رَجُلٌ اسمُهُ غَسَّانْ كَنَفْاني
صباح يوم السبت الثامن من شهر تموز عام 1972 كانت الشمس مشرقة في سماء بيروت , وكان غسان كنفاني مع أفراد أسرته, زوجته الدنمركية آني, وولديهما فائز وليلى, وفائزة شقيقة غسان وابنتها لميس حسين نجم, وآمنة ياسين البطلة الحقيقية لرواية أم سعد التي كتبها غسان كنفاني سنة 1969.كانوا يشربون قهوة الصباح ويتبادلون أطراف الحديث كعادتهم . وقبل أن يغادر البيت متوجهاً إلى مكتبه في مجلة الهدف التي تصدر ها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة الحكيم جورج حبش. أصلح القطار الكهربائي لابنه فائز, وكان على لميس أن ترافق خالها إلى وسط العاصمة بيروت للمرّة الأولى منذ وصولها من الكويت. فقد كانت تُعدّ العدّة لزيارة أقربائها في بيروت. وكانت قبل حين قد فرحت لوصول خبر قبولها لدراسة الطب في جامعة عمّان عاصمة الأردن. لكنها لم تُفلح في الوصول إلى هناك أبداً . فما هي إلا دقيقتان على وداع غسان ولميس لأفراد الأسرة حتى دوّى انفجار مريع هزّ أركان البيت .
تَصِفُ أم سعد تلك الدقائق المرعبة من حياتها قائلة: كنتُ إلى جانب النافذة المطلة على الحديقة أحمل كوب الحليب وبجانبي آني، وفجأة دوّى انفجار رهيب، أوقع الكوب من يدي. تحطم زجاج النوافذ وتناثرت شظاياه في أرجاء البيت. أسرعتُ وسحبت آني كنفاني من تحت الزجاج المتناثر دون أن أدري حينها أن الزجاج تداخل في جسدي كله.هرولت دون وعي نحو الشارع. كان المشهد يدمي القلب, فقد استحالت سيارة غسان كنفاني الصغيرة إلى أشلاء متناثرة .حملتُ دثاراً لتغطية جسد لميس المشتعل بالنيران , ثم بحثت عن غسان فوجدته بين ألسنة النيران مفتوح العينين مقطوعاً من وسطه، إحدى قدميه داخل السيارة والأخرى تسلقت على شجرة زيتون قريبة، يده إلى جانب الحائط في حين لم أجد يده الثانية. بدأت أتفحصه، قلبه كان بادياً ينبضُ، والوجه وحده بقي سليماً تلوح من قسماته ابتسامة حزينة، لا أعرف كيف أتيتُ بكيس ورحتُ أجمع فيه أشلاء هذا الرجل الفلسطيني. و في مساء يوم الفاجعة قالت ليلى بنت غسان كنفاني لأمها:
ماما، سألتُ البابا أن يأخذني معه في السيارة لنشتري شوكولاته، لكنّه كان مشغولاً، فأعطاني لوحاً كان يحتفظ به في جيبه. ثم قبلني وطلب مني الرجوع إلى المنزل، جلستُ على درج بيتنا لآكل الشوكولاته، وحصل دويّ كبير. لكن يا ماما، لم تكن تلك غلطة بابا، إنَّ الإسرائيليين هم الذين وضعوا القنبلة في سيارته. فمن يكون هذا الفلسطيني الذي مزقت إسرائيل جسده بالمتفجرات ؟
وُلِد غسان كنفاني على عجَل
وُلِد غسان كنفاني في عكَّا على الساحل الفلسطيني من البحر الأبيض المتوسط في اليوم التاسع من شهر نيسان سنة 1936، وهو الوحيد بين أخوته الذي ولد في عكّا، أثناء عطلة الربيع المدرسية حيث كانت الأسرة تقضي معظم إجازتها هناك. والطريف في ولادة غسان كنفاني أنه وُلد على عجلٍ قبل أن تتمكن أمه من الوصول إلى سريرها ليولد على مهلٍ. كان في طفولته ضئيل الجسم، واسع العينين، جعد الشعر قليلاً، منزوياً، قليل الاختلاط بأترابه، يلعب مع الأولاد دون دويّ، يحرضهم أحياناً ولا يبدو عليه ذلك. دخل طفلاً إلى المدرسة في يافا وهناك تعلم بعض الكلمات الفرنسية.
قطعت الأحداث التي جرت في فلسطين تلك الأيام سير الحياة الطبيعي لأسرة غسان كنفاني. ففي أواخر عام 1947 بدأت الاشتباكات بين أهل فلسطين العرب واليهود المدعومين من الحركة الصهيونية العالمية. وكان أول هذه الاشتباكات في حيّ المنشية في يافا حيث كانت تسكن أسرة غسان كنفاني في منطقة تُدعى حمامات اليهود قريباً من شاطئ البحر. تعطلت المدارس، وانتقلت عائلة غسان كنفاني إلى عكّا ، وكانت مدينة عكّا قد خُصصت للسُكان العرب حسب خطة التقسيم التي أرستها الأمم المتحدة ، غير أن عكّا ، أسوة بالكثير من المدن والقرى الفلسطينية خضعت لاحتلال القوات الإسرائيلية، وهُجِّر سكانها بالقوة الجسدية والنفسية. وأُصيب عرب فلسطين آنذاك بالذعر الشديد بعد مجزرة دير ياسين . ويروي جاك دو رينير ممثّل الصليب الأحمر الدولي، في تقرير شاهد عيان: إن مائتين وأربعة وخمسين امرأة وطفلاً ورجلاً قد ذبحوا بوحشية وعن سابق عمدٍ، ورميت جثث الكثير منهم في إحدى الآبار.
وصفتْ السلطات الإسرائيلية الرسمية تلك المجزرة بالحادث . في الوقت الذي كان فيه قرويّو دير ياسين الأسرى الذين بقوا على قيد الحياة يُستعرضون عراةً أمام سكان الأحياء اليهودية في القدس لكي يبصقوا عليهم. فيما راحت السيارات المجهزة بمكبرات الصوت تجول القرى العربية معلنة أنه: إن لم تغادروا بيوتكم، فسوف يكون مصيركم كمصير أهل دير ياسين. وقعتْ المجزرة في التاسع من شهر نيسان سنة 1948 وصادف ذلك عيد ميلاد غسان كنفاني الثاني عشر ومذ ذاك لم يحتفل بعيد ميلاده قطّ.
غادرت عائلته عكاّ قُبيل الرابع عشر من أيار سنة 1948وكان ثمانمائة ألف عربي قد فروّا من الإرهاب الإسرائيلي في هجرة جماعية , يتقدمهم الأطفال والنساء، وبقي البعض من الرجال كي يحرسوا قراهم وبلداتهم. استأجر أعمام غسان كنفاني حافلة كبيرة وضعت فيها الأمتعة وجلست فوقها مجموعة من الأُسر، ومنها عائلة غسان كنفاني . حمل الجميع معهم مفاتيح بيوتهم واتجهوا صوب لبنان إلى بلدة الغازية قُبيل مدينة صيدا بقليل. حيث سكنوا قريباً من الحدود كي يكونوا بين أوائل العائدين إلى منازلهم بعد انتهاء القتال، على نحو ما نصَّ عليه قرار الأمم المتحدة بصدد اللاجئين الفلسطينيين، وهو القرار رقم 194، الفقرة الثالثة الصادر في الحادي عشر من كانون الأول عام 1948 ولكن مثل هذا القرار لم يُنفّذ، فقد منعت السلطات الإسرائيلية الفلسطينيين العرب من العودة. لقد أرادوا الوطن، لا شعبه، وكانت مثل هذه الرغبة كامنة منذ بداية إنشائهم دولة إسرائيل.
عاش غسان كنفاني على أرض فلسطين اثنا عشر عاماً وبضعة أيام فقط، ومع ذلك كانت فلسطين هاجسه الدائم حتى يوم استشهاده بعيداً عنها.كانت رحلة الهجرة عن أرض الوطن من أهم الأحداث التي أثرت في حياة غسان كنفاني الأدبية, إذ بعد عشر سنوات ـ وكان مقيماً في الكويت ـ رواها في قصة من أجمل قصصه " أرض البرتقال الحزين" وأطلق هذا الاسم على إحدى مجموعاته القصصية سنة1963.
نصف ليرة أعادت غسان كنفاني فرحاً إلى البيت
مكثت عائلة غسان كنفاني حوالي الشهر في جنوب لبنان. استأجرت بيتاً في أعلى التل التي تقع عليه قرية الغازية ولم يكن لدى العائلة أي مال، فأبوه كان قد وضع كلّ ماله في البناء، بل إنه لم يسكن في بيته الذي أَنجز بناؤه في يافا. كان من عادة عائلة غسان كنفاني أن تقضي فصل الصيف من كل سنة في منطقة الزبداني السورية ـ شأن الكثير من العائلات الفلسطينية تلك الأيام ـ فذهبت عائلة غسان كنفاني بالقطار إلى حلب ذات يوم شديد البرد، ومنها ارتحلت إلى الزبداني.
لمّا وجدت العائلة أن البعد عن فلسطين أمر قد يطول، نزلت إلى الشام من أجل العمل. عمل أفرادها في مهن لا تتلاءم و مركز الأب الاجتماعي السابق ، فقد كان محامياً لامعاً في فلسطين، درَس بمعهد الحقوق في القدس ونال شهادته سنة 1929 وعاد إلى عكّا ليتزوج ابنة أسرة ميسورة ومعروفة، ومن ثم يشد الرحال إلى مدينة يافا حيث مكان العمل أرحب، وليبني مستقبله هناك. كافح وزوجته تَشدّ أزره وتشاركه السرّا ء والضرّا ء ، وقد نجح . وكان يترافع في قضايا معظمها وطنية، خاصة أثناء ثورات فلسطين ضد الاحتلال البريطاني . وقد اعتقل مراراً من قبل قوات الاحتلال . كان من عادة هذا الأب تدوين مذكراته يوماً بيوم وكانت هذه هي أعزّ ما يحتفظ به من متع الحياة، وينقلها معه حيثما حل أو ارتحل، فقد كان فريداً بين أبناء جيله، وكان هذا الرجل العصامي صاحب الآراء المتميزة مثلاً وقدوة. وقد كان له أكبر الأثر في حياة أبنائه .
كان غسان كنفاني في الثالثة عشرة من عمره آنذاك، وكان أخوه غازي يكبره بعامين، وأخته فائزة تكبره بستة أعوام . وقد كان لأخته تأثيراً هاماً في حياته الشخصية والأدبية . وقد أكملت فائزة دراستها الثانوية ، فأنجزت الثانوية العامة ثم عملت مدرسة في إحدى القرى السورية، وصارت تنفق المال على عائلتها.
كان غسان وأخوه غازي يذهبان إلى المدارس الرسمية في دمشق، ويقومان في أوقات فراغهما بأعمال تُعينهُما على الرّزق. ومنها مهنة " العرض حالجي " وهي من المهن التي ما تزال تُمارس إلى اليوم، يقوم أحد المتعلمين بالجلوس أمام باب المحكمة ومساعدة الناس الأميين في كتابة طلبات رسمية أو مراسلات شخصية أو "عرض حالة ما " ومن هنا جاءت اسم " العرض حالجي " .وذات يوم اشترى غازي ، أو استأجر آلة كاتبة صغيرة ، وكان قد تعلم في يافا استعمال مثل هذه الآلة . وصار غازي وغسان يذهبان إلى الشام ، الأول يحمل الآلة الكاتبة والثاني يحمل كرسياً وطاولة، وراحا يكتبان للناس الأُميين طلباتهم لقاء قروش قليلة. في تلك الأيام جاء أحد الرجال وطلب من العرض حالجيين أن يكتبوا له عنوان أهله باللغة الانكليزية عجز الجميع عن القيام بذلك، إذ ذاك تقدّم غازي وغسان وكتبا له ما يريد، سُـرّ الرجل ونقدهما نصف ليرة سورية، فما كان من غازي وغسان إلا أن حملا الآلة الكاتبة والطاولة و من غير أن يكلمَّ أحدهما الآخر وهرعا إلى البيت . لقد كفتهما نصف الليرة تلك مشقة العمل ليوم كامل.
الغزال الذي بشّر بزلزال
أحب غسان كنفاني الكلمة المكتوبة حباً جمَّاً ، بدأ يكتبُ وهو في الصفوف التكميلية ، وما لبث أن اشترك في برنامج إذاعي أعدّتهُ إذاعة دمشق بعنوان " الطلبة " فكتب المسرحيات الموجهة إلى الطلاب وقدّمها أحياناً وأذاعها أحياناً أخرى . وقد ساهمت أخته فائزة في تشجيعه والأخذ بيده .
في تلك الفترة أقامت الجمهورية العربية السورية معرض دمشق الدولي سنة 1955 وقد كان معظم ما عُرض في جناح فلسطين من جهد شاب في مقتبل العمر، خرائط لفلسطين، لوحات فنية، تعريفات جغرافية، ونِسَب الأراضي التي حازها العرب وتلك التي حازها الصهاينة، وجداول بارتفاع معدلات الهجرة اليهودية إلى فلسطين وغير ذلك. كان الشاب المُرحّب بزوار جناح فلسطين في المعرض هو غسان كنفاني.
وفي العام نفسه نال شهادة الثانوية العامة. بعد ذلك عيّن مُدرساً للرسم في مدارس مدينة دمشق. كان يعمل لساعة متأخرة من الليل ، يرسم ويلون ويكتب ويخطط ويصحح رسومات الطلاب ويخلق مع الجميع ساحة حميمة من الألفة والمحبة جعلته خلال وقت قصير الشخصية المحببة والصديق المفضل والمميز أيضاً لدى الجميع . وحين انتقل للتدريس في إعدادية صفد في باب الجابية من أبواب دمشق القديمة دخل قاعة الصف السابع توجه إلى اللوح ، وكتب بخط واضح ارسم منظراً مرعباً .
اجتاحت الطلاب مشاعر متفاوتة أحدهم رسمَ بحراً متلاطم الأمواج وآخر رسمَ دبابة أو طائرة ، وثالث رسمَ وجه وحش بأنياب طويلة حادة وهكذا توالت الرسومات على الطاولة أمام غسان كنفاني الذي كان يتابع كل رسم بانتباه، ثم يشطب عليه ويضيف على ذيله عبارة مقتضبة : مخيف ولكن غير مُرعب. وحين انتهى الجميع من تقديم أعمالهم توجه إلى اللوح و رسم دفتراً مفتوحاً لوّنه بالأحمر وكتب تحته بخط عريض: دفتر الإعاشة . ذلك الدفتر المقيت الذي بموجبه يحصل اللاجئ على قوت يومه.
ومن خلال تدريس الرسم والأشغال لم يُنحّ شعور الاستسلام السائد لدى الفلسطيني فقط بل رسم صورة جديدة, هي ملامح الفدائي, والتي لم تكن واضحة المعالم بعد.عاش غسان كنفاني مأساة شعبه يوماً بيوم ، وكان من خلال احتكاكه اليومي مع طلاب المدارس في المخيمات، يعايش الكثير من معاناتهم ، وحين بدأ كتابة القصة، كانت مستوحاةً من صميم واقعهم ، فعبرت عن همومهم بصدق شديد.
ومع بداية العام الدراسي 1956، عُينَّ مدرساً في الكويت ، وكانت أخته فائزة منذ عام 1951 قد عُينَّت مدرِّسة هناك ، وأما أخوه غازي فقد عُين سكرتيراً في وزارة التربية في الكويت . شهدت فترة إقامته في الكويت إقباله الشديد على القراءة، وهي التي شحنت حياته الفكرية بطاقة عظيمة فكان يقرأ بنهم لا يصدق، كان يقول إنه لا يذكر يوماً نام فيه دون أن ينهى قراءة كتاب. كان يقرأ ويستوعب بطريقة مدهشة، وهذا ما يؤكد ولعه بالكلمة المكتوبة وحبه لها، حيث ترك نتاجاً أدبياً ضخماً إضافةً إلى كتاباته اليومية في الصحافة، وقد كانت فلسطين هاجسه في كل ما كتب.
اكتشف غسان كنفاني مرضه بالسُّكري في الكويت وكان في الثانية والعشرين من عمره، تعايش مع هذا المرض منذ ذلك الوقت. وحين لازم المستشفى في إحدى مرات مرضه انبثقت في مخيلته قصة من أهم القصص العربية وهي " موت سرير رقم 12 " ولعلّها القصة الأولى التي تتحدث عن إنسان الخليج العربي، فبطلها رجل عُماني يعيش في الكويت. والجدير بالذكر، أن ثمَّة مسابقة جرت في الكويت على مستوى العالم العربي لكتَّاب القصة، فنال غسان كنفاني الجائزة الأولى عن قصته " القميص المسروق " وقد اكتشف ولعه بكتابة القصة، مع كونه كتب الشعر ومارس الرسم . وهذا ما ذكره في حكاية " القنديل الصغير" التي كتبها ورسم أبطالها وأهداها إلى لميس حسين نجم التي استشهدت معه إذ قال لها: إنني كاتبُ قصة وسوف أكتب قصة تكبر معك كلما كبرت.
غسان كنفاني في بيروت
قرّر غسان كنفاني ترك الكويت والانتقال ليعيش في بيروت ، مع أن السنوات الست التي قضاها في الكويت ـ حيث كان يُدرّس الفنّ والرياضة ـ كانت جزءاً هاماً من حياته، إذ كتب فيها أجمل قصصه، نذكر منها "موت سرير رقم 12، أرض البرتقال الحزين ، كعك على الرصيف، القميص المسروق " ، وقد أحصيتُ له ستة عشرَ قصة كتبتْ في الكويت .
حين انتقل إلى العاصمة اللبنانية بيروت انغمس في عمله انغماساً كلياً ، وكان قد ترسّخ في حقلي الكتابة والصحافة ، وفي سنة 1963 عُرض عليه منصب رئيس تحرير جريدة المحّرر اليومية، وما لبثت هذه الجريدة أن أصبحت ثاني أكبر جريدة يومية في لبنان واتسع انتشارها في بلدان عربية أخرى . وعمل في مجلة فلسطين الأسبوعية . في هذه الفترة التقى بإحدى الصحفيات الأجنبيات وطلب منها الذهاب إلى فلسطين وأعطاها عناوين بيوت أهله وأقاربه وبعض أصحابه . ومن هناك أرسلت له صحفاً من داخل الأرض المحتلة إلى بيروت . تعرَّف من هذه الصحف على شعراء الأرض المحتلة ، وفي أحد أعداد مجلة فلسطين وضع بخط يده قصيدة الشاعر الفلسطيني محمود درويش " سجّل أنا عربي " على غلاف المجلة.
في أيلول سنة 1961 جاءت طالبة دنمركية من بلادها إلى دمشق ، ومن ثم إلى بيروت كي تتعرف على واقع الشعب الفلسطيني بعد أن سمعت عن القضية العربية الفلسطينية في "جامعة الشعب العالميّة " في الدنمرك . في بيروت قابلتْ غسان كنفاني، حدثها عن أرض فلسطين ، وعن اضطراره إلى مغادرتها سنة 1948 بصحبة أهله وإخوته الخمس .تقول آني كنفاني الدنمركية:
منذُ اليوم الأول للقائي بغسان كنفاني أحسستُ بأنني إزاء إنسان غير عادي، وتطورّت علاقتنا من خلال القضية الفلسطينية إلى علاقة شخصية ، ورغم وضعه الذي لا يبعث على الأمان, فغسان كنفاني لم يكن يملك مالاً أو جواز سفر، وفوق ذلك كان يعاني من مرض السكري, فإننا ما لبثنا أن اكتشفنا أن الموت وحده سوف يكون قادراً على تفريق الواحد منّا عن الآخر. وما هو إلا شهر على وصولي إلى لبنان حتى تزوَّجنا، ولم يندم أي منّا على ذلك. وكان لنا ـ كمعظم الفلسطينيين الآخرين ـ مصاعبنا الاقتصادية وغيرها . وفي كانون الأول عام 1962 لازم غسان كنفاني البيت لافتقاره إلى الأوراق الرسمية ، وأثناء هذه الفترة ، كتب رواية " رجال في الشمس " التي طال صيتها معظم أرجاء العالم العربي ، وأهداها إليّ . استندتْ حياتنا الزوجية إلى الثقة والاحترام والحب، ولذا فقد كانت على الدوام مَهمّة شاقة وجميلة . ولد أول صبيّ لنا في 24 آب سنة 1962 وأسميناه فائز ، ومعناه المنتصر تيمناً باسم جدّه . لقد كنتُ شديدة التأثر بأفكار غسان كنفاني ، غير أنه لم يفرضها أبدأً عليّ ، وهذا ينطبق على أصدقائنا الأجانب الذين اكتشفوا القضية الفلسطينية من خلاله ، واهتم الكثير منهم ، لاحقاً ، بهذه القضيّة في بلدانهم ذاتها . أما علاقتي بعائلة غسان كنفاني فقد كانت حميمة ، إذ رحّبت بي عائلته منذ البداية بكل ما امتلكت من ضيافة ودفء ، وصرتُ أحب أفرادها حبّاً عظيماً . سنة 1965 دُعي غسان كنفاني لزيارة الصين والهند لشرح المسألة الفلسطينية في هذين البلدين، ولا شك أن زيارته تلك قد أثرت فيه تأثيراً عظيماً . وبعد زيارته الثانية إلى الصين، حيث شارك في مؤتمر كتاب آسيا وأفريقيا، كسب طفلنا فائز ابن الأعوام الأربعة طفلة جميلة أسميناها " ليلى " تيمناً ببطلة إحدى أشهر الروايات الشعبية العربية. وليلى إضافة إلى ذلك اسمُ اسكاندنافيٌّ معروف في أوساط أهل المنطقة القطبية الشمالية. أحبَّ طفليه حتّى العبادة ، وغالباً ما كتب عنهما ، على قصر الزمن الذي قضاه مع أولاده ، فقد كان يلعب معهم مراراً ويعلمهم أشياء كثيرة , وقلما فقدَ أعصابه ، ولم يضربهما قطًُّ . تجلى حبه للأطفال في مجموعته القصصية " عالم ليس لنا " الصادرة سنة 1965 وقد أهداها إلى فائز ابنه ولميس حسين نجم ابنة أخته فائزة.
في مجلة الهدف
في خريف عام 1967 عمل غسان كنفاني ضمن هيئة تحرير جريدة الأنوار التي تصدر في بيروت، ثم أصبح رئيس تحرير ملحقها الأسبوعي وغدا من المعلوم أن كل جريدة أو مجلّة يساهم غسان كنفاني في كتابة مقالاتها وافتتاحياتها يلقحها ارتفاع في مستواها وفي نسبة توزيعها. وراحت السفارة الفرنسية وغيرها من السفارات في بيروت تترجم مقالاته في الأنوار، لما تتضمنه من تحليل دقيق . غير أنه قرّر سنة 1969 أن يترك وظيفته الآمنة في جريدة الأنوار لكي يُصدر المجلّة السياسية الأسبوعية " الهدف " ، مع أن مثل هذا القرار عَنى انخفاضاً في الدّخل، لكنه لم يكن يعمل لاعتبارات ماديّة ، فقد كان الإلهام الذي يدفعه للكتابة والعمل المتواصل, هو هذا الشعب الرازح في بؤس المخيمات .
في السادس عشر من تموز سنة 1969 صدر العدد الأول من مجلة الهدف برئاسة تحرير غسان كنفاني وكان على يقين أنّ المجّلة سوف تنقل رسالة واضحة إلى الجماهير العربية والرأي العام العالمي ، وكان على حقّ , فلقد تحولت الهدف في السنتين اللاحقتين إلى واحدة من أفضل المجلاّت السياسية الأسبوعية في العالم العربي قاطبة، واقُتبس الكثير من كلماتها وترُجم عددٌ كبير من مقالاتها و افتتاحياتها إلى لغاتٍ أُخرى .
واستمرّ في الكتابة دون انقطاع، مقدماً لمجلة الهدف الكثير من إسهاماته، وكان إلى جانب الكتابة يرسم كثيراً، ويرسم أكثر ما يرسم الأحصنة . وقد لعب الحصان دوراً مهماً في بعض قصصه ورواياته، كان يقول: إنّ الحصان بالنسبة لنا نحن العرب يرمز إلى الجمال والشجاعة والأمانة والذكاء والصدق والحرية .أما لوحات الأحصنة التي رسم أكثر من عشرين منها في الأعوام الأخيرة التي سبقت رحيله فهي معلقة الآن على جدران بيوت عائلته وأصدقائه في اسكندنافيا والبلدان العربية وعلى جدران وبيوت الحرّاس والأطباء والممرضات الذين تعرف إليهم في مستشفى السجن .سُجن غسان كنفاني في تشرين الثاني عام 1971 بسبب مقال في مجلة الهدف . وكانت إحدى الصحفيات العاملات في مجلة الهدف قد كتبت هذا المقال ونشرته ولم يكن غسان كنفاني في بيروت آنذاك لكنه أعلن أنه يتحمل مسؤولية كل ما يُكتب في مجلة الهدف !
لقد سار إنتاج غسان كنفاني الأدبي جنباً إلى جنب مع نشاطه الصحفي والسياسي, وكان قبل موته بزمن طويل يُُعتبر من أفضل الكتاب العرب والفلسطينّيين . وكان في العادة يبني القصة أو الرواية أو المسرحية في ذهنه، ثمَّ يكتبها كلها في زمن قصير ، مضيفاً إليها تصحيحات قليلة فيما بعد. وكانت جميع مخطوطاته مكتوبة باليد . لقد قتلوه حين كان لا يزال ينمو ويكبر ، وكان خطره على إسرائيل أكبر من أن يتحملوا وجوده .
اليوم يرقد غسان كنفاني ولميس حسين نجم تحت ظلال الشجر في بيروت، والأرض حول قبريهما تربة حمراء كتربة فلسطين التي طردا منها . لقد كان على غسان كنفاني أن يدفع ثمن نضاله من أجل أن يعطي الشعب الفلسطيني الأمل في العودة إلى بيوته في فلسطين. وكانت حياتُه ذلك الثمن.