صالح علماني: المترجم الذي برتبة كولونيل

صالح علماني: المترجم الذي برتبة كولونيل
الرابط المختصر

 

 

(وهل ظننتِ أن المترجم أمين جداً حدّ ألّا يتواجد في مترجماته، صدقيني أنا موجود في كل ترجماتي، أسلوب المترجم يفرض نفسه على النص، من يعرفني جيداً من أصدقائي يعرفون أين أتواجد في مترجماتي)*صالح علماني /حديث لأحلام الزعيم

 

 

قبو التُرجمان

صورة نادرة منشورة على شبكة الإنترنت تُظهر طاولة واطئة في غرفة لم تعرفها كاميرات التلفزة ولا أقلام الصحافيين إلا ما ندر، يواصل عليها الترجمان الأبهى في تاريخ النقل من الإسبانية إلى العربية عملهُ دون أن يُحدثَ قلمه صريراً على الورق ولن يأبه إن حادثه أحدهم أو إن أهمله، هو تُرجمانٌ قائم بذاتهِ، والحكمة عنده وليدة الصمت، والإتقان سيكون وليد الظل، أكثر من ربع قرن سيواصل “علماني” نقلهُ المقدس دون أن يسمح لأحد أن يقطع عليه، إلى أن جاءت الحرب، والحرب قاطعة طريق بالفطرة.

 

 

علماني في صباح السبت

السبت، الخامس والعشرون من آب صباحاً من عام2012، أفاق المترجم صالح علماني وقرأ في بريده على موقع التواصل الاجتماعي- فيسبوك- رسالتي التالية:

-          صباح الخير، لو تفضلت بالإجابة على عدة أسئلة لي بغرض كتابة مقال عنك.

تأخر الرد لخمس دقائق ثم أضاءت أيقونة الرسائل عندي وكانت الرسالة:

-          (عزيزي عمّار، يسعدني ذلك، ولكنني الآن مُهجّر من بيتي وأقيم منذ ثاني أيام العيد عند أقارب، أرجو أن أتمكن من ذلك عندما أعود إلى بيتي).

-           سنصلي لك ولكل مهاجر، وسنصلي لكل إنسان يحمل زوّادتهُ ويظل يرحل

-          كن بخير أستاذ صالح وأنا آسف بالفعل، علَّ الأزمة تزول.

-           أشكر تفهمك أستاذ عمار، وإن شاء لله شدة وتزول ويرجع الجميع إلى بيوتهم أو إلى ما تبقى من بيوتهم. (إلى ما تبقى..) هكذا أطلق خراب الحرب الدائرة في ضواحي دمشق رصاصة متقنة التصويب على وقت هذا الترجمان غير المنقطع في ترجمات بكرٍ لم يسبقه إليها أحد، على أن الحروب هي لازمة ظلت تعيد تكرار حضورها من حين لحين في حياته.

 

 

 

الحرب الأولى

 

وصلت الشاحنة التي تقل العائلة المنكوبة والخارجة بفعل القذائف والرصاص على ترشيحا في فلسطين إلى الشمال حيث مدينة حمص السورية، وهناك في بهو مدرسة قديمة وفي الثاني من شهر فبراير لعام 1949 أنجبت زوجة اللاجئ الأميّ المدعو “عمر علماني” مولوداً سيسمونه فيما بعد “صالح” والشيء الأهم وغير المعروف عن نشأتي – يقول هذا الطفل الذي كبر وصار ترجماناً – “أن والدي الراحل كان حكاءً بارعاً، ونحن أطفال كنا نتشاجر مع أطفال أقرباء أو جيران لنا عندما يذهب للسهر لديهم، نتشاجر أيضاً أين سيسهر أبي في ليالي الشتاء، لأن الجميع لا يريد أن يفقد متعة الجلوس إليه والإستماع إلى قصصه وحكاياته وأحاديثه، وهو مجرد فلاح أميّ، تعلم كتابة اسمه وعمره 87 سنة، كان عنده 87 سنة عندما بدأ يكتب اسمه (عمر) وكان غاية في السعادة، لكنه حكّاء وراوية مذهل بالفطرة، ممكن يكون لهذا تأثير على حبي للغة وإدراك إمكانيات التعبير أكثر، ممكن إضافة إلى القراءات المبكرة وولعي الشديد بالقراءة”*2

 

 

الحرب الثانية

 

ولاحقاً وبعد إكمال الدراسة الثانوية سيترك “علماني” حي الحجر الأسود ذي الإمتداد غير الطبيعي لمخيم اليرموك، إلى مدريد لدراسة الطب، ستقع حرب تشرين 73 وسينقطع معها تمويل دراستهِ من قبل الأهل فيضطر إلى العمل في الميناء ليوفر تكاليف دراسة تخصصه الجديد “الأدب الإسباني” هنا سيتحول بحث هذا الترجمان المتخم بالهجرات من البحث في تفاصيل الجسد إلى البحث في اللغة، وسيعود بشهادة “أدب اسباني” إلى سوريا، سيتذكر بعد ذلك رشاد أبو شاور هذه الأماسي الطويلة التي أعقبت إقامة علماني في الحجر الأسود إذ يرى أن الترجمان مُقلٌ في الحديث عن نفسه:

-(صديقي صالح علماني، الذي عشت وإيّاه جيراناً لسنوات في (زقاق) ضيّق بدخلة هواؤها قليل، موحلة شتاءً، مغبرّةً صيفاً، في شقتين طالما تبادلنا الحديث وأكواب الشاي وفناجين القهوة على شرفتيهما المختنقتين بمبانٍ فوضويّة، أُنشئت على أراض زراعيّة، في موقع هو امتداد لمخيّم اليرموك، قرب دمشق، اسمه (الحجر السود)

 

 

“أن تكون مترجماً مهماً أفضل من أن تكون روائياً سيئاً”

 

من كان بمقدوره آنذاك أن يتكهن أن الشاب الفلسطيني المتسكع في ضواحي برشلونة بعد محاضرات الأدب الإسباني والآخذ على عاتقهِ بترجمة مقررات المجلس الوطني الفلسطيني لرفاق شيوعيين اسبان، إنه إنما بنقله الكلمات العربية إلى اللغة الإسبانية ليتم نشرها لاحقاً في مجلة اسبانية يشرف عليها الحزب الشيوعي الإسباني، سيصير الترجمان الرقمَ الصعب، حسناً لم يكن لأحد أن يتكهن بذلك عامها، لكن مغامرةً أولى سيقوم بها صالح علماني بعد أن التقى صديقا له في مقهى ببرشلونة أهداه على إثرها رواية مائة عام من العزلة للكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، ستفتح خياله على فتنة السرد ألعجائبي، وسيقوم بترجمة أول فصلين منها مأخوذاً بها، لكنه سيتوقف ليباشر في ترجمة “ليس لدى الكولونيل من يكاتبه” ويبعث بها بعد ذلك إلى بيروت، وهناك إذ يقرأ الناقد “حسام الخطيب” الترجمة سيلفت النظر”بأن شاباً فلسطينياً يترجم أدباً مجهولاً لقراء العربية”.

 

 

 

“هذه الملاحظة لعبت دورا كبيرا في حسم أمري لصالح الترجمة إلى درجة أنني مزقت مخطوط رواية كنت قد بدأت بكتابتها وقلت لنفسي:

- أن تكون مترجماً مهماً أفضل من أن تكون روائياً سيئاً.”

بعد ذلك بدأت رحلته في النقل المقدس من شجر الإسبانية إلى ملكوت العربية بمباركة الكولونيل الذي لا يكاتبه أحد.

 

 

درويش يدعو لتأميم علماني

 

في حين كان الشاعر الفلسطيني “محمود درويش يتابع عمله كمحرر في مجلة شؤون فلسطينية وقعت تحت يديه نسخة لأشعار “رافئيل البيرتي” بتوقيع المترجم صالح علماني، وإذ أدهشت الترجمة الشاعر سيقوم وعلى الفور بالطلب من الشاعر أحمد دحبور أن يخبر علماني بنية المجلة نشر بعض من هذه الأشعار المترجمة وسيعلق درويش بعدها بإعجاب:

-”هذا الرجل ثروة وطنية ينبغي تأميمها”.

 

 

الولوج تماماً

 

ما يناهز التسعة والتسعين كتاباً، وبجهد يبلغ العشرة ساعات يومياً هي حصيلة ما تم ترجمته من الإسبانية إلى العربية بخيال ولسان الترجمان الفرد الجموع صالح علماني، في حقول شتى؛ الرواية، الشعر، مختارات شعرية، مسرحيات، روايات للأطفال، روايات وثائقية لــ أدولفو ولتش، قصص قصيرة، دراسات، دراسات نقدية من مثل نيرودا لأبيرتو كوستي \مقالات \مذكرات \وصولاً إلى كتب تراثية وكلاسيكية مثل الديكاميرون لبوكاشيو، البوبول فو (أو كتاب المجلس) الكتاب المقدس لقبائل الكيتشي ـ مايا وحتى ورشات السيناريو “نزوة القص المباركة، كيف تحكي حكاية، كتابا ماركيز، كتب تاريخ مثل “تاريخ الحضارات القديمة ما قبل الكولومبية، لاوريت سيجورنه، أدب الرحلة ككتاب الرحلة من سيلان إلى دمشق، أدولفو ريفادنييرا الصادر عن دار المدى 2008، مشروع ترجمات لن نكون مغاليين إن قلنا إن مؤسسات ودول قائمة عجزت عن مجاراته، كل ذلك أنجزه فرداً “صالح علماني”.

 

خبايا الترجمات

 

مُستأنِساً بالأربع آلاف كلمة المُشتركة في الأصل اللغوي بين اللغة العربية والإسبانية يَفتحُ التُرجمان العبارة على العبارةِ ويتفحصها في أكثر من قراءةٍ، واحدةٌ بالإسبانية وتلحقها ثانيةٌ بالإسبانية ومن ثم ثالثة فرابعة، فخامسة، ثم يبدأُ ينقلُ بصبرٍ وأناةٍ، وبعدها يجلس ليقارن الأصل بالنقل.

على أن المرحلة التي تسبق هذه المرحلة هي الأكثر أهميةً، فمن خلال تقديم “علماني” لمُترجَمه “الديكاميرون” رائعة الإيطالي “جيوفاني بوكاشيو” نرى أيَّ عملٍ دقيق ودؤوب هو عمل الترجمة، فمن قراءة المرحلة التي كُتب بها العمل إلى البحث تفصيلاً في حياة المؤلف – لدرجة ذكر بعض الأساطير التي تتعلق بولادته – إلى أهم معلميه الذين تأثر بهم، مُعرجاً على المرحلة الحضارية التي حضنت ولادة هذا العمل – بداية عصر النهضة في أوروبا– يستطيع التُرجمان أن يمسك بأي تفصيل ليفيده في روح الترجمة، ويظهر من مقدمة علماني “للديكاميرون – المكتوبة بالعامية الإيطالية والمترجمة عن الاسبانية – أن الترجمان قد قرأ عن العمل وظروف مؤلفه وعصره أكثر من عدد المرات التي قرأ فيها الكتاب نفسه ، بل يمكن القول ومن خلال عرض علماني للكتاب أنه اطلع على جميع ترجمات هذا العمل، بل والمتفرق منها من بدايات القرن الماضي وحتى منتصفه ، وأشار بكل هدوء إلى مواطن الزلل في عمل المترجمين السابقين عليه – زمناً – وموجهاً في نهاية التقديم وبكل نبلٍ التحية والتكريم لهم على جهودهم في نقل العمل لقرّاء العربية.

ويشير علماني في محاضرة له في المعهد الفرنسي بحلب إلى مصاعب الترجمة فهي بحسب تعبيره ناشئة من “عدم الفهم الجيد للنص الأصلي، ومن جهة أخرى من عدم قدرة المترجم على التعبير بلغته الأصلية، وربما هذا ما يفسر لنا إصرار “علماني” على دراسة اللغة العربية في سوريا بعد عودته من اسبانيا.

 

 

عشت لأترجم

 

بعيداً عن بلدته “ترشيحا” وعلى طاولة واطئة، في بيت بأحد ضواحي دمشق سيواصل الترجمان الأبهى عمله بهدوء من جديد، في نقلٍ بكرٍ لم يجرِ على لسان عربي قبله، نقلٌ يفتح فيه الترجمان العبارة من الإسبانية على أختها في العربية ولا ينسى أن يُتبّلها بخياله، خيال المهاجر الذي شهد مناخ ثلاث قارات “آسيا، أوروبا، أمريكا الجنوبية”، خيالٌ يستحضره الترجمان وهو على أعتاب الستين من العمر مقارباً فيه عمل الروائي الكولومبي الأكثر فتنة “غابرييل غارسيا ماركيز” وسيكتب في وقت الفراغ القليل له، على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي “الفيسبوك” في ظهيرة الثالث من ديسمبر من عام 2010، الجملة الأكثر موائمةً لوصف مسيرته:

-”عشت لأترجم”.

 

قال

*”الترجمة أداة ديمقراطية، لأنها تساوي بين اللغات، لا توجد لغة منسية، أو لغة مهملة، أو لغة متفوقة، الترجمة تجعل جميع اللغات منفتحة على بعضها البعض، ولا حاجة لصاحب اللغة الضعيفة أن يتعلم لغة القوم، لأن الترجمة توفر له أن يقرأ ما يُكتب بلغة القوم.

 

*”الترجمة بدأت تتحول إلى جنس أدبي قائم بذاته، والمترجم صار يعتبر مؤلفاً للترجمة، كما تعرفه قوانين وأنظمة الملكية الفكرية”.

 

*معروف أن هناك كلمات عربية في اللغة الإسبانية لكن العدد حوالي أربعة آلاف كلمة، طبعا معاني هذه الكلمات لم يعد هو المعنى العربي الذي كان، وإنما اكتسب معاني ودلالات أخرى من خلال قرون من التعامل معها.

 

 

قالوا عنه :

*إننا نكاد أن نكون، اليوم، بفضل دأب وصبر وشغف صالح علماني، نتوافر على الأعمال الكاملة لأبرز كتّاب الرواية في أمريكا اللاتينية مثل ماركيز وماريو فارغاس يوسا وايزابيل الليندي، إضافة إلى أصوات أخرى أقل شهرة عالمياً مثل الفارو مويتس وغوليانو وغيرهما ممن فاتني ذكرهم.

وقد لاحظت، شخصيا، في أكثر من معرض عربي للكتاب، مثقفين وقراء يسألون دور النشر عن ترجمات جديدة لصالح علماني بصرف النظر عن موضوع الكتاب أو هويّة الكاتب، فإن لم تكن هذه هي علامة الجودة المسجلة فما عساها تكون؟

أمجد ناصر / القدس العربي

 

*”هذا الرجل ثروة وطنية ينبغي تأميمها”

محمود درويش

 

*أحسب أن المترجم العربي جدير بان يكرّم، وفي بالي عدد من المترجمين الجّادين المجتهدين، ولعلّ جيل صديقي صالح علماني بعد كّل ما قدّمه يستحق التكريم ونيل الجوائز أسوةً بالروائيين، والشعراء، والنقّاد، والقصاصين.

رشاد أبو شاور

 

 

* ترجماتها تصبّ جميعاً في مسار واحد، وتندرج ضمن مشروع ثقافي متكامل، بدأه منذ ثلاثة عقود، وقد وضع في حسبانه أن ينتهي إلى الرقم مئة، في سلسلة ترجماته المتواصلة. اليوم طوى الرقم 92، وها هو يقترب من نهاية مشروعه. كما لو أنّه ورشة متكاملة، وليس فرداً. من يعرف دأب هذا المترجم عن كثب، وعمله المتواصل لعشر ساعات يومياً، لن يصدّق مزاعمه عن وجود عشرات الكتب التي تنتظر دورها.

خليل صويلح

 

عن الدستور الأردنية