تأتي رواية «دبابة تحت شجرة عيد الميلاد» للروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله ثالثة «ثلاثية الأجراس» وأطولها، التي تضم أيضا «ظلال المفاتيح» و«سيرة عين» ضمن مشروع «الملهاة الفلسطينية». صدرت عام 2019 في بيروت، عن الدار العربية للعلوم ناشرون، في 510 صفحات، وتتكون الرواية من خمسة فصول: «ليالي الأنس، ليالي الصياد، ليالي الموت، ليالي الحقل، ليالي الميلاد» والفصل الأخير يحتل أكثر من نصف الرواية.
تتناول الرواية أحوال فلسطين بشكل عام وتحولاتها وأحداثها طوال 75 عاما؛ بدءا من الحرب العالمية الأولى ونهاية الحكم التركي، مرورا بالاستعمار الإنكليزي، والنكبة والنكسة وما تلاهما إلى نهاية الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1991، وكان مسرح أحداثها في القدس وبيت لحم، وبشكل رئيسي في بلدة بيت ساحور ذات الأغلبية المسيحية قرب القدس، وما تعرض له الأهالي من تهجير وتنكيل وتعذيب وتضييق وإرهاب واعتقال وقتل، وغيرها من فنون الوحشية الصهيونية النازية. ورصدت الرواية الحياة الاجتماعية والثقافية والنضالية في بيت ساحور، وتوق الإنسان فيها لممارسة حياته بشكل طبيعي، دون تضييق وسيطرة من المحتل الغاشم، الذي يعادي كل مظاهر الحياة والجمال والحب والإنسانية، فهي بالنسبة له حلال له محرمة على الفلسطيني أيا كان دينه أو أصله أو مدينته.
الاحتلال خطأ مطبعي
ولأن بيت ساحور تأخرت في المشاركة في الانتفاضة الفلسطينية التي بدأت في ديسمبر/كانون الأول 1987، أرادت أن تعوض ما فاتها، وأن تبدأ عصيانا مدنيا شاملا، فقاطعت المنتجات الصهيونية، وامتنعت عن دفع الضرائب وترخيص السيارات، وأعلنت الإضراب العام، فقوبلت بالعنف والتنكيل والتفتيش والمصادرة والسرقة والقتل والاعتقال، وغيرها مما تتفق عنه مخيلة العدو النازية. يقول المسن إسكندر «الاحتلال قبيح دائما، ليس عندنا فقط، بل في كل مكان، لكنّ في وجوده دائما شيئا عميقا من جوهر سخريات القدر، وإذا أراد الإنسان أن يواصل القتال، دون أن ييأس، فليس هناك أفضل من أن يرى أي محتل باعتباره خطأ مطبعيا فاحشا في كتاب الزمن، وإذا أراد أن ينتصر على الاحتلال، فإن عليه أن يتعامل معه باعتباره من سخريات القدر، لا باعتباره كابوسا؟». وتتناول هذه المقالة جزئية مؤثرة ونموذجية في المقاطعة الاقتصادية الفاعلة، وتوفير البدائل، في موضوع الحليب الطازج. قام أهالي بيت ساحور بزراعة أحواش بيوتهم وحواكيرهم، ليستغنوا عن منتوجات الاحتلال، لكن إسكندر؛ أحد وجهاء بيت ساحور رأى أن ذلك ليس كافيا، فاقترح على الأهالي شراء أبقار حلوب لتوفير الحليب لأطفالهم، ولما رأى استغراب ودهشة البعض، قال لهم: «هل تريدون أن تقنعوا أنفسكم أن أطفالنا الرضع، وأطفالنا الذين يرجمون جنود الاحتلال بالحجارة، سيكون عليهم كل صباح، أو في آخر كل نهار أن ينتظروا سيارات شركة تنوفا الإسرائيلية لكي تزودهم بالحليب؟ كيف سنستطيع أن نرجمهم وننتظر حليبهم؟» واتفقوا على شراء عدد من الأبقار الحوامل، بمساهمة الجميع، وتبرع كل منهم بما يكفل نجاح المشروع. وفعلا تم الشراء، وبدأ الإنتاج والضابط الصهيوني لا يدري سبب شراء الأبقار إلى أن جاءه الخبر اليقين؛ أنهم منذ ثلاثة أيام يجبرون شاحنات حليب شركة تنوفا على العودة بحمولتها كاملة، دون أن يكونوا مضطرين لإلقاء حجر واحد عليها.
الأبقار الإرهابية
بدأت عملية التضييق والبحث والتحقيق ووجدوا 18 بقرة، ونظموا لها ملفات وصورا، وطلب الضابط داود التخلص منها خلال 48 ساعة. واختفت البقرات عن عيون الجنود والعملاء، لكن الحليب استمر في الوصول إلى البيوت. وفي حيلة ذكية، طلبت اللجنة المسؤولية من الأهالي شواء اللحوم على شرفات منازلهم لمدة يومين لإيهام جنود العدو أنهم يشوون لحوم البقرات، لكن الضابط داود لم يصدق ولم يقتنع، «ولم يغفر لنفسه أن أفلت ثمانية عشر إرهابيا (بقرة) كانوا بين يديه، فالحليب يفيض ولا ينقص، ولا أدل على ذلك من أنه رأى بأم عينيه امرأة تدلق الحليب في إناء لسبع قطط وهي تقول لها «صحتين وعافية».
وبسبب التضييق والرصد وكثرة العملاء «لم يعد سهلا وصول حليب البقرات، كل لتر حليب كان يمكن أن يكلف أحد الشباب حياته، لكن الحليب لم ينقطع. عاهد الشباب أنفسهم أن لا يكون نقص الحليب هو السبب في بكاء أي طفل. كالطيور كانوا يتقافزون من سطح إلى سطح في ظلام الليل. وتحولت سطوح البيوت المتصلة، أو المتقاربة التي لا تحتاج إلا لقفزات، تحولت تلك السطوح إلى طرقات لهم».
لم يستطع العدو العثور على البقرات، ونجح أهالي بيت ساحور في إخفاء بقراتهم بعيدا عن أيدي العدو وعيونه وجواسيسه، وانتهت الجولة بانتصار بيت ساحور، بعد معاناة قاسية، وانتهاك العدو لكل الأعراف والقيم، وسرقته لكل شيء، لكنه أبدا لم يعثر على البقرات.
ذات مساء، امتلأت بيت ساحور بالأعراس، دون أن يعرف الضابط السبب، على الرغم من محاولاته وعملائه واتصالاته، وتلقى اتصالا من مسؤوله يسأله، فوعده أنه سيتقصى عن الأسباب، وقبل منتصف الليل جاءه الخبر اليقين؛ أن أعراس البلدة لأن بقرة ولدت عجلا، فغضب الضابط، لأن هذه يعني أن البقرات ما زالت موجودة في بيت ساحور، وإقامة الأعراس تحدٍ للسلطات، ومن المؤكد أن الأعراس كانت لإخفاء صوت معاناة البقرة في أثناء ولادتها ابتداء، واحتفالا ببقرة جديدة تزيد من غيض العدو.
وذات فجر، قاد الكابتن داود جنوده إلى شوارع بيت ساحور، وفي شارع داخلي «لاحظ شيئا ما أبيض أمام أحد البيوت، توقف، لم يكن رأى الأبيض بهذه النصاعة من قبل. خفق قلبه. تقدم جنديان بحذر، ببندقتهما الجاهزتين لإطلاق النار، ركل أحدهما البياض، انتشر على الأرض مغطيا مساحة واسعة من الشارع، صاح الجندي: لا خطر، حليب. فخفق قلب الكابتن أكثر، فهم يسخرون منه ببقراتهم، بحليبها». وكلما تقدم أكثر وجد عبوة حليب أمام البيوت «أشبه ما تكون بالشموع المضيئة وساطعة». جُنَّ جنون الضابط؛ فأهل بيت ساحور، يتحدونه، وهم «قادرون على إيصال الحليب لمن يحتاجه رغم كل الدوريات التي تجوب الشوارع. فانطلق الجنود يحطمون العبوات بركلها، بعضها كان يطير في الهواء قبل أن يرتطم بحائط أو درج أو أرضية الشارع قبل أن ينكسر، وفاحت رائحة الحليب، رائحة لا يكره الكابتن داود في الدنيا رائحة مثلها، منذ أن حاصرته الأبقار قبل 41 في تلك الحظيرة» يوم أن اضطر للاختباء في حظيرة أبقار، خوفا وهربا.
لم يستطع العدو العثور على البقرات، ونجح أهالي بيت ساحور في إخفاء بقراتهم بعيدا عن أيدي العدو وعيونه وجواسيسه، وانتهت الجولة بانتصار بيت ساحور، بعد معاناة قاسية، وانتهاك العدو لكل الأعراف والقيم، وسرقته لكل شيء، لكنه أبدا لم يعثر على البقرات.
لا مستحيل
وفي خاتمة الرواية يقول إسكندر، مفسرا سبب انتصار بلدة صغيرة على العدو وجيشه: «أنا شخصيا، أتعجبُ من نفسي، أتعجبُ من ابني، حفيدي، جارتي، جاري، ابن جاري، أقاربي، أتعجب من الذين كانوا يخرجون في مظاهرات من المسجد، ومن الذين يخرجون في مظاهرات من الكنيسة، ومن لقاء المظاهرتين، وتوحدهما في مظاهرة واحدة. لو قلت لي قبل الانتفاضة إننا سنفعل كل ما فعلناه، لقلت لك إن ذلك مستحيل، لكنني توصلت إلى نتيجة هي أن عليك أن تبدأ لكي تعرف أنك تستطيع، أما إذا لم تبدأ، فإن أبسط الأمور سيظل مستحيلا لأنك لم تحاول». وهذا ما أثبته «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، فقد برهن أن لا شيء مستحيلا على من يُريد، ويؤكد إرادته بالعمل الجاد والعزيمة والإصرار.
وبعد؛ فإن المقاطعة الاقتصادية سلاح مؤثر وقوي جدا، وقادر على أن يفرض شروطه إن حظي بالتأييد والالتزام من الجميع، سواء في وجه عدو أو سلطة غاشمة، أو شركة مستغلة، أو أي جهة ظالمة أيا كانت، وقد أثبتت الحقائق على الأرض في غير مكان نجاعة هذا السلاح، الذي أجبر الجهة المُقَاطَعَة على التراجع والخضوع ورفع راية الاستسلام، ويجب أن لا يقلل أحد من أهمية هذا السلاح وسيفه الحاد، فعندما يسود الظلم والتجبر والغطرسة والاستغلال، يجب أن يتخلى الكل عن شهواتهم وأنانيتهم وترفهم وكمالياتهم وحبهم للاستهلاك، خاصة في وجود بدائل كثيرة متاحة، وانتفاء الضرورة. وأكاد أجزم أن عدم الالتزام بالمقاطعة الاقتصادية، خاصة للعدو وداعميه بصراحة، لا تقل جرما عن الخيانة والعمالة، وتصب في دعم هذا العدو ليتطاول في وحشيته وعدوانه وإجرامه.