا يقول لنا في اسبانيا أيّ شيء يتعلّق بفلسطين. وإن صورة "العنقاء" بالمقابل تحمل كثيرا من القوة في المخيّلة الغربية وكثيرا من الإحالات...التزم بصمت (على طربقته الخاصّة) يشي بالرّضا، بل إنني أعتقد أن العنوان أعجبه. بعدها بست سنوات، ،وفي أثناء حواره مع مارك ستراند في مدريد ، أتى على  ذكر الكتاب بالعربية ولكن بالعنوان الذي اخترته "مصرع العنقاء". في الواقع فإنّ صعوبات النشر قد ظهرت مع أول كتبه فقط ، إذ نشرتُ في كاتيدرا الكتاب التالي، حالة حصار، ثم انتقلتُ إلى بري-تكستوس حيث صدرت مختارات من شعره وديوان "كزهر اللوز أو أبعد".

·       يقول درويش في هذا الكتاب".إن فتنة الأسطورة تجعلك نهباً لانتقاء الاستعارات.." هذا يأخذنا إلى التفكير بواحدة من أهم الصعوبات التي تظهر في أثناء ترحمة كتابةٍ من هذا النوع، حيث المرجعياتُ الثقافيّة تحضر بقوة. كيف تواجهين هذا التحدي: أن تنقلي إلى القارئ مخيّلة ليست له؟ هل يعتريك دوار أمام احتمالية أن تغيب عنك بعض المرجعيّات، أو بعض القاتيح؟

من المؤكّد أنّه توجد في بعض الأحيان  كثير من المرجعيات التي لا نعرفها والتي يجب البحث حولها. ففي هذا الكتاب على سبيل المثال، كان تمّة مرجعيّات معروفة لديّ: كلّ ما يأتي من المخيلة اليهومسيحية، والإسلاميّة وتاريخ فلسطين... بينما كنت أجهل البعض الآخر منها و لزمنى كثير من الوقت لفهمها. فمثلا: ثمّة كثير من الإحالات إلى الكنعانيين، قمت بالبحث في تاريخهم وأسلوب حياتهم وحرفهم وآلهتهم. ومع ذلك شعرت بأنني لم أعثر على ما يكفي، وأن بعض التواريخ كانت تغيب عنّي، وفجأة، وبينما كنت أقرأ شلومو ساند، وهو مؤرّخ اسرئيلي كبير، وجدت سطورا يحيل بها إلى فقرة من التوراة  لها علاقة بالكنعانيين، فتذكّرت أنّني قد ترجمت شيئا من هذا القبيل في كتاب درويش "...أنا الذي لم أرض بهم جيرانا أو عبيداً، لا حطابين ولا سقاة ماء".  كما تذكّرت أنني ترجمت ذات مرة عن ميناحيم بيغين أنّه كان يقول:" لا تجعلْنا حطابين ولا سقاة ماء" . وكلمة "azacanes" مشتقة من العربية وتعني سقاة الماء. "فانتبهتُ إلى أنني، حتى وإن كنت أجهل المرجعيّة، فإنّ لغة درويش كانت هي الخيط الذي أوصلني إليها. وكثيرا ما يحدث هذا الأمر، اللغة هي التي تقودُكِ. اعتدنا أعطاء أهميّة لترجمة المرجعيات من أجل تجاوز ما يسمّى المسافة الثقافيّة، وننسى أنّ ثمّة ثقافة مشتركة. يريدون أن يوقعونا في خديعة الحاجز الثقافي. إنني أدافع دوماً عن النقيض:  ثمّة ثقافة مشتركة ذات صلة بالمتوسط. أنا من سيغوبيا، من عمق قشتالة، وقد تأخرّت في فهم ذلك. إنّ الأمر يتعلق بمزيج من العناصر الماديّة وغير الماديّة. لي تكوين ديكارتي وماركسي، ولا يشكل اللّاماديّ جزءا من خطابي، لكنّ اللغة العربية بذاتها والثقافة المشتركة هما خير حليفيْن في تبديد هذه المسافة الثقافيّة المزعومة. دون أن نقلّل من أهميّة التوثيق.

·       ومع ذلك ففي هذه اللغة نفسها يكمن جزء من المشكلة. نستشهد بنصّ آخر من الكتاب: "لم تعد تسألُ: ماذا أكتبُ؟، بل كيف أكتب؟" وفي موضع آخر:" /قد يعجبني المعنى/ ولا يعجبني/ لكنني أدمنت إيقاع الأغاني". ينبغي لنا، في الترجمة -وترجمة الشعر خصوصا-، أن نأخذ في الحسبان، الإيقاع والصوت، والشفوية، صوت الكاتب بالطّبع. هل في هذا ترشدنا اللغة أيضا؟

نمرّ في أثناء التّرجمة بمقاطع تسود فيها ظلال المعنى، والصوتيات، إنها واحدة من أصعب الإشكاليّات في اللغة العربية. فحين نكون عاكفين على ترجمة شاعر عربي ونصطدم بالتّلاعب اللفظي يكون الأمر مرعبا. عند درويش أشياء بهذا المعنى، لكنّه ليس من المغرمين كثيرا بهذا النوع من الأساليب، ليس بالقدر الذي نجده عند أدونيس أو أنسي الحاج مثلا.

وأعتقد أنّه كي نترجم أشياء من هذا القبيل، يكون من الضروري في كثير من الأحيان -فضلا عن وضع الهوامش في أسفل الصّفحة- أن نتواصل مع مرجعيات القارئ باللغة الأصل: فإذا وجد أحد القرّاء باللغة العربية في النّص ما يذكّره بالموت، أوالميلاد، أو الدين، أو أية حالة أخرى، فإنّ هذا الإحساس يجب أن يُنقلَ إلى الإسبانيّة. وكما ذكرتُ سابقا، فإنّ الأمر ليس مستحيلا إلى هذا الحد الذي قد يبدو عليه، في ظلّ هذه الثقافة المشتركة التي تعاش فيها كثير من الأشياء بالطريقة ذاتها، وبوسع اللغة أن تجعلها أقرب فأقرب. ذات مرة قال لي درويش في أحد حواراتنا: "أنت لساني بالإسبانيّة". في العربيّة هنالك مترادفتان تترجمان كلمة" لينغوا": لغة التي تشير إلى اللغوي، ولسان التي تشير إلى الكلام، إلى اللسان كعضلة، إلى ما هو متكلّم. وقد اختار هذه الكلمة الثانية (لسان) لأنّ الترجمة هي ما يمكّنك من الكلام في لغة أخرى، أن تقول بها الأشياء فعلا.

·       ولكنْ من زاوية أكثر براغماتية، ودون الابتعاد عن مهنة الترجمة، ، كيف تنظرين إلى حال ترجمة الأعمال المكتوبة بالعربية إلى الإسبانيّة؟

ثمّة من كتبوا في هذه المسألة، فقد كانت مثار اهتمام  بعض الأساتذة مثل ميغيل بيريث كانيادا وغونثالو فيرنانديث باريّا، وسوف أوجز الموضوع بطريقتي الخاصّة :

كان هنالك ثلاث محطّات( أتمنى أن نصل إلى الرّابعة، لكنّي أعتقد أنّنا ما زلنا في الثالثة) في ترجمة الأدب العربي في إسبانيا في الحقبة المعاصرة (منذ المرحلة الانتقالية، كما يصفها الناس عندنا). بوسعنا القول إن المرحلة الأولى امتدت إلى ما قبل منح جائزة نوبل لنجيب محفوظ عام 1988، حيث كانت الترجمة عن العربية أمرا اختياريا عند أشخاص أقدموا عليها بدافع الشغف أو المبادرة الشخصية. لم تكن دور النشر التجارية آنذاك مستعدّة لنشر الأدب العربي، وكان ثمّة اعتقاد أنه لن يصل إلى الإسبانيين، ولن يثير اهتمامهم. وبعد نوبل محفوظ، بدأ الأدب العربي يُكتشف ويحقق تقدما ما، وفي هذه المرحلة الثانية نُشرت العديد من الترجمات، وأخذ الاهتمام بالأدب العربي يزيد ويجد صدى في دور النشر،إلّا أنّه، بعد انتهاء هذه الموجة، عدنا لنواجه  عقدة النشر لعدد محدّد جدا من الكتاّب، حتى بدا وكأن الأدب العربي لا يتعدّاهم.

والحقيقة أن الذنب يقع في هذا الجزء علينا نحن المتخصّصين، لأننا لم نعرف كيف نصل إلى النّاشرين. نقوم بالترجمة لكنّ هذا وحده لا يكفي، ومن الضروري القول إنه كان ينقصنا في إسبانيا الدّعم المؤسسي لنشر اللغة العربية، لم يكن ثمّة اهتمام حقيقي للترويج لها. لنأخذ مثلا الوكالة الإسبانية للتعاون الدولي، أو بالطبع، "لاكاسا أرابي"(البيت العربي)، التي ركزت عملها على الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولكنها أهملت الأدب كثيرا. وفي كلّ الأحوال يجب توجيه النقد الشديد لمستوى هذا الدعم المؤسسي على قِلّته. فقد أدت مؤسسة (آسيد)  مثلا خدمة بسيطة لنشر الأدب العربي  ولكن بأغلفة ردئية وتوزيع سيء. منذ أن بدأتُ أترجم درويش كنت أعرف أن ذلك لا يعني أن أترجمه على أفضل وجه فقط بل أن أوفّر طريقة لائقة لنشره أيضا ، وهذا يتطلّب إخراجه من إطار(الاختياري والنّضالي) ووضعه في أكبر دور النشر الشعرية. وبهذا المعنى فإن كاتيدرا، العريقىة رغم صغرها، ومن ثم بري -تيكستوس كانتا طوق النّجاة الذي أتاح لقارئ الشعر الإسباني أن يقرأ درويش في إطاره الحقيقي: إطار الشعر العالمي في القرن العشرين.

·       وفي هذا الإطار العالمي، من المؤكد أنّ أعمال درويش هي من أكثر الأعمال ترجمة وقراءة خارج الدول الناطقة بالعربية. هل تعتقدين أن عمله، بما يحمل من سمات خاصة، تحوّل إلى نوع من "المثال" لما ينتظره القارئ حين يقرأ الشعر العربي؟

أتصور أنّكِ تقصدين بذلك القراءة  السيّاسيّة. إنّ أحد العوامل التي أثرت على تلقّي الشعر العربي والثقافة العربية على وجه العموم هو قراءتها سياسيّا. مما لا شكّ فيه أنّ التاريخ العربي في القرن العشرين  تاريخ سياسيّ بصورة تراجيدية، مطبوع بمصطلحات الثورة، والثورة المضادة، والعالم الثالث، والنضال...لكنني أحاول أن أبيّن أنّ الأدب العربي، وبالتالي الشعر العربي، عالميان، صحيح أن لهما تلك الصبغة السياسية ، لكنّها ليست بأكثر حدّة ولا كثافة ولا خصوصية مما هو الحال في الآداب والثقافات الأخرى. وعلى سبيل المقارنة ،  فإنّ الشعر  العربي في السنوات الأربعين الأخيرة، كي لا نذهب أبعد في الزّمن، ليس أكثر سياسيّةَ من الشعر الإيبيرو-أمريكي في الفترة ذاتها. ما الذي يحدث إذن؟ الذي يحدث هو أننا ،نحن القرّاء من الغرب، لا نستطيع الاقتراب من هذا الشعر إلاّ من زاوية نظر سياسية ، وليس ثقافيّة أبدا.  إنّها الصورة النمظيّىة التي نحن غارقون بها، والتي تمثّل السياسةُ فيها أو غيابها  أو تشوهاتها كل شيء. من وجهة نظري  كشحص مطّلع على إيديولوجيا العالم العربي وبُناه السياسية، يمكن أن يبدو لي هذا الوضع طبيعيّا، لكن يجب علينا أن نعيد النّظر فيما يمكن أن نفهمه من كلمة (سياسي): السياسة  أيضا إبداع، وثقافة، والسياسة تقدّميّة. حين نقرأ درويش قراءة سياسية ضيقة نكون مخطئين. نعم يمكنني أن أوافق على أنّ شعر درويش شعر سياسي إذا كان هذا يعني أنه يعالج موضوعات مثل الهوية والعلاقة بين المحلي والعالمي، والمثال الإنساني. فهذا بالطبع سياسي، لكنّه ليس سمة عربيّة ، ولا غارقا في الخصوصيّة ولا منتقصاً لقيمة أدبه. وباحتصار، فإنه يمكن قراءة درويش في المقام الأول من منطلق درويشي أو فلسطيني أو عربي بطبيعة الحال وحتى من منطلق متوسطيّ. ولكن، إذا كان درويش شاعرا كبيرا، كما أرى، فإن هذه الجوانب كلّها تتداخل وتسمح بقراءة عالميّة لأعماله. وإذا كان شعره سياسيا فلن يكونه إلا بهذا المعنى. إنّ الاجتزاء لا يكف عن أن يكون ممارسة استشراقية حين يوضَع في خدمةِ جدليةِ ( الأعلى/الأدنى) الأبدية.

      إلى جانب "في حضرة الغياب"، صدرت لك حديثا ترجمة كتاب" دقيقة تأخر عن الواقع" [1]للّبناني عباس بيضون(عن دار نشر (باسو روتو 2012). هل ثمّة ما هو مشترك بين هذين الكاتبين؟ ما الدافع الذي يحملك على ترجمة كتاب إلى الإسبانية، ما الذي يوقظ فيك هذا الاهتمام؟

في الترجمة عموما يسأل المرء نفسه" لمن أترجم"  لأنّ القراءة بالعربية أمرٌ  والترجمة أمر آخر. و قطعا تقولين لنفسكِ " في إسبانيا الحالية حيث نحن، مع الديون، وصرف الموظفين، وهذه الحكومة النّاهبة، لماذا نترجم هذا الشعر؟ حسنا، نعم أعتقد أنّه من الضروري ترجمته، ولا أنطلق في ذلك من حاجة شخصيّة، فلست ممن يدافعون برومانسيّةٍ عن فكرة" النزعة العربية" أو  عن "أندلس أسطوري"، ليس هذا طرحي ولا أميل إليه، بل وأجده السبب في كثير من المغالطات. ولكنني أؤمن، عموما، بالعبور الثقافي ، وأحاول أن أسلّط الَضوء على هذا الأمر عبر التّرجمة. حين ترجمتُ عبّاس بيضون بعد ترجمتي درويش، لاحظت أنهما لا يتشابهان في شئ وأنّ أمرا ما يجمعهما في الوقت ذاته . أعتقد أنهما يتشابهان في تجاوزهما الإطار العربي وهما أكثر شاعرين عربيين يثيران اهتمامي ، لكنّ بيضون تواصل-من لبنان- مع الأدب الأوروبي فيما لم يكن درويش شديد الصّلة به. وقد شكل هذا الأمر تحديا لي كمترجمة.

  أخيرا نودّ أن نسألكِ نصيحة أدبية: أي الأعمال تقترحين على من يريد الدّخول إلى الأدب العربي، لمن يرغب في التّعمّق في هذه الثقافة التي -كما نقول- يجمعنا بها المتوسط ويفرّقنا عنها في الوقت ذاته؟

سأقترح ثلاثة أعمال معروفة وسأشرح السبب في ذلك: لكلّ من يريد فهم البُنى الأدبية والثقافية والإيديولوجية والسياسية والتاريخية للعالم العربي المعاصر، يأتي في المقام الأول عمل روائي أساسي يمكن قراءته في الأطر التي ذَكرتُ جميعا، ألا وهو أولاد حارتنا لنجيب محفوط. أعتقد أنّ هذا العمل يلخّص بصورة ممتازة قوّة النزعة التوحيديّة، المدمّرة أحيانا.

وهنالك ،في المقام الثاني، عمل ينتمي إلى الاتجاه النقيض، إذ يقطع الصلة مع البنى البطرياركية، ليس في مسائل الجنس والجندرية فقط بل في المسائل اللغوية أيضا، وهو "حكاية زهرة" لحنان الشيخ.

وأمّا الرواية الثالثة التي اقترحها، فهي "باب الشمس"، لإلياس خوري.، وهي من أكثر الروايات إدهاشا حول تجربة الشعب الفلسطيني.

هذه هي  الأعمال الثلاثة التي أقترح قراءتها وفقا للمرجعية المتوسطية للمسألة، ولكنْ يبقى غائبا عنها عمل أساسي، هو مدن الملح لعبد الرحمن منيف، إنها رواية عن البترول وعن التحول الذي جرّه على شبه الجزيرة العربية والخليج. قد تكون  الروايةَ التي ينبغي قراءتها من أجل فهم مستقبل العالم العربي، الذي يبدو أنّه ينتقل من المتوسط إلى الخليج!